سورة الشورى والأسس الأولية للمجتمع السياسي
د. عطية عدلانمدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول- أستاذ الفقه الإسلامي
ها هو الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الأوائل في مكة، في مرحلة متوسطة من العهد المكي، مرحلة نزول (الحواميم)، بما تشتمل عليه من وعد ووعيد، وبشارة ونذارة، وتربية وتزكية، وتقوية للعقيدة وتأكيد لقضايا الإيمان، وها هي القاعدة الصلبة التي بناها رسول الله صلى الله عليه وسلم تتسع وتنمو وتتراكم؛ مُشكّلَةً سفينةً متينة تسبح في محيط من الجاهليات التي تلفّ الأرض، ومُكَوّنةً مجتمعًا وليدًا يزداد كل يوم نضجًا، فهل يمكن أن يتحول هذا المكون البشري المتجانس الفريد إلى مجتمع سياسي رشيد، يكون نواة للدولة المنشودة في قابل الأيام؟ هذا هو ما استهدفته سورة الشورى، التي توسطت نصفها الأخير هذه الآية {وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ}.
ركائز المجتمع السياسيّ الرشيد
كل جملة من الجمل المكونة للآية الآنف ذكرها تضع ركيزة من ركائز المجتمع السياسي الإسلامي في أي صورة بدا، أُولى هذه الركائز: التحاكم لشريعة الله (استجابوا لربهم)، ثانيتها: إظهار الشعائر التعبدية في المجتمع (أقاموا الصلاة)، ثالثتها: التكافل الاجتماعي (مما رزقناهم ينفقون)، رابِعتها: اعتماد الشورى في تدبير الشأن العام (أمرُهم شورى بينَهم)، وقبل هذه الآية وبعدها تمتد سلسلة الركائز لتشمل ثلاث ركائز أخرى لا تقلّ أهمية عن تلك الأربعة، أُولاها: رسوخ المعتقد (آمنوا وعلى ربهم يتوكلون)، ثانيتها: مجانبة الخطايا (يجتنبون كبائرَ الإثمِ والفواحش)، ثالثتها: اتباع واحد من طريقين عند استيلاء الغضب، إمّا العفو (وإذا ما غضبوا هم يغفرون)، أو ردّ السيئة بمثلها دون تجاوز (وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مثلُها)، أمّا العدوان -سواء كان ابتداءً أو إجزاءً- فليس مقبولًا {إنّما السبيلُ على الذينَ يظلمونَ الناسَ ويبغونَ في الأرضِ بغيرِ الحقّ}، تلك هي الركائز السبع التي تقيم مجتمعًا سياسيًّا راشدًا.
المرجعية العليا للمجتمع السياسي
لا بدّ لكل مجتمع سياسي -سواء في طوره البسيط أو في طوره المعقد (الدولة)- من مرجعية، تمثل السيادة التي تفردت بالحق في إنشاء الخطاب الملزم، والمجتمع السياسي الرشيد ليس له سوى مرجعية واحدة، قامت السورة بتحديدها بصيغة حاسمة، هكذا {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}، وطفق السياق بعدها يشير إلى مسوّغات اعتماد هذه المصدرية دون غيرها وإسناد السيادة إليها بلا شريك {فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، فالذي فطر الكون واختص وحده بمقاليده ومفاتيحه هو وحده الذي تُعتمَد شريعته مصدرًا يفصل في كلّ ما يختلف فيه أعضاء هذا المجتمع.
ومن اللافت للنظر أن السورة الكريمة -دعمًا لهذه المرجعية السيادية- قد تكرر فيها ذكر الوحي بصورة لافتة، ففي أولها {كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وفي آخرها {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وفي أثنائها {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها} وكذلك {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} وأيضًا {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}، فذكر الوحي -الذي هو المصدر المعصوم لهذه المرجعية العليا- جاء في السورة كثيرًا كما لم يقع في سورة أخرى، مما يؤكد مرجعية المجتمع السياسي الرشيد وهويته أيضًا.
المنهج الوسيط بين العزلة والخلطة
إذا كان المجتمع السياسي الذي أنشأه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ليكون النواة التي ستقام بها الدولة بعد ذلك في المدينة، إذا كان هذا المجتمع محاطًا من جميع أطرافه بالمجتمع الجاهلي، فكيف السبيل إلى تعامل رشيد سديد يكون بعد ذلك عند قيام الدولة نواة لقانون دولي إسلامي، هنا تأتي آية تقيم منهجًا متزنًا، يجمع بين العزلة القاصدة والخلطة المقتصدة، وهي قوله تعالى {فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}، فليس هناك مجال للاختلاط مع المحيط الجاهلي في الأعمال المعبرة عن الهوية الدينية ولا للاستغراق في المحاجّة والجدل العقيم، ويبقى المجال مفتوحًا للدعوة، مع الحرص على أمرين: العدل في المعاملة مع الجميع، والاستقامة على منهج الله دون ميل إلى الأهواء السائدة التي تموج حول المجتمع السياسي الناشئ.
الشورى محور المجتمع السياسي
وتبقى الشورى هي عمود فسطاط المجتمع السياسي الرشيد، وقد عبَّرت الآية بهذا التعبير الذي يقطع السبيل على كل من حاول التهوين من شأنها {وأمرُهُم شورى بينَهم)، فالأمر أمرهم جميعًا، لا يستقل به أحد دونهم، والمقصود بالأمر -في لغة القرآن والسنّة- تدبير الشأن العام، وقد قررت الآية أنه يُدار بالشورى، لكنّ العبارة ألصقت الأمر بالشورى بصورة تُشعر بأن الوضع الطبيعي هو عدم الانفصال بينهما؛ لذلك لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتركها في أي تصرُّف من أمور التدبير يعرض، وعلى الرغم من أن القرار الذي تمخضت عنه الشورى في غزوة أُحد بالخروج للقاء قريش عند جبل أُحد كان أَحد أسباب الهزيمة العسكرية فإن الآية نزلت لتحمي المبدأ السياسي الأصيل من احتمالات التعطيل أو التأويل {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}، لكنّ المهم الذي يثبت صدق قيامنا بأمر الله لنا بالشورى هو كيف يتم تفعيل المبدأ عبر دوائر اتخاذ القرار، دون ممارسات ملتوية تؤدي إلى تحويل المنهج إلى مجرد لافتة براقة مزيفة، كتلك “اللوبيَّات” التي تعدم أخلاقيات الشورى وتعدم كذلك ثمارها، وأخيرًا فهذه محاولة لفهم مقاصد السورة القرآنية منهجًا للتفسير الموضوعي.