مجاعة غزّة.. و”أكل العيش”!

تعيش غزّة بمليونين من فلذات أكبادها تحت خطِّ الحياة؛ لا خطّ الجوع أو الفقر أو الحرب.
لا معيشة، ولا لقمة، ولا شربة، ولا كلمة في حرم المجاعة سوى الخذلان، ولا معنى سوى الحرمان.
تشاهد غزّة مشاهديها، وترقبهم وعيونهم محدقة بها، يتفحصون جلدها المنحوت على عظم، وقلبها المتوقف عن ضخ الدم، وعيونها الشاخصة كأنّها لميتة تسير على الأرض، ولبدنها الذي يبدو الهيكل العظمي أسمن منه، ولا يصدق أحد ما يجري، لا غزّة، ولا العيون الصادقة والدموع الكاذبة، قدرٌ من الوقاحة أكبر من أن تتحمّله شاشة واحدة، وقدرٌ من الألم أكبر من أن يحمله كوكب برمته، وإن حملته هي وحدها.. مجاعة يا عمي، مجاعة.
وبينما هي على ذلك، مسكينةً شريدة وحيدة مجوّعةً شهيدة، تتقافز أمامها بين كلّ فينة وأخرى أطباق من كلّ ما لذّ وطاب، أطعمة من وادٍ آخر، ليس فيها الدود مع الخبز، ولا التّراب مع ذرات بيضاء يشتبه في كونها 50 جرامًا من الطحين مع 50 كليوجرام من الوهم، ترى موائد ممتدة تكفي لإطعام غزّة عشر سنوات، بمحتوى لا ينضب، ولا يتأثر، لا بحرب ولا بمجاعة ولا يحزنون، ولا يحزنون فعليًّا، لا يعنيهم شيء، سوى “أكل العيش”، يفعلون ما يفعلون، ويخبرونك أنّه “أكل العيش” الذي يجبرهم على مواصلة “فلوجات” الطعام، ووصفات الطبخ، وهم يسألونك بعينين جريئتين حتى تكاد تشك في نفسك، وعظامك المنسحقة وهنا: وهل المطلوب منّا أن نجوع أيضًا لنشعر بك؟
والحقيقة أنّ هذا ما حذرنا منه سنوات وسنوات، لا لمجاعة ولا لحرب، وإنما لفراغ الإنسان من أيّ قيمة حقيقيّة، راهنًا نفسه لـ”محتوى” يقدّمه، حتى وإن كان سرابًا، وإن كان معجونًا من فراغ، لا شيء سوى ضجيج كاميرا وضجيج إعجابات وضجيج مشاهدات، ثمّ.. لا شيء، سوى أن بات الإنسان بهيمة مربوطة في حساب على عالمٍ افتراضيّ، استبدله بعالمه الحقيقيّ، حتى إذا انتهى شحن البطارية كأنّما أصيب بغيبوبة، حتى يفيق الهاتف فيفيق هو أيضًا، رهينة لا يملك من أمره شيئًا، فلا يملك موقفًا أخلاقيًّا، ولا رجولة ولا نخوة ولا شهامة، كأنّما كلما نادت غزّة “وامعتصماه”، أجاب الصدى: “محتوااااي”!
في السجن، في زنزانةٍ استطعت فيها لأيام تدبير هاتف وضيع أستطيع منه متابعة ما يجري في الخارج، ومع جوع بسيط في الداخل، أو حرمان من بعض أصناف الطعام، وهو لا شيء مقابل مجاعة غزّة، كانت صور الطّعام تؤذيني، وصور الشّراب وما لذّ وطاب تقلب عليّ المواجع، لا حسدًا لصاحبها، ولا حنقًا على حياته، ولا حقدًا إزاء سلامته، ولكن فتنة في محنتي، وريقًا جاريًا في حلقي دون أن يجد ما يبلله ويجبر لهفته، وعليهِ كانت المحنة أشدّ حين يواجه الحرمان بصور الخارج المترَف، بينما أبدو ضائعًا في متاهةٍ لا قرار لها، أتلهف لصورةٍ قادمة، لا لطعامٍ قادم، صورة تحمل من الطعام عينَ الطعام الذي بين يديّ، فأشعر بأنّني لست وحدي، وأنّ ثمّة من يطعم ما أطعَم!
تخيّلوا، تلك المحنة التي لا تساوي مثقال ذرة عالقة في نعل طفلٍ يعاني بغزّة، كم كانت المشاعر فيها مختلطة حين أرى صورة “عافية” وأنا في سقم السجن والزنازين، فكيف بمن يموت ابنه بين يديه، يهلك الولد، ويعجز والده عن إنقاذه بكسرة خبز، وتعجز أمه عن إعادته للحياة برشفة حليب، ثم يتصفح هذا المكلوم جواله ليرى من يتضامن معه فيفاجأ بسفرة عامرة من المنسف، يتقاطر الجميد فيها على اللّحم، وتلمع حبات الأرز، بينما تلمع في الآن ذاته نهاية الطريق والدنيا، ويبرق الموت من هوّة في السقف، ثم يفاجأ بشوكة تهبط من الأعلى بسرعة جنونية، مع رائحة بارود نفّاذة، ليفيق من المشهد السفليّ على المشهد الحقيقيّ، وهو أن قطع اللّحم تلك التي كانت على المنسف، كانت تخصه هو، بشحمه ولحمه!
سفَلة كثر، لا وصف آخر، يظنون أنّ قلوب المتابعين الوهميّة على منشوراتهم أهم من قلوب غزّة المكلومة، ويرون أن مشاهداتهم المزيّفة أهم من مشاهديهم المجوَّعين، ويعتبرون أن طبيعة محتواهم عذر لهم في البقاء أسرى داخل ذلك المستنقع النتن، وأنّ “أكل عيشهم” أهمّ من مسغبة الغزّيّين وأكلهم أنفسهم، ويجهلون أنّ تلك الأواني ليست وحدها التي تدور، ولكن تدور الأيام أيضًا، بين دناءة “المفاجيع”، وعلو” “المفجوعين”.
فرجاءً، كفوا غزّة أطباقكم، ما دام طبقها فارغًا، وما دامت ملاعقكم مقصورة عليكم، وما دامت نيرانكم مشتعلة تحت الخراف وهم مشويّون فوق نيرانهم، وليذهب “عيشكم” وعيشتكم إلى الجحيم.