الاثنين، 24 مارس 2025

سورة الشورى والأسس الأولية للمجتمع السياسي

 سورة الشورى والأسس الأولية للمجتمع السياسي

د. عطية عدلان

مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول- أستاذ الفقه الإسلامي

ها هو الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الأوائل في مكة، في مرحلة متوسطة من العهد المكي، مرحلة نزول (الحواميم)، بما تشتمل عليه من وعد ووعيد، وبشارة ونذارة، وتربية وتزكية، وتقوية للعقيدة وتأكيد لقضايا الإيمان، وها هي القاعدة الصلبة التي بناها رسول الله صلى الله عليه وسلم تتسع وتنمو وتتراكم؛ مُشكّلَةً سفينةً متينة تسبح في محيط من الجاهليات التي تلفّ الأرض، ومُكَوّنةً مجتمعًا وليدًا يزداد كل يوم نضجًا، فهل يمكن أن يتحول هذا المكون البشري المتجانس الفريد إلى مجتمع سياسي رشيد، يكون نواة للدولة المنشودة في قابل الأيام؟ هذا هو ما استهدفته سورة الشورى، التي توسطت نصفها الأخير هذه الآية {وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ ‌وَأَمْرُهُمْ ‌شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ}.

ركائز المجتمع السياسيّ الرشيد

كل جملة من الجمل المكونة للآية الآنف ذكرها تضع ركيزة من ركائز المجتمع السياسي الإسلامي في أي صورة بدا، أُولى هذه الركائز: التحاكم لشريعة الله (استجابوا لربهم)، ثانيتها: إظهار الشعائر التعبدية في المجتمع (أقاموا الصلاة)، ثالثتها: التكافل الاجتماعي (مما رزقناهم ينفقون)، رابِعتها: اعتماد الشورى في تدبير الشأن العام (أمرُهم شورى بينَهم)، وقبل هذه الآية وبعدها تمتد سلسلة الركائز لتشمل ثلاث ركائز أخرى لا تقلّ أهمية عن تلك الأربعة، أُولاها: رسوخ المعتقد (آمنوا وعلى ربهم يتوكلون)، ثانيتها: مجانبة الخطايا (يجتنبون كبائرَ الإثمِ والفواحش)، ثالثتها: اتباع واحد من طريقين عند استيلاء الغضب، إمّا العفو (وإذا ما غضبوا هم يغفرون)، أو ردّ السيئة بمثلها دون تجاوز (وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مثلُها)، أمّا العدوان -سواء كان ابتداءً أو إجزاءً- فليس مقبولًا {إنّما السبيلُ على الذينَ يظلمونَ الناسَ ويبغونَ في الأرضِ بغيرِ الحقّ}، تلك هي الركائز السبع التي تقيم مجتمعًا سياسيًّا راشدًا.

المرجعية العليا للمجتمع السياسي

لا بدّ لكل مجتمع سياسي -سواء في طوره البسيط أو في طوره المعقد (الدولة)- من مرجعية، تمثل السيادة التي تفردت بالحق في إنشاء الخطاب الملزم، والمجتمع السياسي الرشيد ليس له سوى مرجعية واحدة، قامت السورة بتحديدها بصيغة حاسمة، هكذا {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ ‌فَحُكْمُهُ ‌إِلَى ‌اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}، وطفق السياق بعدها يشير إلى مسوّغات اعتماد هذه المصدرية دون غيرها وإسناد السيادة إليها بلا شريك {فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، فالذي فطر الكون واختص وحده بمقاليده ومفاتيحه هو وحده الذي تُعتمَد شريعته مصدرًا يفصل في كلّ ما يختلف فيه أعضاء هذا المجتمع.

ومن اللافت للنظر أن السورة الكريمة -دعمًا لهذه المرجعية السيادية- قد تكرر فيها ذكر الوحي بصورة لافتة، ففي أولها {كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وفي آخرها {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وفي أثنائها {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها} وكذلك {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} وأيضًا {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}، فذكر الوحي -الذي هو المصدر المعصوم لهذه المرجعية العليا- جاء في السورة كثيرًا كما لم يقع في سورة أخرى، مما يؤكد مرجعية المجتمع السياسي الرشيد وهويته أيضًا.

المنهج الوسيط بين العزلة والخلطة

إذا كان المجتمع السياسي الذي أنشأه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ليكون النواة التي ستقام بها الدولة بعد ذلك في المدينة، إذا كان هذا المجتمع محاطًا من جميع أطرافه بالمجتمع الجاهلي، فكيف السبيل إلى تعامل رشيد سديد يكون بعد ذلك عند قيام الدولة نواة لقانون دولي إسلامي، هنا تأتي آية تقيم منهجًا متزنًا، يجمع بين العزلة القاصدة والخلطة المقتصدة، وهي قوله تعالى {فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}، فليس هناك مجال للاختلاط مع المحيط الجاهلي في الأعمال المعبرة عن الهوية الدينية ولا للاستغراق في المحاجّة والجدل العقيم، ويبقى المجال مفتوحًا للدعوة، مع الحرص على أمرين: العدل في المعاملة مع الجميع، والاستقامة على منهج الله دون ميل إلى الأهواء السائدة التي تموج حول المجتمع السياسي الناشئ.

الشورى محور المجتمع السياسي

وتبقى الشورى هي عمود فسطاط المجتمع السياسي الرشيد، وقد عبَّرت الآية بهذا التعبير الذي يقطع السبيل على كل من حاول التهوين من شأنها {وأمرُهُم شورى بينَهم)، فالأمر أمرهم جميعًا، لا يستقل به أحد دونهم، والمقصود بالأمر -في لغة القرآن والسنّة- تدبير الشأن العام، وقد قررت الآية أنه يُدار بالشورى، لكنّ العبارة ألصقت الأمر بالشورى بصورة تُشعر بأن الوضع الطبيعي هو عدم الانفصال بينهما؛ لذلك لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتركها في أي تصرُّف من أمور التدبير يعرض، وعلى الرغم من أن القرار الذي تمخضت عنه الشورى في غزوة أُحد بالخروج للقاء قريش عند جبل أُحد كان أَحد أسباب الهزيمة العسكرية فإن الآية نزلت لتحمي المبدأ السياسي الأصيل من احتمالات التعطيل أو التأويل {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ‌وَشاوِرْهُمْ ‌فِي ‌الْأَمْرِ}، لكنّ المهم الذي يثبت صدق قيامنا بأمر الله لنا بالشورى هو كيف يتم تفعيل المبدأ عبر دوائر اتخاذ القرار، دون ممارسات ملتوية تؤدي إلى تحويل المنهج إلى مجرد لافتة براقة مزيفة، كتلك “اللوبيَّات” التي تعدم أخلاقيات الشورى وتعدم كذلك ثمارها، وأخيرًا فهذه محاولة لفهم مقاصد السورة القرآنية منهجًا للتفسير الموضوعي.

الخطاب الصهيوني المراوغ (3 - 4)

 الخطاب الصهيوني المراوغ (3 - 4)


د. عبدالوهاب المسيري

7ـ استخدام أسماء مختلفة تشير إلى مسمَّى واحد أو إلى مسميات مختلفة توجد رقعة عريضة مشتركة بينها:

يستخدم الصهاينة اصطلاحات كثيرة مثل «الصهيونية السياسية» و«الصهيونية التصحيحية» و«الصهيونية العمالية» و«الصهيونية الدينية»... إلخ، وهي تيارات صهيونية عديدة يمكن اختزالها في نوعين اثنين: صهيونية استيطانية وصهيونية توطينية. كما يُشار إلى فلسطين المحتلة باعتبارها «اليشوف» أو «إرتس يسرائيل» أو «إسرائيل».

والأسلوبان السابقان في التعامل مع الدوال مسألة تضرب بجذورها في طريقة استخدام المصطلحات في التراث الديني اليهودي حيث نجد أن كلمة مثل «التوراة» لها عدة مسميات.

ـ استخدام مصطلحات لكل منها معنيان؛ معنى

 معجمي مباشر ظاهر ومعنى آخر حضاري كامن:

يستخدم الصهاينة عبارات تبدو بريئة وساذجة إن عُرِّفت حسب مجالها الدلالي المعجمي المباشر وحسب، ولكن معناها الحقيقي يتضح إن عُرِّف مجالها الدلالي من خلال المعجم الحضاري، فتعبيرات مثل «القانون الدولي العام» أو «القانون العام» أو «قانون الأمم» تعني في المعجم اللفظي دلالاتها الحرفية، ولكنها في المعجم الحضاري الغربي في القرن التاسع عشر تعني «قانون الدول الغربية الاستعمارية» أو «القانون الاستعماري الدولي». وينطبق الوضع نفسه على عبارة مثل «شركة ذات براءة»، فمعناها الحرفي أنها "شركة" حصلت على براءة لا أكثر ولا أقل، ولكنها في المعجم الحضاري والسياسي الغربي تعني «شركة استيطانية تشبه الدولة تقوم بنقل كتلة بشرية غربية وتوطِّنها منطقة في آسيا أو أفريقيا لاستغلالها اقتصادياً». ولذا، فإن المعنى الحقيقي (الاستعماري) لكثير من الدوال الصهيونية تتم تخبئته بعناية وراء الكلمات البريئة. ويمكننا أن ندرج مصطلح «السلام» أو «عملية السلام» تحت هذا التصنيف، فكلمة «السلام» قد تُركت مبهمة عامة، وهي يمكن أن تعني: «السلام الدائم» ـ «السلام العادل» ـ «السلام المؤسس على العدل»، ولكنها يمكن أن تعني أيضاً «السلام حسب الشروط الصهيونية/ الأمريكية». وسلوك الإسرائيليين وحلفائهم الأمريكيين يدل على أن المعنى الأخير هو المعنى المقصود.

ـ استخدام دوال تعبِّر عن مدلولات هي دون الحد الأدنى الصهيوني المعلن ولكنها تشير إليه:
لعل أهم الأمثلة على هذا الدال الذي استُخدم في مؤتمر بازل للإشارة للدولة اليهودية، فالصيغة الصهيونية الأساسية تم تعديلها في مرحلة هرتزل وبلفور وأصبحت الصيغة الشاملة بحيث أصبحت الدولة (الوظيفية) جزءاً من هذه الصيغة وهي الإطار المفترض لعملية نَقْل اليهود وتوطينهم وتوظيفهم. وهذا ما عبَّر عنه شعار المؤتمر الصهيوني الأول (1897): "تأسيس الدولة هو الحل الوحيد للمسألة اليهودية". وكان هرتزل قد دوَّن في مذكراته: "اليوم وضعت أساس دولة اليهود". ومع هذا، عند مناقشة القرارات، حاول المجتمعون أن يبتعدوا قدر الإمكان عن استخدام كلمة «دولة» في الإعلان النهائي كيلا يثيروا مخاوف السلطات العثمانية. كما أدرك واضعو البرنامج أن أكثرية اليهود لم تكن موافقة في ذلك الوقت على فكرة أمة يهودية، ومن ثم كانت ترفض فكرة الدولة اليهودية. ولذا، فقد اقترح الزعيم الصهيوني ماكس نوردو كلمة "هايمشتات Heimstatte"، وهي كلمة ألمانية مبهمة قد توحي بمعنى «الاستقلال» ولكنها لا تعني بالضرورة «دولة». ويقول نوردو نفسه إنه استخدم طريقة المواربة أو الدوران حول المعنى واقترح الكلمة المذكورة (ومعناها: بيت ـ دار ـ ملاذ ـ مأوى ـ موطن ـ منزل) كمرادف لكلمة «دولة»، ثم أضاف نوردو قائلاً: "ولكننا جميعاً فهمنا المقصود بها. وقد دلت آنذاك بالنسبة لنا على دولة يهودية كما هي الآن".

وكتب هرتزل في دي فيلت في 9 يوليه يقول: "الاحتمال الوحيد أمامي هو إنشاء «بيت» (ملجأ) بحماية «قانون الأمم» أو «قانون الشعوب" (فولكرشتليخ Volkerrechtlich) لهؤلاء اليهود الذين لا يمكنهم الحياة في مكان آخر". وحين وردت عبارة «قانون الأمم» أثناء المؤتمر، أثارت العبارة كثيراً من النقاش، فالبعض أخذ على هذه العبارة ما تتضمنه من الاعتراف بفكرة تَدخُّل الدول الغربية العظمى. ولذا، اقترح نوردو كلمة «رختليخ Rechtlich» ، أي «قانون» وحسب، فرُفض الاقتراح. وأخيراً، تم التوصل للصيغة المراوغة «أوفينتليخ ريختليخ Offentlich Rechtlich» أي «القانون العام»، فهي أوسع من كلمة «قانون» التي قد يُفهَم منها قوانين بلدية أو مدنية ولكنها لا تحمل معنى السيادة القومية أو أي شكل منها.

ويرتبط هذا الجانب من الخطاب الصهيوني بمقدرة الصهاينة على قبول الدوال (أو الحلول) المعروضة عليهم حتى لو كانت دون الحد الأدنى الصهيوني، مع تأكيد أن القبول أمر مرحلي مؤقت وأن المضمون الحقيقي للدال أو الحل يشير إلى الحد الأدنى الصهيوني الذي قد يكون من الخطر الإعلان عنه أو الإصرار عليه في مرحلة معيَّنة. وحينما أصدرت سلطات الانتداب عملة كانت هذه العملة تحمل كلمة «فلسطين» بالعربية وكلمة «بالستين Palestine» بالإنجليزية، ولكنها لم تحمل سوى حرفي إ. ي بالعبرية (وهما أول حرفين في عبارة «إرتس يسرائيل»)، فقد سُجل الحرفان تأكيداً لحقوق المستوطنين الصهاينة واكتُفي بهما دون العبارة كاملة حتى لا يتم استفزاز العرب. وقد قَبلت القيادة الصهيونية هذا الحل رغم اعتراض بعض "المتشددين"). وحينما عُرض على وايزمان قرار التقسيم (الذي أصدرته اللجنة الملكية عام 1937) فإنه لم يكن يشتمل على صحراء النقب، ولكنه قَبل القرار لأن النقب باقية في مكانها و"لن تجري" (وهو ما يعني إمكانية ضمها فيما بعد). وقد تكرَّر الموقف نفسه من قبل حين أصر بعض الصهاينة على رفض الكتاب الأبيض الأول وعلى عدم القبول إلا بميثاق يهودي، فقال وايزمان انطلاقاً من مبدأ العمل بما هو واقع بدلاً من الإلحاح على الحد الأدنى الصهيوني: "الكتاب الأبيض أمر واقع، ولكن الميثاق ليس كذلك".

وهذه حيل لفظية للمراوغة عمل بها الاستعماريون الإنجليز من قبل، فحين صدر وعد بلفور الذي ينص على أن فلسطين وطن قومي للشعب اليهودي، قَبله الصهاينة كتسوية مرحلية مع الإبقاء على الحد الأدنى. وهي حيلة قَبلها لويد جورج رئيس الوزارة البريطانية إذ قال: "حين يأتي الوقت لمنح فلسطين مؤسسات نيابية ويصبح اليهود الأكثرية المطلقة في السكان، فإن فلسطين ستصبح كومنولث يهودياً"

كتاب "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية"



الخطاب الصهيوني المراوغ ( 1 - 4)


الخطاب الصهيوني المراوغ (2 - 4)



سر بقاء إسرائيل حتى الآن

 سر بقاء إسرائيل حتى الآن




 استمع  


غزة.. اتفاقات وانتهاكات بدعاوى واهية

 غزة.. اتفاقات وانتهاكات بدعاوى واهية



سنظلُّ من أهل الوفاءِ وإنْ هُمو

خانُوا فما اعتدنا على الخِذلانِ

أصبحت اعتداءات الكِيان الإسرائيليّ المحتلّ على المسجد الأقصى ومجازره المتكرّرة على غزة والضَّفة الغربيَّة، تحت ذرائع واهية، جزءًا من المشهد المعتاد في شهرِ رمضانَ. 

فإسرائيل لا تحتاج إلى ذريعةٍ أو مبررٍ أو سبب لتصعيد إرهابها، فهي قوة عدوانية موجهة ذاتيًّا، تستمد أفعالها من نصوص دينية محرّفة، أو من تفسيرها المشوَّه القائم على الأهواءِ.

في صباح 19 يناير الماضي، انتهكت إسرائيلُ اتفاقَ وقف إطلاق النار، وشنَّت هجمات وحشية همجية على مخيمات اللاجئين في غزة، أسفرت عن استشهاد 450 فلسطينيًّا تقريبًا، أغلبهم نساء وأطفال، وأُصيب أكثر من 500 آخرين. لم يكن هذا العدوان الغاشم مفاجئًا، فقد كانت بوادره واضحة منذ أيام. 

حيث إنَّ إسرائيل طالبت بعد انتهاء المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، بالإفراج عن جميع الأسرى لدى «حماس»، رغم أنَّ هذا الشرط لم يكن جزءًا من الاتّفاق الأصلي، بل فرضته إسرائيل لاحقًا في انتهاكٍ صارخٍ لما تمَّ الاتفاقُ عليه. 

ووَفقًا للاتفاق، كان من المفترض أن يتم تبادُل الأسرى في المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار، دون أي شروط إضافية، إلا أنَّ إسرائيل لم تلتزم بذلك.

كان الاتفاق ينصّ على أن عملية تبادل للأسرى ستتم على ثلاث مراحل، تمتد كل مرحلة منها على مدى 42 يومًا، يتم خلالها الإفراج عن جميع الأسرى الإسرائيليين الأحياء أو الأموات، مقابل الإفراج عن آلاف الأسرى الفلسطينيين، من بينهم 600 أسير محكوم عليهم بالسجن المؤبَّد. 

كما شملت بنودُ الاتفاق في مرحلته الثانية وقفًا دائمًا لإطلاق النار، وانسحاب القوات الإسرائيلية بالكامل من غزة، والسماح بدخول كَميات كبيرة من المساعدات الإنسانية، تشمل الغذاء والماء والوَقود والخيام والإمدادات الطبية. وكان هناك مخططٌ لإعادة إعمار غزة خلال خمس سنوات، برعاية وتمويل جامعة الدول العربية بقيمة 53 مليارَ دولار.

ورغم التزام «حماس» بجميع شروط الاتفاق، فإن إسرائيل لم تسمح سوى بدخول 15 ألف شاحنة مساعدات من أصل 60 ألفًا تم الاتفاق على إدخالها إلى غزة في المرحلة الأولى، كما أعاقت وصول معظم المساعدات الإنسانية الأخرى. 

ومع ذلك لم تكن حماس للأسف تملك ورقة ضغط سوى تعليق عملية تبادل الأسرى. 

فقد أثبتت إسرائيل مجددًا أنه لا يمكن الوثوق بوعودها أبدًا، وأن كلمتها لا تحمل أي قيمة أو معنى. فهي تستغل الاتفاقات لكسب الوقت والمماطلة، ولا تنوي الوفاء بوعودها على الإطلاق.

فقد كان الدافع الأساسي وراء اضطرار إسرائيل إلى قَبول الاتفاق هو تحرير أسراها، ولولاهم لكانت قد وسَّعت نطاق الإبادة الجماعية في غزة بالقصف الجوي الأكثر وحشية. أما في المعارك البرية، فقد مُنيت إسرائيل بهزيمة ساحقة، وباتت عاجزة عن تقدير خسائرها، غير أن همجيتها في القصف الجوي كانت بلا حدود ولا رادع.

ويبدو أن الحفاوة التي لقيها نتنياهو خلال زيارته أمريكا في ظل إدارة ترامب قد منحته الضوء الأخضر ليفعل ما يشاء. فبعد العدوان الأخير أكدت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، أن واشنطن كانت على علم مسبق بالغارات التي شنتها إسرائيل على غزة، بل وأشارت إلى أن إسرائيل قد تشاورت مع البيت الأبيض وإدارة ترامب بشأن هذه الهجمات. في تأكيد صريح بشراكة واشنطن الفعلية في الحرب التي تشهدها غزة.

أكاديمي وسياسي وكاتب تركي

@yaktay

قانون: فرِّقْ تسُدْ!

تقطة نظام

قانون: فرِّقْ تسُدْ!


يروي الهنودُ في حكاياهم الشعبية أنَّ الغربان وطيور الِحدآن قد اتفقوا فيما بينهم على تقاسمِ كل شيءٍ يتمُّ الحصول عليه في الغابةِ مُناصفة. وذات يومٍ شاهدوا ثعلباً جرحه الصيادون مُضطجعاً بلا حولٍ ولا قوةٍ تحت شجرة، فتجمهروا حوله!

قالت الِحدآن: سنأخذُ النصف العلوي من الثعلب وقالتْ الغربان: حسناً، نحن سنأخذُ النصف السفلي منه!

عندها قالَ الثعلبُ: كنتُ أعتقدُ أن الغربان أذكى من الحِدآن، ولكن تبيَّن الآن لي العكس، لقد تمَّت خديعتهم، فهم أَوْلى بالنصفِ العلوي الذي فيه رأسي ودماغي، وهما أطيب شيء فيَّ!

فقالتْ الغربان: هذا صحيح، لقد تمَّ خداعنا، يجب أن نأخذَ القسم العلوي من الثعلب وقالتْ الحِدآن: هذا لن يحصل، لقد اخترنا القسم العلوي أولاً!

ونشبَ قتال بين الطرفين، ماتَ فيه الكثير، ومَن خرجَ حياً فقد خرجَ إما جريحاً أو مُنهكاً.

وبقيَ الثعلبُ هناك أياماً يأكلُ ضحايا المعركةِ التي أشعلَها بين الطرفين، حتى استعادَ عافيته وقوته، ومضى في سبيله!

لم يعرف التاريخ مُحاربين أبسل من العرب في الجاهلية، ولكنهم لم يكُن يُحسب لهم حساب إلا لأنَّ بأسهم وبسالتهم كانتْ بينهم، يتقاتلون على الكلأ والملأ، ويغزو بعضهم بعضاً، وتدورُ الحربُ بين أبناءِ العمومةِ أربعين سنةً بسببِ سباقِ النوق، وما خبر داحس والغبراء، وحرب البسوس منكم ببعيد!

وعندما جاءَ الإسلامُ العظيمُ وجمعَ هذه الأمة المُتناحرة تحت رايةٍ واحدةٍ، وأدَّبَ هذه البسالة بأدبِ العقيدة، وحوَّل السيف من غايةِ الحصولِ على العشبِ والماءِ إلى جنةٍ عرضها السماء والأرض، وجعلَ الدم الذي كان يرخصُ للثأرِ يرخصُ لتكون كلمة الله هي العُليا، تحطمتْ بفتراتٍ قياسيةٍ، ومُددٍ قصيرةٍ أمامهم الإمبراطوريات!

وما أشبه اليوم بالأمس، أُمَّةٌ في أعماقها مارد يتوقُ لينبعث من جديدٍ يقفُ في وجهه فرقة وخلافات هنا وهناك يُزكي نارها أعداؤنا ويصبُّون الزيتَ على نارِ خلافاتنا التي لو نظرْنا إليها لوجدناها خلافات تافهة على دُنيا لن تأتينا راكعة إلا إذا كُنا يداً واحدة

الأولى والثانية والثالثة... والحافلة

خواطر صعلوك

الأولى والثانية والثالثة... والحافلة


في أواخر القرن العشرين، كان عبدالله، يعيش على حدود دولتين خليجيتين...

وكان عمله يفرض عليه التنقل من مدينة إلى أخرى في تلك المناطق الصحراوية.

كان يسافر في حافلة تجرها شاحنة مع ثمانية مسافرين في الدرجة الأولى والثانية والثالثة.

عبدالله، كان يشتري على الدوام تذكرة درجة ثالثة، وهي الأرخص.

لم يفهم قط لماذا توجد أسعار مختلفة، فالجميع يسافر معاً، من يدفعون أكثر ومن يدفعون أقل: يسافرون محشورين بعضهم إلى جانب بعض، يتنفسون الغبار ذاته، ويهتزون جميعاً مع اهتزاز الحافلة الدائم.

لم يفهم السبب قط، إلى أن علقت الحافلة في رمال يوم صيفي. عندئذ أمر السائق:

ركاب الدرجة الأولى، يبقون في الحافلة!

ركاب الدرجة الثانية، ينزلون

وركاب الثالثة... عليهم أن يدفعوا الحافلة!

عزيزي القارئ، تسلفت هذه القصة من إدوارد غاليانو، ولكني طورتها لتناسب السياق العربي، حيث وقعت هذه القصة في الاورغواي... ولكنها تناسب كل مكان وزمان، فخلال المئة عام الماضية، مرت البشرية بالعديد من الترندات العالمية التي غيّرت ملامح العالم بشكل جذري، بدأ من حركات الاستقلال التي شهدتها غالبية الدول، إلى جهود التنمية والتقدم في مجالات التعليم والصناعة، وصولاً بظهور الأسلحة النووية وتفاقم مشكلة الألغام الأرضية، والتحديات التي فرضها التغير المناخي على كوكبنا، كما شهدنا ترندات ثورة تكنولوجية غيّرت من طريقة تواصلنا وعملنا، وازداد الوعي بأهمية الصحة النفسية كجزء أساسي من الرفاهية العامة.

بالإضافة إلى ذلك، ظهرت ترندات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي والبيانات الكبيرة، والتحول نحو الطاقة المتجددة، وزيادة الوعي البيئي، وتحقيق المساواة بين الجنسين... نحن أكثر جيل على وجه الأرض عاصر ترندات وتغيرات جذرية.

ومع كل هذه التغيرات والترندات، يبقى الترند الوحيد الذي استمر في الصمود معنا كقيمة أساسية سعى لتحقيقها هذا الجيل هي المساواة، إنها الحلم الذي يتطلع إليه الجميع، الأساس الذي يسعى لتحقيق التوازن بين جميع أفراد المجتمع، بغض النظر عن اختلافاتهم.

الله، هو الملك العادل، الذي يوزّع الأرزاق بأنواعها بين خلقه، وشكل عدلاته في توزيعها، مختلفة تماماً عن توزيعة السائق التي تقول:

ركاب الدرجة الأولى، يبقون في الحافلة!

ركاب الدرجة الثانية، ينزلون

وركاب الثالثة... عليهم أن يدفعوا الحافلة! 

وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله...أبتر.

الأحد، 23 مارس 2025

الذين يخشون خسارة مصر

الذين يخشون خسارة مصر 


وائل قنديل




ليست المصيبة في رسائل مبعوث ترامب الخاص، الصهيوني المخلص ستيف ويتكوف، الموجّهة إلى القاهرة، بأن نسبة البطالة في مصر مرتفعة 45%، أو أقلّ أو أكثر، فلعبة الأرقام والنسب المأوية سهلة، ويمكن الردّ عليها وتفنيدها، وليست الكارثة في أن مصر فقيرة أو تعاني اقتصادياً، بل الكارثة والمصيبة في النظر إلى مصر بوصفها أداةً في يد صانع السياسات الأميركي، يتحكّم فيها ويستعملها، ويكسب إذا امتلكها ويخسر إذا فقدها.

تحدّث مبعوث ترامب إلى "فوكس نيوز" عن مصر في نقطتَين مترابطتَين، إحداهما مهينة، تخدش الكرامة الوطنية وتمسّ السيادة، ومن عجبٍ أن القاهرة الرسمية التزمت الصمت حيالها، فيما انطلقت أبواق إعلامية ترعى في مطابخها تتناول هذه النقطة الفاضحة بوصفها الإيجابية الوحيدة في التصريحات الأميركية، والتي جاءت على النحو الآتي:
 أولاً، "إذا خسرنا مصر فان كلّ الإنجازات التي تحقّقت في التخلّص من حسن نصر الله ويحيى السنوار ستذهب أدراج الرياح. مصر نقطة ملتهبة، فكلّ ما تحقق لنا في المنطقة، مثل التخلّص من السنوار ونصر الله وغيرهما، قد ينقلب رأساً على عقب لو خسرنا مصر". 
ثانياً، "مصر وضعها مقلق، فمعدّلات البطالة مرتفعة، وتصل بين الشباب حتى نسبة 45%، ولا يمكن لبلد أن يبقى بهذا الوضع، وهم مفلسون إلى حدّ كبير، ويحتاجون للكثير من العون. ولو وقع حدث سيء بمصر فسيأخذنا ذلك إلى الوراء كثيراً".

تكمن المأساة في النقطة الأولى، إذ تبدو إدارة ترامب شديدة الوضوح والوقاحة والإهانة في هذه المسألة، حين يوجه ستيف ويتكوف، مبعوث ترامب الخاص والمكلّف بملفّ غزّة، رسائله الصريحة المباشرة عبر "فوكس نيوز" بالتزامن مع التوغل البرّي الإسرائيلي في غزّة، إذ "كلّ ما تحقّق لنا في المنطقة، مثل التخلص من السنوار ونصر الله وغيرهما، قد ينقلب رأساً على عقب لو خسرنا مصر". 
الثابت يقيناً أن أحداً لم يكسب من اغتيال الشهيدين يحيى السنوار (في غزّة) وحسن نصر الله (في بيروت) سوى العدو الصهيوني، ومعه الراعي أو الشريك الأميركي في المعركة، وليس من معنى للربط بين هذا المكسب وخسارة هذا الثنائي مصر سوى أن احتفاظ الإدارة الأميركية بامتياز إدارة الدور المصري وتوجيه واستعماله يبقى عاملاً رئيساً في انتصارات العدوان الإسرائيلي الأميركي، التي يضع مبعوث ترامب التخلّص من السنوار ونصر الله في صدارتها.

تصريحات بكلّ هذه الوقاحة كانت تستدعي الغضب المصري، رسمياً وشعبياً، لأنه يضع  مصر في نظر واشنطن وتلّ أبيب القطعة الأهم في الآلة الأميركية التي تعمل لتوسيع هيمنة الاحتلال الإسرائيلي على المنطقة، من خلال استئصال مشاريع مقاومته من جذورها، فأيّ دور كان لمصر، ألمح إليه ويتكوف من دون أن يصرّح، في تحقيق المكسب الإسرائيلي الأميركي الأكثر أهميةً (التخلّص من السنوار ونصر الله)؟ وكيف ولماذا سكتت القاهرة أمام هذه الإهانة ولم تعقّب، ولديها وزير خارجية غزير البيانات من كلّ شكل ولون، إدانةً واستنكاراً وتثميناً وترحيباً، على مدار الساعة.    
هذا عن الجزرة، أمّا عن العصا فقد وضعها مبعوث ترامب، الصهيوني جدّاً، هكذا: "نسبة البطالة في مصر تصل إلى 45% والبلد مفلسٌ ويحتاجون إلى الكثير من المساعدة، ومن الصعب على بلد البقاء على هذا النحو". 
وتزداد الإهانة حين تكون هذه الرؤية متطابقةً مع ما طرحه رئيس حكومة الاحتلال السابق وزعيم المعارضة الحالي، يئير لابيد، قبل ثلاثة أسابيع، "النظام المصري حليفٌ موثوقٌ لنا، وهو مسؤولٌ عن إطعام 120 مليون مصري، إن لم ننقذ نظام السيسي من فشله الداخلي فقد يسقطه الشعب المصري، وتكون مصيبة على إسرائيل". 
ما يدعو إلى الأسى أن السياسة الرسمية المصرية لا تكفّ عن الإشادة بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، وإسباغ صفاتٍ عليه مثل صانع السلام ورجل الحلّ والعقد الوحيد في المأساة الفلسطينية، فضلاً عن التعلّق بأحبال الشراكة المزعومة معه في إيجاد مخرجٍ من هذه المذبحة، بينما الواقع ينطق إنه فيما يخصّ الرغبة المتوحّشة في إبادة غزّة وتهجير شعبها وإعادة احتلالها، فإن ترامب هو نتنياهو، بل إن ترامب يبدو سابقاً بخطوة في مشروع تفريغ القطاع من سكّانه، وتوسيع جغرافيا الكيان المحتل.
أمّا ما يدعو إلى الأسف حقّاً أن يتلقّف معارضو النظام المصري هذه التصريحات المهينة بالتهليل لها باعتبارها انعطافاً تاريخياً في علاقة واشنطن بالنظام، أو مقدّمةً لرفع الغطاء عنه والبحث عن بديلٍ منه، إن لم ينفّذ الأوامر، فأيّ بديلٍ يمكن أن يكون وطنياً ومحترماً حين يأتي بإرادتي واشنطن وتلّ أبيب، ووفقاً للمواصفات الخاصّة بهما؟