السبت، 6 ديسمبر 2025

إستراتيجية خامنئي الجديدة في إيران

 إستراتيجية خامنئي الجديدة في إيران


صحفي وباحث تركي متخصص في الشأن الإيراني.


دخلت إيران حقبة جديدة تصاعدت فيها القومية بعد حرب مع إسرائيل استمرت 12 يوما. ويمكن القول إن هذه الحقبة أصبحت أكثر وضوحا عندما طلب آية الله خامنئي، في أول ظهور علني له بعد انتهاء الحرب الإيرانية الإسرائيلية خلال مراسم عاشوراء في 5 يوليو/تموز 2025، من الرادود (المنشد) محمود كريمي قراءة نشيد "يا إيران".

كانت إسرائيل قد وضعت خطة من مرحلتين لإسقاط النظام في إيران. تضمنت المرحلة الأولى من الخطة، التي تم تنفيذها بشكل متزامن، تدمير الأهداف العسكرية الإيرانية عبر هجمات العملاء في الداخل، وغارات الطائرات الحربية الإسرائيلية.

أما المرحلة الثانية، فكانت تهدف إلى إظهار ضعف إدارة طهران لتحريض المعارضين داخل إيران، وخلق فوضى داخلية تضع الشعب في مواجهة الجيش، مما يضمن أن تؤدي هذه العملية إلى تغيير النظام في إيران.

كشفت الحرب أن الدراسات التي أجرتها إسرائيل حول المجتمع الإيراني كانت ناقصة وخاطئة. فقد بنت إسرائيل إستراتيجيتها بالكامل على تقييم مفاده أن المجتمع الإيراني سيرى في الهجمات العسكرية فرصة وسيتحرك ضد النظام.

ومع ذلك، فضل الشعب الإيراني وضع جميع انتقاداته ومواقفه المعارضة للنظام جانبا، واختار الوقوف بجانب النظام والتحرك بموقف قومي، مفضلا ذلك على أن يصبح مصيره مثل سوريا، والعراق، واليمن، ولبنان.

أدركت القيادة الإيرانية خلال فترة الحرب هذه أن قوتها الحقيقية في مواجهة الهجمات الإسرائيلية والأميركية تكمن في الوحدة المجتمعية. وفي هذا الإطار، قررت إبراز الخطاب القومي الذي كانت قد همشته بعد ثورة 1979 بحجة أنه يذكر بعهد الشاه (البهلوي)، بل وقررت إبراز الرموز العائدة لإيران القديمة.

مع طلب آية الله خامنئي من الرادود محمود كريمي قراءة نشيد "يا إيران"، أصبح من الواضح أن التوجه نحو خط قومي هو الخيار المفضل

تراجعت خطابات "الصحوة الإسلامية" و"الجامعة الإسلامية" (Pan-Islamist) التي شكلت السياسة الإيرانية منذ عام 1979 إلى الخلفية، وبدأ يحل محلها خطاب "القومية الإيرانية"، وتماثيل أبطال الحقبة الإيرانية القديمة.

إن العملية التي برز فيها خطاب القومية الإيرانية، والتي بدأت بأمر آية الله خامنئي بقراءة نشيد "يا إيران"، تمتلك القوة للتأثير ليس فقط على السياسة الداخلية لإيران، بل على سياستها الخارجية أيضا.

القومية في إيران

توجد في إيران مقاربات وتيارات قومية مختلفة تتأثر بالأحداث التاريخية والاجتماعية والمعتقدات الدينية والمذهبية. 

ويمكن جمع القومية في إيران تحت ثلاثة عناوين رئيسية:

1- القومية الفارسية

يتخذ هذا التيار القومي من حقبة ما قبل الإسلام في إيران أساسا له، ويدافع عن القومية الإيرانية من خلال قيم العصر الإيراني القديم السابق للإسلام.

يذكر ضياء إبراهيمي (Zia-Ebrahimi)، الأستاذ في "كينغز كوليدج لندن"، في كتابه "ولادة القومية الإيرانية: العرق وسياسة التمييز"، أن القومية السائدة في إيران هي "قومية انسلاخية" (Dislocative Nationalism)، ويعدد خصائص هذه القومية كالتالي:

  1. الأمة الإيرانية تمتلك تاريخا متواصلا لا يقل عن 2500 عام.
  2. فترة ما قبل الإسلام هي العصر الذهبي لإيران.
  3. العرب والإسلام هم المسؤولون عن تخلف إيران.
  4. الإيرانيون ينتمون للعرق الآري وهم أقرباء للأوروبيين.

تحمل القومية الفارسية في جوهرها عداء للأتراك والعرب. وتعتبر أن أسلمة إيران هي تأثير العرب على الثقافة الإيرانية. وتُحدد التفاعل مع الدول الغربية كسياسة أصح وأنسب للتاريخ الإيراني، بدلا من تطوير علاقات جيدة مع دول الجوار. وتدافع عن ضرورة عودة إيران إلى قوتها القديمة في المنطقة الممتدة من شبه القارة الهندية إلى البحر المتوسط.

2- القومية التي لا تعطي الأولوية للهوية العرقية

دافع الكادر الذي قام بالثورة الإسلامية في إيران، وعلى رأسه آية الله الخميني، بعد الثورة، عن فكرة أنه لا فضل لأمة أو قوم في الإسلام. وابتعدوا عن شخصيات الأساطير الإيرانية القديمة؛ لأنها تذكر بعهد الشاه، وأبرزوا سياسة وخطاب "الصحوة الإسلامية" و"الجامعة الإسلامية". ورغم أن هذا النهج وصل إلى نقاط راديكالية في بدايات الثورة، فإنه لانَ مع مرور الوقت.

تمت محاولة بناء الهوية الإيرانية عبر خطاب سياسي يقف فيه "المستضعفون" ضد "المستكبرين". وتُعتبر دعوة ممثلي المنظمات المسلحة من مختلف أنحاء العالم إلى طهران في الثمانينيات، وعدم وجود كلمة "إيران" في اسم "جيش حراس الثورة الإسلامية" (الحرس الثوري)، أمثلة لافتة للنظر في هذا الصدد.

بالنسبة لأصحاب هذا النهج، القومية ليست تمجيد الهوية العرقية، بل هي تقوية إيران وتقدمها من جميع النواحي.

اختارت إيران أن تتوحد داخليا بأساطيرها القديمة بدلا من أن تنقسم تحت الضغط الخارجي

3- القومية التوحيدية

يمكن اعتبار هذه القومية بمثابة القومية التي تُقرب وتُوحد بين النوعين الآخرين. تسعى هذه القومية، التي يُعبر عنها بـ"القومية الدينية-الوطنية"، إلى الجمع بين إيران ما قبل الإسلام وإيران ما بعد الإسلام.

في تقييم المفكر وعالم الاجتماع الإيراني الشهير علي شريعتي للقومية، لا أهمية للعرق والدم والأرض. يعتبر علي شريعتي القومية شخصية وهوية دينية، ويقيم إيران ما قبل الإسلام وما بعده ككلٍ واحد. وقد شرح شريعتي أفكاره حول القومية بالتفصيل في كتابه "التعرف على الهوية الإيرانية الإسلامية".

ووفقا لآية الله مرتضى مطهري، الذي يُعتبر أحد منظري الثورة الإسلامية الإيرانية، فإن إيران ما قبل الإسلام وما بعده تُشكل القومية الإيرانية والهوية الوطنية.

يدافع مطهري عن أن الإسلام ضد الجوانب السلبية للقومية. وفي كتابه "الخدمات المتبادلة بين الإسلام وإيران"، الذي يتناول الهوية الإيرانية والعلاقة بين إيران والإسلام ويقدم وجهة نظر مختلفة للهوية الوطنية الإيرانية، يورد العبارات التالية:

"بما أن الأمة الإيرانية ذكية وتمتلك تقليدا حضاريا، فقد مالت إلى الإسلام وخدمته أكثر من الأمم الأخرى. ولأن الإيرانيين قريبون من روح الإسلام ومعناه، فقد أظهروا تقاربا مع أهل البيت أكثر من غيرهم".

كذلك، فإن القومية التي دافعت عنها "حركة حرية إيران"، التي أسسها مهدي بازركان، وإن أظهرت بعض الاختلافات بعد عام 1997، هي في الواقع قومية بعيدة عن العنصرية وتقيم إيران ما قبل الإسلام وما بعده معا.

التوجه نحو القومية

أدركت إيران خلال الحرب التي استمرت 12 يوما مع إسرائيل أن القوة الحقيقية للدولة ليست في الدبابة أو المدفع أو البندقية، بل في المجتمع الذي حقق وحدته وتماسكه.

ومع طلب آية الله خامنئي من الرادود محمود كريمي قراءة نشيد "يا إيران"، أصبح من الواضح أن التوجه نحو خط قومي هو الخيار المفضل.

ولكن أي قومية؟

نشيد "يا إيران"، الذي طلب آية الله خامنئي قراءته، كُتب في بدايات الحرب الإيرانية العراقية، وغناه المغني الإيراني الشهير محمد نوري. كُتب النشيد لإبقاء المشاعر الوطنية للشعب الإيراني حية، ولرفع معنويات الجنود. وبالتالي، لم يختر خامنئي نشيد "يا إيران" بشكل عشوائي، ولم يطلب قراءته عبثا.

وعقب خطوة آية الله خامنئي هذه، نُصب تمثال في ميدان انقلاب، الذي يتمتع بأهمية رمزية لإيران وتُقام فيه العديد من الاحتفالات الرسمية، وعلى رأسها ذكرى الثورة الإسلامية، يُظهر الإمبراطور الروماني فاليريان وهو يركع أمام الملك الساساني شابور الأول.

في عام 260 ميلادية، خرج الإمبراطور الروماني "ليسينيوس فاليريانوس" (توفي 260) بجيش كبير في حملة نحو الشرق لوقف تقدم الملك الساساني شابور (توفي 270) في سوريا وبلاد الرافدين. لكن تفشي الطاعون في الجيش قبل بدء الحرب أدى إلى وفاة آلاف الجنود. واجه الجيش الروماني الضعيف القوات الساسانية في محيط الرها (أورفا) وحران وتعرض لهزيمة ثقيلة، خاصة بتأثير الفرسان المدرعين. ولإنقاذ ما تبقى من جيشه، ذهب فاليريانوس مع وفد صغير إلى المعسكر الساساني للتفاوض على السلام مع شابور، وتشير المصادر الرومانية إلى أنه تم أسره هناك نتيجة "خدعة" أو "فخ". بينما سجلت المصادر الساسانية أن شابور أسر فاليريانوس بيديه شخصيا.

قضى فاليريانوس، باعتباره الإمبراطور الروماني الأول والوحيد الذي أسره العدو، بقية حياته في الأراضي الساسانية، وتم تخليد مشهد ركوعه بينما يمتطي شابور حصانه في النقوش الصخرية في نقش رستم.

التمثال الذي نُصب في ميدان انقلاب بالعاصمة طهران يشير إلى هذه الحادثة التاريخية. وبعد نصب التمثال، تم إعداد صور تُظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو والرئيس الأميركي ترامب وهما يركعان أمام آية الله خامنئي، وتم تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي.

وقبل ذلك بفترة قصيرة، تم تدشين تمثال ضخم يصور صراع رستم، أحد أهم شخصيات الأساطير الإيرانية، مع التنين، في مدينة شاهين شهر التابعة لأصفهان وسط مراسم احتفالية.

وكذلك، وبينما كانت الاشتباكات مستمرة، نُصب تمثال لرامي السهام آرش، أحد أبرز أبطال الأساطير الإيرانية، في ميدان ونك، الذي يُعد منطقة حيوية أخرى في طهران.

تُقيَم هذه التطورات، التي حدثت تحديدا خلال الحرب الإيرانية الإسرائيلية وبعدها، على أنها محاولة من آية الله خامنئي والدولة الإيرانية لجمع الشمل الإيراني حول الثورة الإسلامية والتاريخ الإيراني.

وبناء على ذلك، تهدف إيران، من خلال إبراز الأساطير الإيرانية ما قبل الإسلام التي ابتعدت عنها في السنوات الأولى للثورة بحجة تذكيرها بعهد الشاه، إلى جمع الشعب الإيراني حول "القومية التوحيدية" التي تجمع بين إيران ما قبل الإسلام وإيران ما بعد الإسلام.

الخاتمة

اضطرت إيران، في ظل ظروف صعبة واستثنائية مثل الحرب والتخريب والاختراقات الاستخباراتية، إلى تفضيل التوجه نحو خط قومي يجمع بين إيران ما قبل الإسلام وإيران ما بعده.

ورغم أن سياسة إيران القومية الجديدة لها مكاسب، فإنها تنطوي أيضا على بعض المخاطر والتهديدات.

إن توجه الدولة الإيرانية رسميا نحو "القومية التوحيدية" قد يفتح مجالا واسعا وخطيرا لتوسع وتعزيز تيار "القومية الفارسية" غير المتصالح مع مبادئ الثورة الإسلامية وتاريخ إيران ما بعد الإسلام.

إذ تم رصد تزايد قوة الإيرانيين الذين يتبنون القومية الفارسية في وزارات ومؤسسات حساسة مثل وزارة الخارجية الإيرانية، والجيش الإيراني، والحرس الثوري، ووزارة الدفاع خلال فترة رئاسة حسن روحاني.

ويُذكر أن تأثير الدبلوماسيين والبيروقراطيين الذين يتبنون القومية الفارسية داخل الدولة في نشوب التوترات مع تركيا والعالم العربي، وعلى رأسها تدهور العلاقات مع أذربيجان، كان أكبر مما هو متوقع.

وفي حال عدم إدارة العملية بشكل جيد، فمن المحتمل أن تقوى شوكة هياكل مثل أنصار الشاه ومنظمة مجاهدي خلق داخل إيران، ارتباطا بالقومية الفارسية.

ولكن إدارة العملية بخطوات وخطابات صحيحة قد تحقق الوحدة والتماسك الذي تحتاجه إيران في هذه الفترة الصعبة التي تمر بها.

إضافة إلى ذلك، فإن التوجه القومي الجديد سيؤدي إلى تقليل دعم واهتمام إيران بهياكل مثل حزب الله، والحشد الشعبي، وأنصار الله مقارنة بالسابق. وبالفعل، نلاحظ منذ شهر يونيو/حزيران تراجع اهتمام إيران بحزب الله والهياكل الأخرى، واستخدامها لغة أكثر اعتدالا في تصريحاتها المتعلقة بالمنطقة.

كذلك، وبسبب العملية الصعبة التي تمر بها، ستوقف إيران انفتاحها الخارجي الذي بدأ مع الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وستوجه كامل قوتها وطاقتها نحو الداخل.

وبتوجيه طاقتها نحو الداخل، وبمقتضى توجهها السياسي الجديد، ستدخل إيران في تفاعل أكثر إيجابية مع دول المنطقة، لزيادة حلفائها وضمان دعم جيرانها في هذه المرحلة الصعبة التي تمر بها.

الجمعة، 5 ديسمبر 2025

الإخوان المسلمون

الإخوان المسلمون
طه كلينتش

أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب توجيهاً إلى مسؤولي البيت الأبيض طلب فيه إعداد تقرير ودراسة حول ما إذا كان يمكن تصنيف بعض فروع جماعة الإخوان المسلمين (الإخوان) كـ "تنظيم إرهابي". ووفقاً للتفاصيل التي تداولتها الصحافة الأمريكية، سيقوم كل من وزير الخارجية ماركو روبيو، ووزير الخزانة سكوت بيسينت، ومدير الاستخبارات الوطنية تولسي غابارد، بتقديم تقرير شامل حول الموضوع إلى ترامب خلال 30 يوماً.

وأفادت التقارير أن ترامب طلب التحقيق فيما إذا كانت فروع الإخوان في مصر ولبنان والأردن تشكل تهديداً للمصالح القومية للولايات المتحدة وسلامة المواطنين الأمريكيين. وإذا خلص التقرير إلى ضرورة إعلان الإخوان "تنظيما إرهابيا"، فسيتم تطبيق سلسلة من الحظر على عدد كبير من الأسماء، بدءاً من العقوبات الاقتصادية وصولاً إلى قيود السفر.

وقبل أسبوع، أعلن حاكم ولاية تكساس جريج أبوت رسمياً جماعة الإخوان"منظمةً إرهابية أجنبية ومنظمةً إجرامية دولية"، مفعّلاً بذلك سلسلة من القيود القانونية على مستوى الولاية. 

وفي هذا الإطار، مُنعت بعض الكيانات الإسلامية الأمريكية التي يُزعم ارتباطها بالإخوان من شراء أراضٍ في تكساس، أو بناء مساجد أو مراكز ثقافية إسلامية أو مدارس. 

وفي حال خلص التقرير الذي سيُقدَّم لترامب إلى أن الإخوان يجب أن يصنفوا "منظمة إرهابية" من قبل الإدارة الأمريكية، فمن الممكن تطبيق حظر وقيود مماثلة بهدف تضييق نشاط التشكيلات الإسلامية في الولايات المتحدة.

تأسست جماعة الإخوان عام 1928 في مدينة الإسماعيلية في مصر، على يد حسن البنّا الذي كان يبلغ حينها 22 عاماً هو وستة من رفاقه. ورغم مرور قرابة من قرن على ظهورها على الساحة التاريخية، ما تزال الجماعة تُعتبر"تهديدًا" من قِبل عدد كبير من دول العالم. إن قدرة الإخوان على البقاء في صدارة الاهتمام حتى اليوم، رغم ما تعرضت له طوال هذه المرحلة من هجمات وتضييق وإقصاء وشيطنة، تشكّل دليلاً واضحاً على مدى عمق جذور هذه الجماعة.

لقد كان الإخوان المسلمون على مر تاريخهم الطويل حركة تتجنب دوماً العنف والانتفاضات المسلحة وأساليب الاغتيالات وما شابهها،مما أدى إلى انشقاق عناصر متطرفة داخلها وتشكيل تنظيمات أخرى لهذه الأسباب تحديدًا. إن الموقف الإيجابي الذي تبنته جماعة الإخوان في نقاط تثير الجدل في الأوساط الإسلامية، مثل الديمقراطية، وحق الشعوب في تحديد الحكم، وتداول السلطة عبر الانتخابات، أدى إلى تكفير التنظيم من قبل بعض الأوساط ذات التوجه السلفي في العالم العربي والإسلامي، وفي الوقت نفسه، ترى بعض الأنظمة الحاكمة في العالم العربي والإسلامي الإخوان "منافسا خطيرا" للسبب ذاته. ويكمن هذا المنظور في النهج القاسي والسلبي الذي تتبعه أنظمة مصر والسعودية والإمارات تجاه التنظيم. وبهذه الحالة، فإن الإخوان تشكيل "لا يُرضي هذا ولا ذاك". لكنها لا تغيب عن الأجندة، ولا يمكنها أن تغيب.

ومن الجوانب الأخرى اللافتة هو أنه باستثناء التجربة التي لم تدم حتى سنة واحدة في مصر، ليس لدى الإخوان أي خبرة سابقة في السلطة أو أي سابقة لما سيفعلونه في أي قضية مُعينة بمجرد وصولهم إلى السلطة. فحركة النهضة التونسية، المنسوبة إلى الإخوان اتبعت نهجًا ليبراليًا تقريبًا. أما حماس، فقد تحولت إلى حركة مقاومة مسلحة أكثر من كونها كياناً سياسياً، بسبب الوضع الاستثنائي الذي أوجده الاحتلال الإسرائيلي. وفي لبنان، لم يُتح وجود حزب الله الفعلي للإخوان مجالاً للإخوان، خاصة في الفترة الأخيرة. أما في الأردن، وبسبب هيمنة النظام الملكي المطلقة، كان الإخوان مجرد فاعل ثانوي داخل النظام.

وبالتالي، فإن كل الاستنتاجات حول الأداء الذي سيقدمه الإخوان الذين يُخشى منهم ويُبالغ في التحذير تجاههم ويُعادَون كل هذا، إذا وصلوا إلى السلطة بالصدفة، هي مجرد تكهنات وتفسيرات. بل يمكنني أن أقول في إطار ملاحظاتي واتصالاتي الشخصية: لا يوجد مشروع سياسي ملموس ومستدام في ذهن أعضاء الإخوان. فالضغوط على التنظيم شديدة وكثيفة لدرجة أن الأولوية القصوى حالياً مُنحت كلها للبقاء على قيد الحياة.

وأختم بالقول ذاته الذي أقوله كلما طُرح موضوع الإخوان:

إن الأنظمة الحاكمة في العالم العربي تضيع فرصة تاريخية باستبعادها لمثل هذا التنظيم المتجذر. 

فإذا أُدمج الإخوان في النظام

فنزويلا حائط ترامب القصير

فنزويلا حائط ترامب القصير

جعفر عباس

منذ أسابيع وسلاح الجو الأمريكي يقصف كل زورق يمر بمحاذاة الشواطئ الفنزويلية، بزعم أن عصابات تهريب المخدرات إلى الولايات المتحدة تتخذ من فنزويلا نقطة انطلاق.. إكس


يقال: فلان حائط قصير، أي لا قيمة له ولا اعتبار، والكل يحتقره، ولا يأبه له، ولا يحترمه، ويقفز ويتطاول عليه، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب "مزنوق"، وعلى ذمة قاموس المعاني فالزُنق هو كلّ رباط في جلدة تحت الفكّ الأسفل من الدّابة يُشدّ إلى الرَّأس. أو سَير تحت الذقن يثبِّت الخُوذة في الرَّأس، ومزنوق هنا تعني أنه في ورطة وحيص بيص. ليس بسبب التخبيص في أمر التعريفات الجمركية الشاملة لكل بلدان الكرة الأرضية، وليس لأنه ما إن يفتح فمه حتى يفضح جهله بأمور الحكم والسياسة والعلاقات الدولية، ولكن لأن العاهر الفاجر جيفري ابستين يشهد عليه من قبره، بأنه كان ضالعا معه في علاقات حميمة مع فتيات قاصرات، وتم حتى الآن تسريب 20 ألف رسالة الكترونية تبادلها ابستين مع مختلف قرناء السوء، وشريكته في الإيقاع بالقاصرات غيلين ماكسويل، وفي العشرات منها ترد معلومات بأن ترامب كان زبونا لحفلات ابستين الماجنة، وما تلك الرسائل إلا قمة جبل الجليد، لأن الكونغرس الأمريكي طالب بنشر "ملفات" ابستين كاملة، وترامب هنا هو المريب الذي يكاد يقول: خذوني.

في لحظات الزنقة يتعمد الحكام الفاشلون اختلاق أزمات وأعداء خارجيين، ومنذ أسابيع وسلاح الجو الأمريكي يقصف كل زورق يمر بمحاذاة الشواطئ الفنزويلية، بزعم أن عصابات تهريب المخدرات إلى الولايات المتحدة تتخذ من فنزويلا نقطة انطلاق، وأن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو شخصيا يمارس الاتجار في المخدرات، ثم عقد ترامب اجتماعا مع القيادات العسكرية في بلاده لدراسة ضرب فنزويلا في العمق، من منظور أنها الحائط القصير، لكون مادورو، وهو من نوع وفصيلة مدمر ليبيا معمر القذافي، يعشق الكاميرات وظل على مر سنوات طوال يجاهر بمعاداته لأمريكا، ولأنه يفتقر إلى الذكاء وفضيلة الحياء، فقد أصدر ترامب عفوا عن الرئيس الهندوراسي السابق خوان أورلاندو هيرنانديز، والذي كان يقبع في سجن أمريكي وعلى رقبته حكم بالسجن لـ 45 سنة، عقب إدانته بالتورط في تهريب أطنان من المخدرات الى السوق الأمريكية.

وما يقال عن إن ترامب يستهدف فنزويلا طمعا في ثروتها النفطية، به الكثير من حسن الظن بترامب، وفيه "تعمية" لدوافعه المشار إليها أعلاه، لشن عدوان على فنزويلا، فالولايات المتحدة هي أكبر منتج للنفط في العالم  (14,8 برميل يوميا مقابل 10,8 للسعودية، و10,7 برميل لروسيا)، ومنذ عام 1975 تحتفظ الولايات المتحدة في خزانات تحت الأرض سعتها ب716 مليون برميل نفط في ولايتي أريزونا وتكساس بمسمى المخزون الاستراتيجي. وبرغم كل ذلك تستورد الولايات المتحدة بعضا من حاجاتها النفطية من كندا  والمكسيك والسعودية، ولو كان ترامب قلقا حول توفّر البترول لمصانع وسيارات وآليات بلاده لما عامل كندا والمكسيك باستعلاء واستخفاف.

هنالك مثل شعبي سوداني، يقول ما معناه أن المرأة التي تعجز عن معاقبة زوجها، أو التصدي له في موقف ما، تعتدي على حماتها (من باب فش الغل)، ولو كان ترامب معنيا حقا بحماية شعب بلاده من آفة المخدرات، لعمل بمبدأ الدار قبل الجار، وعمل على تنظيف داره (بلاده) من عصابات توريد وتوزيع المخدرات، فالأمريكان أكثر شعوب الأرض استهلاكا للمخدرات، ويقدِّر المكتب الوطني لمراقبة المخدرات أن عام 2013 وحده شهد بيع كوكايين وهيرويين وأقراص هلوسة قيمتها 100 مليار دولار، وأن مطار لوس انجلوس الأمريكي هو المحطة المركزية الأولى في العالم لاستيراد وتصدير المخدرات، وأن 195 مدينة أمريكية بها عصابات منظمة تتولى تسويق المخدرات المجلوبة عبر المكسيك، وعلى رأسها الفنتانيل الذي أودى بحياة 80,411 أمريكي في عام 2021.

ترامب الذي يبحث عن قضية تصرف أنظار الرأي العام الأمريكي عن فضائحه الأخلاقية، وجد في فنزويلا حائطا قصيرا، لأنها مصنفة منذ صار هوغو شافيز رئيسا لها في عام 1999، كدولة معادية للولايات المتحدة، على أمل أن الدخان المتصاعد من الأهداف الفنزويلية المحترقة سيغطي على ملفات صديقه ابستين، الذي لا يعرف أحد يقينا ما إذا مات منتحرا او منحورا في السجن، الذي دخله مُداناً بتهمة الاتجار بأجساد بنات قاصرات- تلك الملفات التي لترامب فيها الكثير من "الذِّكْر".

تؤكد كافة التقارير الصادرة عن الكيانات الأمريكية المعنية بمكافحة المخدرات، أنه ومن فرط استشراء المخدرات في الأراضي الأمريكية فإن مئات الآلاف من الصبية، دون العشرين بكثير، يعملون في مجال بيع المخدرات، وأن 85% من طلاب المرحلة الثانوية أقرّوا في استطلاعات بأنهم يحصلون على مخدر الماريوانا بسهولة ويسر، ويفيد مسح شامل في عام 2023 الى أن أكثر من 49 مليون أمريكي، خضعوا للعلاج لتخليصهم من ادمان المخدرات. وفي بلد يعتبر فيه حمل وحيازة السلاح الناري لغير أغراض الصيد حقا دستوريا، لم يثر العجب أن ولاية أوريغون أباحت حيازة كميات بسيطة من الهيرويين والكوكايين لـ "الاستخدام الشخصي"، و"بسيطة" هنا كلمة مطاطية وغير معيارية، بعكس ما هو الحال مع مخدر الماريوانا/ الحشيش، الذي يبيح القانون الأمريكي حيازة 24 جرام منه.

أكبر منتج للكوكايين في العالم هي كولمبيا، وأكبر معبر للكوكايين والهيرويين الكولمبي إلى الأراضي الأمريكية هي المكسيك، ومدينة مونتريال الكندية هي نقطة انطلاق معظم شحنات مخدر الفنتانيل إلى الولايات المتحدة، وبمنطق الحجة التي يستخدمها ترامب لضرب زوارق فنزويلية مع الوعيد بشان غارات على العمق الفنزويلي، فإن كولمبيا والمكسيك وكندا ـ وليس فنزويلا ـ تستحق السحق بالقذائف والصواريخ الأمريكية، ولكن ترامب الذي يبحث عن قضية تصرف أنظار الرأي العام الأمريكي عن فضائحه الأخلاقية، وجد في فنزويلا حائطا قصيرا، لأنها مصنفة منذ صار هوغو شافيز رئيسا لها في عام 1999، كدولة معادية للولايات المتحدة، على أمل أن الدخان المتصاعد من الأهداف الفنزويلية المحترقة سيغطي على ملفات صديقه ابستين، الذي لا يعرف أحد يقينا ما إذا مات منتحرا او منحورا في السجن، الذي دخله مُداناً بتهمة الاتجار بأجساد بنات قاصرات- تلك الملفات التي لترامب فيها الكثير من "الذِّكْر".



دمويون بالميلاد والتنشئة



وفي الظلماء يفتقد البدر

 وفي الظلماء يفتقد البدر

عطية عدلان 
مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول- أستاذ الفقه الإسلامي


لكي نبصر المشهد بتمامه ونلتقط الصورة بكمالها؛ يتحتم علينا أن نأخذ زاوية بعيدة إلى حدِّ ما، وأن نضبط "الزوم" بعض الشيء. 

ونحن - ولا شك - أحوج ما نكون إلى رؤية واسعة وعميقة؛ لأننا منذ الخامس والعشرين من يناير نجري بلا توقف، فلم ندع جحر ضب إلا ودخلناه ونحن لا نلوي على شيء؛ فلم نصل إلا إلى ما نحن فيه الآن.

انظروا إلى المشهد من أعلى لتروا صاحب الحقِّ الوحيد في كل هذا الزحام قابع في السجن؛ يوشك أن يفقد بصره من شدة المرض ومن تدهور الحالة الصحية، لا لشيء؛ إلا لأنَّ كل هؤلاء الذين يغص بهم المشهد تعاونوا وتواطؤوا على نهب ما في يده والعبث به على هذا النحو الذي تشاهدونه، فما أبعد ما بين طرفي المشهد! 

وما أعجب حال من لا يرى هذه المفارقة المغرقة في العجب والغرابة!

لن نبصر طريقنا حتى نتوقف لحظة عن الجري واللهث خلف كل مُشَرِّق ومُغَرِّب.. لننظر حولنا؛ فلعلنا نجد مَعْلَماً يهدينا الطريق.. 

انظروا وردّدوا النظر في حال هذا الرجل الفذّ، واسألوا السؤال الذي نتجاهله وكأنَّ نتيجته أحد مكتسباتنا الطبيعية: أليس من حقِّه أن يأخذ بالرخصة - ولا سيما بعدما انسدت كل الآفاق - فيقبل بما يعرض عليه ليجد نفسه - على أقل تقدير - مستريحا في محبسه آمنا على حياته؟! ما هي القيمة التي تجعله يصبر ويصمد ويستعلي بصبره وصموده على كل المحن؟!

إنَّها الشرعية التي يعرف هو قيمتها ويتحمل وحده أمانتها.. 

إنَّها المبدأ والمكتسب الذي لم يتحقق لبلد واحد من بلاد العرب قاطبة على مدى قرون عديدة، تشكل في مجموعها ما يسمى بالعصر الحديث! 

إنَّها الوديعة التي تلقاها على غير رغبة فيها ولا حرص عليها، فعرف قيمتها ووعى قدرها.. 

إنَّها العقد الذي لم يشأ أن يفصمه من جهته؛ ليلقى ربه وهو مقيم لأمره: "يا أيها الذين آمنوا اوفوا بالعقود".

وانظروا في المقابل؛ إلى هذه الضباع التي تتعادى وتتعاوى ويقتل بعضها بعضاً على صيد ما أوجفت عليه ظفرا ولا حافرا.. 

فهذا غِرٌّ محمولٌ على جناح النزق والطيش، يزيح ويطيح بأوتاد أعتى من صناديد عاد، وليس له ولا لهم ولا لآبائهم وأجدادهم في الحكم أدنى حق، وهذا غراب البين عائد إلى الذل والهوان بعد هجرة دامت سنوات، فلا "عمرة!" قضى ولا كرامة أبقى، وليس هو ولا من تلقاه بالترحيب والترهيب ممن يصلح لقيادة غنيمات في شعب من شعب سيناء المكلومة. 

وأخيرا، وبعد عمر مديد ركب فيه على ظهر أمته حتى أفناها وأفنى رصيدها في البر والبحر والسهل والوعر؛ يطلع علينا هذا الرجل جثة معبأة في ملحفة، بعد أن أردته رصاصة من "شرذمة حوثية!"، فما بكت عليه حبة رمل بائسة ولا نبتة عشب ضامرة في صحراء بلاده التي حل بها الخراب واليباب.

إنَّ السجن قد وارى خلف جدرانه بدراً افتقدته شعوبنا المنكوبة في هذه الظلماء المدلهمة، وإنَّه لمن أدنى درجات العدل والإنصاف أن نرفع المرفوع وأن نخفض الموضوع، وهذا الحدّ الأدنى لا يتحقق إلا بأن نفارق طريق هؤلاء المردة المفسدين، وأن نلزم غرزه ونكمل الدائرة معه، بأنّ نحيي ثورتنا لاسترداد شرعيتنا، ولا نلتفت لتلك المغريات الزائفة التي يلهينا بها أعداؤنا عن طريقنا.

إنّ مجرد الالتفات إلى ما يسمى بانتخابات الرئاسة؛ خصم من رصيدنا الكبير الذي يحرص الرئيس عليه، ومن شدة حرصه عليه يفرط في نظره وصحته وحياته من أجل ألا يفرط فيه، وإنَّها والله لعبة خبرناها وتمثيلية عركناها، وإنِّهم والله أجمعين لقوم سوء فاسقين؛ فلا تشاركوهم في مسير ولا تلتقوا معهم في طريق، ولا تتعجلوا الوصول، فإنّ الحق لا يستقيم للخفيف العَجول.

إنَّ طريقنا هو الثورة وحسب، بآلياتها التي تفرضها معطيات كل مرحلة، وبمقوماتها التي تبدأ بالثبات على المبدأ وتنتهي بالتضحية من أجله، وهي الطريق الوحيد الذي يوصل إلى المقاصد وإن طال وبعدت، ونحن لا زلنا مرتبكين لا نريد أن نضع أقدامنا عليه ولا نرغب حتى في الخطوة الأولى منه؛ وما ذاك إلا لأنَّنا كثيراً ما تغرينا تقلبات الأحداث فنرجو "السَّمْنَ من ثدي القَمْل".. فهلا تريثنا فلم نلهث وراء كل ناعق؟!


د.عطية عدلان 

الأربعاء، 06-12-2017 

تقسيم الناس إلى درجات... نفيسة وخسيسة!

 خواطر صعلوك

تقسيم الناس إلى درجات... نفيسة وخسيسة!


عزيزي القارئ! هذا المقال حساس جداً، وللكبار فقط، لذلك وجب التنويه، وأهلا بك في قسم تفكيك الطبقية.

هل سوف تصدقني إذا أخبرتك أن الماضي ليس جميلاً دائماً، وأنك لو عشت في المدينة الإسلامية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وبعد فترة من الخلفاء الراشدين... 

فمن الممكن أن تسقط في «الخسة» وتصبح محتقراً اجتماعياً بسبب مهنتك!

تخيل معي... لو سألك أحدهم في العصر العباسي: «ما وظيفتك؟» وكان ردك هو «دباغ» أو «حلاق»... فسينظر لك بخسة! لأن المجتمع كان يقسم مهن الناس إلى «نفيس» و«خسيس»! 

وأنت ممكن تكون من «الخسيسين» من دون أن تدري!

يحدثنا الكاتب خالد زيادة، في كتابه «الخسيس والنفيس» -الصادر عن دار رياض الريس- عن معايير التقسيم، وكيف كانت المدينة الإسلامية عبر فقهائها ومفكريها تصنف الناس؟ نظرية «النفيس والخسيس» حيث النفيس هم التجار، الفقهاء، ورجال الدولة، أما الخسيس فهم معظم أصحاب المهن الأخرى باستثناء الجند والعسكر! (حتى لو كانوا أغنياء)!

المفارقة العجيبة أن التقسيم هنا ليس له علاقة بحلالية الرزق من حرمته، بل هو تقسيمة اجتماعية تخلط الدم باللحم بالجلد بالشعر بالخشب دون أي منطق!

ورغم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، أخبرنا أن الناس سواسية كأسنان المشط، إلا أن النظرة الاجتماعية كانت لها وجهة نظر أخرى... فالقَصَّاب (بياع اللحم) والنخَّاس (بياع الناس) كلاهما من ذوي المهن المحتقرة، رغم غنى أصحابها، الحطَّابون (جامعو الأخشاب) والخطَّابون (جامعو رأسين في الحلال)، وكذلك التراسون (حراس) والجمالون (أصحاب الجمال) والحجَّامون، والدبَّاغون (دابغو الجلود) والزبالون (جامعو القمامة)... وسقاة الماء، والسمّاكون، والحمالون وبائعو الدقيق... وكلها مهن كانت تصنف في مراتب اجتماعية متدنية... والغريب في الموضوع أنها حلال وليست حراماً، وبعض هذه المهن مربح جداً! 

ولكن النظرة الاجتماعية محتقرة للمهنة ولأصحابها!

السؤال الآن هو: لماذا هذه المهن تحديداً؟ وما منطق الطبقية الاجتماعية في المدينة الإسلامية؟

قسموا المهن إلى مهن تتعامل مع «النجاسة» مثل الدباغين الذين يتعاملون مع الجلود الميتة، والزبالين حيث التعامل مع القمامة، والحجَّامين والتعامل مع الدم، ومهن مزعجة مثل الحطابين والخطابين وسقاة الماء وبائعي الدقيق... وهناك مهن من فئة «الخسيس المركب» مثل كتبة الرسائل... تخيل عزيزي القارئ! مهنة الرجل الذي كان يكتب للناس رسائلهم بسبب انتشار الأمية كانت تعتبر مهنة دنيا!

لاحظ أيها القارئ الكريم! أننا لا نتحدث عن مهن لهو ومجون مثل القرداتية (الذين يلاعب القرود) أو الطوافين على الدور الملبسين على الناس بالأباطيل والفلك والسحر، ولا أصحاب الحانات والقمارين والمنجمين والمتسولين المحترفين أو المشعِّبين الذين يشوهون الأطفال من أجل أن يعملوا شحاذين!... بل نتحدث عن مهن لا تقوم الحضارة إلا بفنونها، ورغم ذلك تم وسمهم اجتماعياً واحتقارهم... إنها مفارقة إنسانية لطالما استوقفت العقلاء، فالإسلام يساوي بين الناس... لكن التطبيق الاجتماعي للمدينة له رأي آخر!

أما الفئات النفيسة، وهي «الدرجة الأولى» في المجتمع، فهم رجال السلطة، الخلفاء، الولاة... وبعدهم الفقهاء، القضاة، والأئمة، ومكانتهم محفوظة لأنهم «ورثة الأنبياء»... ويوازيهم في الأهمية -إذا لم يكونوا أهم أحياناً- كبار التجار أصحاب السلع النادرة.

ولكن ما أسباب هذه الطبقية؟ هل لها أسباب دينية مثل تفسير خاطئ لمفهوم «الطهارة» وفهم متحيز لبعض النصوص؟ 

أم أسباب اقتصادية مثل احتقار العمل اليدوي وتقدير العمل الفكري والتجاري؟ 

أم أسباب اجتماعية مثل الرغبة في التميز ونظرة دونية للخدمات الأساسية؟

في الواقع عزيزي القارئ الهمام! يا من تشكو الزحام وسرقة اللئام! الطبقية مرض قديم، ولا أعتقد أنه وُجِد مجتمع لم يعان من التمييز والتهميش منذ بابل والفراعنة مروراً باليونان والرومان وصولاً إلى الولايات المتحدة الأميركية... ولكن الأهم هو أن نعي ونعترف أن هناك قصوراً في الإدراك، وأن قيمة العمل عليه أن يخرج خارج إطار النفيس والخسيس ليدخل في إطار الشريف وغير الشريف، الحلال أم الحرام، فكل عمل شريف طالما يتقن ويُحسن للناس فهو رفعة لصاحبه... فيا رب يخرج منا جيل يقدر كل الأعمال... ويحترم كل البشر دون أن ينظر لمهنتهم على أنها مقياس لقيمتهم! فالتطور الإنساني والمجتمعات تكون في أحسن صورها عندما تتخلص من التمييز وتجعل الكرامة الإنسانية للجميع... 

وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله... يضمحل.

هل حقاً ألقينا عصاه؟

 هل حقاً ألقينا عصاه؟

عثمان الثويني

كويتي، مهتم بقضايا الفكر الإسلامي وناشط في برامج ومشاريع الإصلاح المجتمعي

هناك مشاعر راكدة لا تشبه صمتًا عابرًا، بل تشبه برودة تسري في الروح مع أنّنا نظنّ أنّنا ما زلنا نحمل همّ غزّة في صدورنا. لكن حين نقترب من الحقيقة قليلاً نكتشف أنّ الأفعال بردت، وأنّ الأقوال هدأت، وأنّ حرارة الطوفان الأول التي أيقظت قلوب الأمة بدأت تخبو، وكأنّ الدم الذي سال هناك لم يترك أثره على ضمائرنا إلا أيامًا معدودة. 

وحين يسأل أحدنا نفسه: هل أعذرنا أمام ربنا حقًّا؟ يجد الجواب مُربكًا، لأنّنا بكلّ صراحة لم نقترب بعد من الحد الأدنى ممّا يجب، ومع ذلك نتجرأ أن نقول إنّنا “ألقينا عصا السنوار” وخرجنا من دائرة الواجب.

والمؤلم أنّ كثيرًا من الناس عادوا إلى حياتهم الطبيعية كما لو أنّ غزّة كانت مشهدًا حزينًا لكنّه مؤقت، لا امتحانًا عقائديًّا يعيد تعريف معنى وجودنا كلّه. 

عادوا إلى أعمالهم وتفاصيلهم ومواعيدهم، وغسلوا غبار المشاهد المؤلمة عن وجوههم… 

لكن من الذي غسل قلبه أولاً؟ 

من الذي تجرأ أن يحمل سطلاً من الماء ليغسل الدم عن ضميره قبل أن يغسل يديه؟ 

من الذي توقف ليسأل نفسه: هل تغيّرت بعد الطوفان؟ هل نضجت؟ 

هل اقتربت من الله خطوة حقيقية؟ أم أنّني فقط عدت أعيش، وأتنفس، وأستهلك الحياة بزيفها ووُعودها وكأنّ شيئًا لم يكن؟

نحن الذين نقول إنّ عقيدتنا صافية، وإنّ توحيدنا خالص لله، وإنّ ولاءنا وبراءنا ثابت… 

لكن أين ظهرت هذه العقيدة في لحظة الامتحان؟ 

أين انعكس التوحيد حين اختلطت الدماء بالدعاء؟ 

وأين ظهرت مفاهيم العدة والاستعداد والجهاد ونحن نعود إلى نمط الحياة ذاته، ومفاهيم الاستهلاك ذاتها، وأولويات الراحة نفسها؟ 

الحقيقة المؤلمة أنّ العودة إلى الحياة دون مراجعة، ودون إعادة ترتيب أفكارنا، ودون تغيير جذري في فهمنا لمعنى الرسالة… تعتبر خيانة صامتة لكلّ التضحية التي قُدّمت في غزّة.

وما يزيد الجرح أنّ المثقفين والكتّاب – الذين كان يُنتظر منهم أن يُعيدوا توجيه وعي الأمة – انشغلوا بالسؤال الخطأ. 

بدل أن يضعوا أساسًا فكريًّا جديدًا لأمة يجب أن تعيد صياغة نمط حياتها من الجذور، ذهبوا يناقشون صوابية قرار الطوفان من عدمه، كأنّ الطوفان حدث سياسي يمكن تحليله على طاولة باردة، لا هزة قدرية أراد الله بها أن نعيد اكتشاف أنفسنا. 

تركوا سؤال النهضة الأكبر، انشغلوا بالتفاصيل، وابتعدوا عن الفكرة التي كان يجب أن تُبنى عليها مرحلة جديدة من الحركة والتربية والفكر.

ثم ّيأتي أحدهم، بكلّ بساطة، ويقول لقد “ألقينا عصا السنوار”. أيّ عصا؟ وأيّ موقع؟ وأيّ مقارنة؟ أين نحن من رجل يعيش حياته في العتمة، على دروب الإعداد والصبر؟ أين نحن من رجلٍ يعرف أنّ الله وحده سندُه، وأن الأمة –مهما تعثرت– تحمل في داخلها شرارة لا تموت؟ من أين جاءت الجرأة لنعتبر أنّنا أتممنا واجبنا ونحن لم نقترب من أول الطريق بعد؟ يكفي أن ننظر داخل أنفسنا لنعرف أنّنا لم نفعل شيئًا يستحق أن يُسمى إلقاءً للعصا.

غزّة اليوم ليست مشهدًا قديمًا، بل معيارًا تُقاس به الأرواح وموازين الإيمان والصدق. إما أن نرتقي إلى مستوى دماء الشهداء، أو نبقى مقيدين بالأصفاد التي صنعتها الحياة المترفة والاهتمامات الزائفة. 

المرحلة التي نعيشها ليست انتظارًا لخبر جديد، بل مرحلة إعادة تشكيل أمة. ومن شعر أن “كلّ شيء عاد طبيعيًا” فليعلم أنّه هو الذي ابتعد، لا غزّة.

والسؤال الذي يجب أن يبقى مفتوحًا أمامنا: 

هل حقًّا ألقينا عصا السنوار؟ والله يعلم قبل كلّ أحد أنّنا لم نلق شيئًا. وأنّ الطريق ما زال طويلًا، لكنّه الطريق الوحيد الذي يليق بأمة أقسمت أنّ لا تخون غزّة ولا دماءها.

فوق السلطة 470 – قوالب كيك للموتى وظهور ساقي شاي معركة بدر

 فوق السلطة 470 – قوالب كيك للموتى وظهور  ساقي شاي معركة بدر



فوق السلطة: ألمانيا تمنح اللجوء للحمير وظهور ساقي شاي معركة بدر  

تبرز قضية نقل حمير من قطاع غزة إلى ألمانيا كرمز صارخ -وفق مراقبين- للتناقض في الأولويات الإنسانية، كما تعكس بوضوح الفجوة بين الاهتمام بالمظاهر الرمزية وإنقاذ الحياة البشرية الفعلية.

وسلط برنامج "فوق السلطة" في حلقة (2025/12/5) الضوء على حصول 8 حمير من قطاع غزة على "لجوء حيواني" في ألمانيا ورعاية صحية ونفسية على نفقة جهات دولية، في عملية نظمتها جمعية إسرائيلية باسم "ملجأ لبداية جديدة".

وحظيت هذه العملية بتغطية إعلامية واسعة، إذ تم نقل الحيوانات جوا من غزة إلى أوروبا، بعيدا عن الحرب والدمار.

لكن تقارير صحفية تشير إلى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي جمع عشرات بل مئات الحمير من مناطق مختلفة في غزة بزعم حماية الحيوانات من الجوع والإهمال، لكن الهدف الفعلي حسب الإعلام الإسرائيلي كان منع الأهالي من استخدامها في جهودهم البدائية لإعادة ترميم منازلهم.

وقالت مديرة الجمعية إنهم يعملون على إخراج ما تبقى من الحمير كي "لا تُستغل في إعادة الإعمار"، مؤكدة أن العملية تهدف إلى "إنقاذ الحيوانات فقط".

وأثار هذا الموضوع موجة انتقادات واسعة، مما دفع حديقة أوبنهايم في ألمانيا إلى التوقف عن إصدار تصريحات إضافية، مؤكدة أنها لا تملك معلومات كاملة عن العملية، وأن التبني تم عبر شبكات دولية مخصصة لإنقاذ الحيوانات.

وبعد استقبال الملاجئ الألمانية هذه الحيوانات أشارت صحيفة "إن دي أكتويل" الألمانية إلى أن آلاف الأطفال الجرحى في القطاع لا يزالون ممنوعين من دخول ألمانيا للعلاج.

بائع شاي عراقي ومعركة بدر

وفي مقطع طريف من الحلقة تحدّث تاجر شاي عراقي عن قصة جده الأكبر الذي ساهم -بحسب رأيه- في نصر المسلمين في معركة بدر الكبرى عبر توزيع الشاي على المحاربين.

ويقول البائع في تصريحات تلفزيونية "إذا ترجع للأصول 1400 سنة إحنا خبرة بالشاي، لأن واحدا من أجدادي كان بمعركة بدر يعطي شاي، وفازوا بمعركة بدر بمناسبة جدي، واسمه ثامر".

وتناولت الحلقة عددا آخر من المواضيع، وهذه أبرزها:

  • 10 آلاف خرق إسرائيلي للبنان خلال سنة.
  • نتنياهو يستنجد بنفوذ ترامب لعفو رئاسي عنه.
  • الأسد عائد إلى الحكم في مخيلة إعلامي مصري.
  • مشروع قانون فرنسي يتدخل بالحجاب والصيام.
  • بابا الفاتيكان رسالة محبة في تركيا ولبنان.
  • ترحيل جلسة محاكمة فضل شاكر إلى السنة المقبلة.
  • مليون فتاة أردنية عزباء فوق الـ35.