تاكسي القاهرة
د.سلمان العودة
(تاكسي.. حواديت المشاوير) هذا اسم رواية نشرت عام2006 م وترجمت إلي عشر لغات يستعرض فيها خالد الخميسي58 حوارا مع سائقي التاكسي صحبهم وصار كأحدهم في معرفة شوارع القاهرة وأزقتها, وثم وجه شبه بيني وبينه في صحبة سيارات الأجرة إلا أنها لم تفدني معرفة بجغرافيا المكان بل بجغرافيا الإنسان.ومن هذا المكان الفقير انبثقت فكرة( اقرأ علي الطريق), حيث وضعت في تاكسيات القاهرة من ثلاثة إلي خمسة كتب في ظهر كرسي السائق, تصلح للمشاوير الطويلة, وسمت مكتبة( الألف) هذا النوع من السيارات بـ(تاكسي المعرفة).
فكرة جديرة بالاقتباس إذا أحسن اختيار العنوان, مقتنيات السيارة دليل علي صاحبها, كان يشدني في( كيب تاون) أن بعض السود يضعون في مراتبهم الخلفية كتاب زعيمهم نيلسون مانديلا( طريقي الطويل إلي الحرية), والمادة المسموعة في الراديو أو المسجل ضرب من القراءة, وكثير من سائقي الأجرة المصريين يستمعون إلي تلاوات القراء الكبار بانسجام, وربما ركب معهم شاب طائش وهم أن يسأل عن ملهي أو ناد ليلي ثم خجل وكانت موعظة صادقة صامتة!
شخصية سائق التاكسي مميزة في الثقافة المصرية وينعكس هذا في عدد من الأعمال الأدبية والدرامية.
فإلي جوار خبرته في تفادي الاختناقات المرورية ومعرفته باحتياجات الزبون ومواقع الخدمات, فهو كثيرا ما يصبح حلال مشكلات ومواسي مصائب وماسح دموع ودليلا إلي خير أو شر ومحللا سياسيا وعارفا بالتيارات والاتجاهات والمذاهب ومستشارا اجتماعيا وخبيرا اقتصاديا وموسوعيا عارفا بعادات الشعوب.
يري الناس علي حقيقتهم ويطلع علي الأسرار والعلاقات والأكاذيب( فتاة تتحدث بالمحمول مع أمها أنا في الجامعة, وأمها ترد ما بالي أسمع زعيق السيارات من حولك!)
عينه تتجاوز المظهر إلي المسلك الحقيقي الذي يتسلل إليه صاحبه, بعضهم يفضي لسائق الأجرة بما لا يعرفه عنه صديقه وشريكه وجاره وقريبه!
يدخل إلي الحوار بطريقة لبقة حتي لو كان لم يسمع الكثير منه, مهنته تتطلب أن يكون متحدثا بأكثر من لغة أو علي الأقل عارفا بالكلمات الترحيبية والألفاظ الشائعة.
قربه من نبض الشارع وإطراق أذنه لهمس الناس جعله شبيها بالصحفي أو المخبر السري..
في بلد عربي انطلق أحدهم يجيب عن أسئلة السائق وينتقد التعليم الفاشل والإدارة المتهالكة والفساد والرشوة ثم انتبه إلي أن السائق يتحدث اللهجة المحلية ويلبس زيا أجنبيا فتوسل إليه وهو يبكي أن يستر عليه ولا يحرمه رزقه وأولاده لكن السائق ضحك وهو يخبره أنه مجرد صحفي, مهنة مثيرة ومغرية ومسلية فيها تجدد واكتشاف ومغامرة.
التاكسي انعكاس لثقافة المجتمع, وحين تطأ رجل العابر أرض المطار أوالفندق أو الحي الشعبي أو تزورالمتاحف فالعين لا تخطئ وجه سائق الليموزين الذي يمثل المدينة وهو جزء من تكوينها الحديث المتغير وأدواته, جودة السيارة ونظافتها وعدادها ومعايير الأمن والسلامة والمحافظة علي البيئة وأسلوب قائدها من مؤشرات النضج أوالتردي في البلد.
سائق وجد في سيارته مئات الآلاف ومرة أخري قطعا ذهبية وأجهزة ثمينة وأصر علي إعادتها إلي صاحبها, وفي عقله ترن الكلمة العمرية( إن قوما أدوا هذا لأمناء).
عفويته تحمل علي الاستظراف أكثر من الجدل, سيدة سمعته ينتقد الرئيس بشدة قالت له: ربنا يعينه ماذا يفعل بثمانين مليون فم جائع ؟ رد:( الرجل تقدم لخطبة الحاجة مصر وكان عارفا ظروفها وانها متجوزة قبله من ثلاثة رؤساء وخلفوا منها عيال كثير نصهم في القهاوي ونصهم في الخرابات وعندها أمراض وبتشخر وهيا نايمة)!
مصر أيها السائق العزيز ليست ملكا لرئيس ولا لحزب هي لكل أبنائها والرئيس أحدهم وإذا ابتلي بكونه في منصة القيادة لفترة ما فسوف يمضي وتبقي مصر تطل روحها من سلوكك وكلماتك وأمانتك واحترامك, من الغريب أن تقام الدورات لأصناف البشر في فن المعاملة, ولا نسمع أن دورة عملتها شركة لسائقيها..
ومن الغريب أن يكدح هؤلاء في سد جوعتهم, ولاتجد خطة لرفع معاناتهم, وهم من الوصية النبوية( أبغوني ضعفاءكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم؟).
twitter.com/salman_alodah
facebook.com/SalmanAlodah
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق