الجمعة، 29 نوفمبر 2013

الكفاح السلمي وآليات التغيير

الكفاح السلمي وآليات التغيير




أربعة شهور مضت منذ الانقلاب العسكري الذي وقع في مصر وأطاح بأول رئيس مدني منتخب ، والاحتجاجات والمظاهرات المناوئة لهذا الانقلاب لم تعرف التوقف أو الانقطاع . أربعة شهور مضت وزيادة والحراك الثوري ما زال متقدا مستمرا لا يعرف الكلل ولا الملل ، ومع استمرار الحراك الثوري ضد الانقلاب أخذت وتيرة القمع في الارتفاع حتى وصلت لدرجة جنونية من الوحشية والدموية تجسدت في أجلى صورها ، في فض اعتصامي رابعة والنهضة بمنتهى القسوة مما خلّف آلاف القتلى والجرحى في مجزرة وصفتها منظمات حقوق الإنسان الدولية بأنها مجزرة القرن ، وأبشع مجزرة في التاريخ الحديث ، ومع ذلك استمر معارضو الانقلاب في الخروج والتظاهر والاعتراض على هذا الانقلاب الدموي الوحشي ، ومع العزم الأكيد لدى الطرفين في استمرار نفس النهج في إدارة الصراع ؛ هذا بالبطش والقمع الوحشي
الذي لا يعرف سقفا أو حدا ، وذاك بالصمود والتحدي واستمرار التظاهر وتعويق المسار السياسي .
 تساءل الكثيرون : ما جدوى هذه المظاهرات السلمية ؟ والمتظاهرون ما هم إلا مجموعة من السذج الحمقى المغرر بهم ـ من وجهة نظر المتسائل ـ ، والسلمية المتبعة لا تحسم أي مواجهة ، ولا تنهي أي مواجهة ، وأن القوة لابد أن تقابل بالقوة ، والإرهاب بالإرهاب وهكذا .
والحقيقة أن الفهم الخاطئ لفكرة فعالية المظاهرات السلمية يقوم هو في ذاته على الجهل بطبيعة ومكامن وأدوات القوة في الكفاح السلمي أو اللا عنيف ، ودورها الحاسم في الصراعات السياسية .

الكفاح السلمي هو أسلوب سياسي يستخدم كل الأدوات غير العنيفة ؛ الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والسياسية ، من أجل الوصول إلى أهدافه ، فهو يهدف لحشد القوى الشعبية بكل أدواتها في مواجهة نظام مستبد ظالم خرج عن القواعد المتعارف عليها في الحكم وتداول السلطة ، مستغلا امتلاكه لقدرات إدارية واقتصادية وسياسية وبوليسية وعسكرية . ولفهم دور القوة في الكفاح السلمي ينبغي معرفة طبيعة وآليات القوة المتاحة لدى النظام ومعارضيه .

فمن الحقائق ذات الأهمية النظرية والعملية الكبرى أن القوة التي يمتلكها الحكام ليست نابعة منهم ، إنما تأتي من خارجهم ، فالقوة السياسية لدى الحكام تأتي من المجتمعات والشعوب التي يحكمونها ، فالحكام ليس مطلقي السلطة ولا يمتلكون قوة ذاتية ، فهم يعتمدون على مدى تعاون الشعب ومؤسسات المجتمع معهم في إنفاذ إرادتهم وقراراتهم .
 ويعد رفض التعاون مع الحكام أمرا خطيرا جدا ، فالنظام يفقد فعاليته واستمراريته وينهار اقتصاده وتنشطر مؤسساته حال رفض التعاون مع الحكام ، وهو ما جرى مع الرئيس مرسي بصورة جزئية ، فمرسي فلم يعص عليه الشعب ، إنما عصت عليه المؤسسات القديمة منها والموروثة من عهد مبارك ، أو ما أطلق عليها مصطلح الدولة العميقة ، مما أوجد فراغا خطيرا في السلطة وهو ما أدى لخلق أزمات عاتية بصورة مستمرة ، حتى انتهى العصيان إلى مشهد 30 يونيه ، ثم الانقلاب العسكري في 3 يوليو .

ثمة بعدين أساسيين لتطبيق هذه فكرة الكفاح السلمي ، أولهما : أن رفض المواطنين للنظام المستبد ينبغي أن يترجم إلى رفض التعاون مع هذا النظام وذلك بأشكال متعددة من الرفض والتي لها ثلاثة مستويات ؛ اجتماعي ، واقتصادي ، وسياسي ، وكلها تقوم على فكرة المقاطعة الفاعلة .
وثانيهما : أن العمل ينبغي أن يكون جماعيا أو جماهيريا ، فلو كان النظام منظما حتى ولو كان يمثل الأقلية ، فإنه يصمد أمام المعارضة العشوائية ولو كانت كبيرة وجماهيرية ، وهو ما يعني بعبارة أخرى : أن نظرية القوة في الكفاح السلمي تحتاج إلى مقاومة موحدة ومنظمة ومستمرة لتحقق آثارها المرجوة .

غير أن إرادة المقاومة والإصرار الشعبي عليها لا يكفيان وحدهما لامتلاك القوة الفعالة واستخدامها ضد الأنظمة المستبدة ، فالمعارضة العامة لابد أن تترجم إلى إستراتيجية للعمل ، وهذه الاستراتيجية تبدأ بفهم أدوات وأسلحة الكفاح السلمي ، وآلياته للتغير ، بحيث يمكن الاستمرار في الكفاح بالرغم من وحشية القمع وضراوته .
 فإن من شأن استمرار الكفاح السلمي أن يعزز من موقع القوة الذي تتمتع به الحركة السلمية ، فكلما ازداد القمع والوحشية كلما اتسعت قاعدة المعارضين والرافضين للإنقلاب العسكري ، مع إقرارنا بتفاوت هذه النسبة نظرا لسيطرة الانقلاب على وسائل التأثير ، وممارسته للخداع الإعلامي لشرائح واسعة من الشعب ، إلا إن المنضمين لقاعدة الرفض أكثر انضباطا وفهما واستعدادا ووعيا بحقيقة الانقلاب العسكري ، فهم وإن كانوا أقلية ، إلا أنهم أقلية راشدة .

وثمة أربعة آليات عامة للتغيير عبر الكفاح السلمي للانقلاب العسكري ، هذه الآليات هي : التحول ، والتكيف ، والإرغام ، والتحلل .
 فالتحول يعني أن مطالب المعارضين مع الاستمرار والصمود والبسالة في مواجهة القمع تتحول لمطالب مقبولة شعبية وتزداد شريحة الموافقين عليها يوم بعد يوم ، بل إن جزء من النظام الحاكم نفسه قد يتبنى وجهة نظر المعارضة في بعض زواياها .
 أما في حالة التكيف فإن النظام يقرر تقديم بعض تنازلات لحركة المعارضة ، وهي عادة ما تكون تنازلات محدودة ، وغالبا ما تكون مجرد تخفيف من وتيرة التضييق والقمع ، ولا تمتد هذه التنازلات إلى حدوث تغيير جذري في موقف النظام ، وهذه التنازلات يقدم عليها النظام عندما يدرك أن مصلحته في ذلك ، ولقطع الطريق على احتمالية حدوث انشقاق في بنيته السياسية الداخلية ، بسبب تصاعد وتيرة المعارضة ، وهذا النمط من التغيير من الكفاح السلمي هو الأكثر شيوعا .
 أما الإرغام فهو المرحلة التالية للتكيف ، وفيها تستطيع المعارضة إرغام النظام على تقديم تنازلات رغم إرادته ، وهذا لا يكون إلا إذا نجحت المعارضة في قطع مصادر قوة النظام ، وذلك عبر اتساع نطاق المعارضة الجماهيرية وخروجه عن السيطرة ، وعندما تتقلص قدرات النظام على رفع وتيرة القمع بسبب صلابة وبسالة المعارضة ، واستعدادها الدائم لتقديم تضحيات جديدة .
 أما التحلل فهو المرحلة الأخيرة في الكفاح السلمي ضد الأنظمة المستبدة ، وفيها لا يبقى للنظام جهاز متماسك بسبب قطع مصادر القوة عنه بالكامل ، بتحييد أدوات القوة لديه من جيش وشرطة وجهاز إداري بيروقراطي ، أي ببساطة تحللت قوة النظام تماما ، ومن ثم كان السقوط أكيدا .
وهذه النقطة تحديدا هي المحك الحقيقي لنجاح الكفاح السلمي ، وهو ما نجح فيه الخوميني في ثورته ضد شاه إيران ، عندما نجح في تحييد قوة الجيش والشرطة والعديد من أدوات قوة الشاه .

إن الكفاح السلمي ممكن وقادر على امتلاك قوة عظمى ، واستخدامها ضد الانقلاب العسكري والأنظمة الاستبدادية مهما كانت وحشيتها وقسوتها ، ذلك أنه يستهدف ضرب أكثر الجوانب هشاشة في كل الأنظمة وهي اعتمادها على المحكومين من أجل اكتساب سلطتها وقوتها ، وإذا استطاعت حركة الكفاح السلمي رغم القمع الدموي أن تقيد مصادر القوة أو تقطعها لفترة كافية من الوقت ، فإن النظام السياسي يصاب بالشلل التام والعجز ومن ثم السقوط .

لذلك نجد أن الأنظمة الاستبدادية تحاول بشتى الوسائل أن تدفع المعارضة السلمية إلى طريق آخر ، إلى طريق العنف وحمل السلاح لتجرها إلى معركة غير متكافئة ، بين طرف يحتكر كل أدوات القوة والبطش والتنكيل من جيش ، وشرطة ، وقضاء ، وإعلام ، وقوة إسناد إقليمي ودولي من الدول الداعمة لهذا النظام الاستبدادي ، وطرف لا يمتلك من ذلك كله شيئا ، ومن ثم تكون النتيجة معروفة وحتمية .
هذا الاستدراج يتم اليوم في مصر من قبل سلطة الانقلاب على قدم وساق ، فتصاعد وتيرة القمع البوليسي والعسكري والقضائي والقانوني يهدف لخروج المعارضة القائمة حاليا في كل مكان ضد الانقلاب العسكري عن حدود السلمية ، واللجوء إلى العنف ، ونموذج الجزائر خير دليل على عواقب هذا الاستدراج الدموي ، فالجميع في الجزائر قد دفع الفاتورة غاليا جدا ، وبعد عشرية دموية حمراء ، ومئات الالآلف من القتلى والجرحى ، كانت المحصلة قبض الريح ، فالنظام بقى كما هو ، والعسكر في الجزائر ما زالوا في سدة الحكم ، فلينتبه قادة المعارضة السلمية ضد الانقلاب ،لأن الأمر قد أصبح على وشك الانفجار . ربنا يستر .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق