السبت، 30 نوفمبر 2013

رسائل التاريخ (12)

رسائل التاريخ (12)
حبس معارضى الملك فؤاد 6 سنوات و7 شهور, وحبس صحفى جريدة الشعب وحدهم 10 سنوات!! 


نواصل فى هذه الرسالة عقد مقارنة سريعة بين العهود الملكية (فى ظل الاحتلال) وحكم مبارك فى مجال قمع رموز الحركة الوطنية من خلال مؤشر المحاكمات فى العيب فى الذات الملكية, وهو أشد أنواع المعارضة.
لاحظنا أنه فى عهد الخديو عباس فإن كل الأحكام الصادرة فى عهده ضد جميع معارضيه كانت 3 سنوات وشهر واحد.
وهو نفس المعدل تقريبا فى عهد فؤاد (1917-1936) إلا أن حكما شاذا ضد رسام الكاريكاتير رخا هو الذى أخل بالمعادلة، فرفع إجمالى سنوات الحبس لكافة رموز المعارضة خلال العهد كله إلى 6 سنوات و9 شهور. ولا يدخل فى هذا الإحصاء المحاكم العسكرية التى كانت تعقد لنشطاء ثورة 1919.
 وبالتالى فإن عقد المقارنة بين العهدين لابد أن تلتزم بذلك وتكتفى بإحصاء عدد سنوات حبس الرموز المعارضة من القادة السياسيين والكتاب والشعراء، وهذا ما لم يفكر أحد فى إحصائه فى عهد مبارك, لأن الجهد شاق والأرقام ستكون فلكية، فمع استبعاد محاكمات الشباب والنشطاء حتى تكون المقارنة سليمة، فلا شك أن مبارك حبس رموز المعارضة والصحفيين مئات السنين على الأقل, ويدخل فى ذلك الأحكام الصادرة على قادة الإخوان المسلمين، والسياسيين الذين اعتقلوا أو حبسوا تحت بند التحقيق من تيارات اليسار والناصرية والإسلاميين.
إن هذا الحصر يحتاج لجهاز أو لجنة تعمل لعدة أسابيع، ولكن عدد سنوات الحبس لن يقل عن مئات, إن لم يصل إلى آلاف السنين, ولدى إحصاء دقيق عن حالة الصحفيين فى عهد مبارك:
1. كاتب هذه الرسالة حبس 4 سنوات فى قضايا نشر و2 سنة من أجل عيون غزة = 6 سنوات.
2. محمد هلال - سنة.
3. جمال فهمى - 6 شهور.
4. صلاح بديوى - 2 سنة.
5. عصام حنفى - سنة.
6. عمرو ناصف- 3 شهور.
7. عبده نوبى - سنة.
المجموع 11 سنة و 9 شهور، ولكاتب هذه السطور نصف (الشيلة) وصحفيو الشعب شالوا 10 سنوات!!
وهذه السنوات الخاصة بالصحفيين وحدهم أكبر من كل عدد سنوات حبس الصحفيين ورموز المعارضة فى عهدى عباس الثانى وفؤاد مجتمعين, الأول استمر 22 سنة والثانى 19 سنة، المجموع 41 سنة أى أكثر من عهد مبارك بـ 10 سنوات!!
ماذا جرى فى عهد فؤاد ببعض التفصيل؟
- 1 سنة حبس للهتاف ضد الملك - مرسى حسن عبد الشفيع.
- 6 شهور اعتقال بأمر عسكرى لكتابة مقال ضد الملك – محمد بك غيته.
- 6 شهور حبس لكتابة مقال ضد الملك - محمد الههياوى.
- 9 شهور - عباس العقاد - مقالات ضد الملك.
- 6 شهور - محمد فهمى الخضرى صاحب جريدة المؤيد التى نشرت للعقاد.
- 3 سنوات ونصف سنة - الفنان محمد عبد المنعم رخا رسام الكاريكاتير بتهمة العيب فى الذات الملكية.
ويكتنف الغموض هذا الحكم القاسى ضد رخا, ويقال أن أحدا أضاف فى المطبعة على الرسم (يسقط الملك) وصدرت الجريدة هكذا.
ولكن عهد مبارك أيضا شهد حبس رسام الكاريكاتير عصام حنفى لمدة عامين, تم تخفيضهما فى النقض إلى عام واحد.
وقد شهد عهد فؤاد قضايا عديدة أخرى, ولكنها انتهت إلى البراءة كقضية عصام الدين حنفى ناصف (عيب فى الذات الملكية)، أو إلى غرامة مضحكة: عشرين جنيه - وهى مضحكة حتى بأسعار العشرينيات لأنها غرامة على سب الملك!!
أما التابعى وإبراهيم خليل فقد صدر عليهما حكم بالحبس 6 شهور مع إيقاف التنفيذ (عما نشره ضد الملكية فى روز اليوسف).
 أما بالنسبة لزعماء ثورة 1919 فقد اتبعت السلطات البريطانية أسلوبا مبتكرا تميز به الاستعمار البريطانى، وهو النفى للخارج، كما فعلوا مع أحمد عرابى, والنفى أخف من السجن, لأنه أتاح لسعد زغلول ورفاقه ممارسة حياتهم بصورة طبيعية فى عدن ومالطة وجبل طارق, كما لم يعدموا وسيلة للاتصال بالداخل من وراء المراقبة.
 ولكن النفى لم ينفع هذه المرة فى تهدئة الأوضاع, بل ساهم فى تأجيج الثورة، ورضخ الإنجليز وتراجعوا عن قرار النفى، وعاد الزعماء يمارسون حياتهم السياسية بمنتهى الحرية، ويعدون الدستور، ويشكلون الوزارات الوطنية.. إلخ.
 ولكن فى المقابل فإن الإنجليز (ولا نقول الملك فؤاد لأنه لم يكن صاحب القرار الأول فى هذا المجال) لم يتعاملوا بأى رأفة مع المظاهرات الشعبية فى ثورة 1919، ولا مع العصيان المدنى الذى تحول إلى قطع خطوط السكك الحديدية وإقامة جمهوريات مستقلة (زفتى وغيرها).
أما العقاد فقد حبس 9 شهور فقط رغم أنه قال تحت قبة البرلمان:
سنحطم أكبر رأس فى البلد إذا حاول عرقلة الدستور. ثم عاد وكرر ذلك فى مقالات عدة، وعندما خرج من البرلمان ولم يعد لديه حصانة تمت محاكمته على هذه المقالات.
ومن طرائف عهد فؤاد أن بيرم التونسى لم يتعرض لأى عقوبة أو مشكلة بعد أن كتب:



و لما عدمنا بمصر الملوك
تمثل على العرش دور الملوك
ما نبنا إلا عرشك يا تيس التيوس
جابوك الانجليز يا فؤاد قعدوك
وفين يلقوا مجرم نظيرك ودون
لا مصر استقلت و لا يحزنون


ولكن بيرم (المصرى الهوى) التونسى الأصل تجاوز كل الحدود حين كتب زجلا بمناسبة مولد فاروق, أكد فيه أنه جاء نتيجة علاقة حرام قبل الزواج, بدليل أنه ولد قبل مضى 9 شهور على الزواج!! وكل الذى حدث كرد الفعل أن البوليس ألقى القبض على بيرم ورحلوه على إحدى متن إحدى البواخر لفرنسا.
(المعلومات من: العيب فى الذات الملكية - د. سيد عشماوى. والحقيقة أن هذا الكتاب يستند إلى أهم المراجع التاريخية التى كتبت حول العهد الملكى).

*****
وهذه الظاهرة: أى قسوة الأنظمة "الوطنية" بالمقارنة مع الأنظمة فى عهد الاحتلال، مسألة متكررة ولم تحدث فى مصر وحدها, بل فى عدد من الدول العربية، وفى حدود علمى لم أجد أى مؤرخ يتصدى بالتحليل لهذه الظاهرة العجيبة.
ولكن يمكن الإشارة إلى عدد من التفسيرات الأولية:
- أن الاحتلال البريطانى - فيما عدا لحظات الثورة الشعبية أو الكفاح المسلح - كان يميل إلى التعامل برفق مع المعارضة السياسية للاحتلال، ويحاول أن يمثل دور المتحضر الملتزم بالقانون.
- إن مصر فى مطلع القرن العشرين كانت تعيش صحوة قانونية، ففكرة القانون وسيادة القانون، وفكرة الدستور كانت طاغية فى البلاد، وغذاها المصريون الذين سافروا إلى أوروبا وشاهدوا تطور نظمهم السياسية، وانعكاس ذلك على تطورهم الحضارى والاقتصادى, بل كان قادة الحركة الوطنية من دارسى القانون، ولم تكن أفكارهم بعيدة عن الجذور الإسلامية: (الشورى - البيعة - رفض فكرة الملكية وتوريث الحكم).
- كانت هذه الدعوة للدستور ودولة القانون تحرج سلطات الاحتلال، ولا تلقى قبولا من الملوك. ووجه الحرج لدى الإنجليز أنهم جاءوا لاحتلال مصر كدعاة تحضر، وهم أصحاب فكرة الدستور والبرلمان والديمقراطية والملك الذى لا يحكم، ومع ذلك فإن الإنجليز - كما يفعل الأمريكان اليوم - كانوا ضد تطوير التجربة الديمقراطية، وكانوا مع استمرار الحكم الاستبدادى, وضد تأسيس برلمان له سلطات حقيقية. فالمهم هو الحفاظ على مصالحهم واستقرار النظام التابع لهم. وهم يوقنون أن الديمقراطية الحقيقية لن تحمل إلى مقاعد البرلمان والوزارة إلا أعداء الاحتلال!!
- ومع ذلك ظلت فكرة القانون قوية (وهذا أمر سنعود لتناوله فى رسائل قادمة) منذ مطلع القرن العشرين حتى ثورة 1919 ثم حتى يوليو 1952. ولولا ثورة 1919 لما تطورت وتأصلت فكرة الدستور والنظام الدستورى واحترام القانون.
- كان أحمد حسين يحمل الأدب السياسي المصاحب للحركة الشيوعية المسئولة عن تحطيم فكرة القانون، بنشر فكرة المرجعية الثورية والثورة المضادة. وأعداء الثورة، وإن استئصال هؤلاء مسألة مفتوحة تبيح استخدام كافة الوسائل. وأصبحت المرجعية الثورية بديلا للقانون (أى قانون) وأن الحركات الوطنية التى وصلت للحكم بعد الحرب العالمية الثانية تأثرت بهذا المناخ وذاك الفكر، واستخدمت نفس الشعارات لإبادة معارضيها.
وتقدر بعض الدراسات أن الاتحاد السوفيتى فى عهد ستالين آباد 20 مليون روسى وسوفيتى معارض, وهو ما لم يفعله النظام القيصرى.
وما حدث فى سجون عهد عبد الناصر لم يحدث 1% منه فى عهد الملكية والاحتلال، وكذلك الأمر فى عهد مبارك.
 بل إن الذين اعدموا فى عهد مبارك فى محاكم عسكرية وصل عددهم إلى العشرات.
 وهو رقم مهول بالمقارنة مع المحاكم العسكرية فى عهد الإنجليز، حيث تبرز حادثة دنشواى التى أعدم فيها نفر قليل.
 إن حادث دنشواى يعد من قبيل لعب الأطفال بالمقارنة مع ما فعله حكم مبارك مع معارضيه، وبانتهاكات حقوق الإنسان الواسعة على يد رجال شرطته فى عهد الطوارئ المستديم.
 ويحسب لعهد السادات أنه كان الأقل انتهاكا لحقوق الإنسان.
- النظم الوطنية سواء كانت حقيقية (عهد عبد الناصر) أو مصطنعة (عهد مبارك) بمعنى أن الحكام مصريون فى بلد غير محتل ولكن إرادتهم مسلوبة للأجنبى، هذه النظم ولنسميها (المصرية) بطشت أكثر من قوات الاحتلال, وبغض النظر عن التفسيرات الأولية التى سقناها.
فإن هذا الظلم غير مقبول, ولا يمكن الصبر عليه إذا جاء من بنى جلدتنا. وبدون أى دعوة لعودة الاحتلال الأجنبى!
فإنه لا يوجد مبرر للصمت على جرائم نظام يدعى الوطنية والمصرية، حتى يمارس قتل المصريين بحرية وينتهك أبسط حقوقهم الإنسانية.
إن جنسية المستبد هنا تأتى فى المحل الثانى, فأعماله هى المهمة، بل إن معارك التحرير الكبرى لإرادة الإنسان جرت بين أبناء الجلدة والعمومة (فى بدر وأحد والخندق).
إن الدرس المستفاد من كل ذلك، أن الاستقلال الوطنى الذى نسعى إليه دوما، يجب ألا يتعارض مع القانون، وسياسة القانون، وكافة الحريات, وأنه لا معنى للاستقلال الوطنى المزعوم مع التوسع فى انتهاكات حقوق الإنسان، وأنه لا حق للحاكم المصرى (وفقا لبيانات البطاقة الشخصية) أن ينكل بالمصريين بدعوى أنه حاكم "وطنى" وحريص على مصلحتهم كوالدهم!
 لابد من إحياء فكرة القانون وسيادته كحصن للعدالة وكأمان للجميع.
 ولنتذكر أن المساواة أمام القانون هى فكرة الرسالات السماوية المتتالية، وأنها فكرة الإسلام، وأن هذا هو تراث الشريعة الإسلامية الذى استوعبته أوروبا.

مجدى أحمد حسين

رسائل التاريخ كاملة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق