تركيا ومصر.. مَن تخلَّص من الآخر؟!
بون شاسع بين اليوم الذي استقبلت فيه النخب السياسية والثقافية والشعبية بكل حفاوة وتكريم رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوجان أثناء زيارته للقاهرة في سبتمبر 2011، وبين اليوم الذي تم فيه طرد السفير التركي حسين عوني من القاهرة، وإبلاغه بأنه شخص غير مرغوب فيه، وذلك كتتويج للتوتر الشديد الذي وقع بين تركيا والنظام العسكري في مصر في أعقاب الانقلاب الذي وقع في 3 يوليو 2013. المبررات التي ساقتها القاهرة للإقدام على هذه الخطوة غير الحصيفة والتي ستضر الاقتصاد المصري المنهار أصلًا أشد الضرر، لم تكن على وجه الحقيقة مقنعة بالقدر الكافي، فالموقف التركي من أحداث مصر منذ 3 يوليو موقف علني ومعروف ومتكرر، لم يطرأ عليه تغيير جوهري بالصورة الذي يستدعي الإقدام على هذه الخطوة الخطيرة.
فما الداعي إذًا لوصول التوترات لهذا المستوى؟ وهل ستقدم مصر على نفس الخطوة مع جنوب أفريقيا التي تقود تجمع الدول الأفريقية الرافضة للانقلاب العسكري المصري، وتصعد لهجتها ضد القاهرة، وتسببت في تجميد عضوية مصر بالاتحاد الأفريقي؟ وتسهم في الحراك الدولي الرامي لمحاكمة قادة الانقلاب؟ وهل ستقدم مصر على نفس الخطوة مع ألمانيا التي تقود الاتحاد الأوروبي في فرض العقوبات على مصر وترفض ما وقع في مصر وتصفه بأنه انقلاب عسكري كامل المعالم؟ وكذا الهند والبرازيل ودول مجموعة البريكس؟ أم أن لقطع العلاقات التركية المصرية أبعادًا أخرى غير تلك المعلنة؟
تحتل مصر أهمية كبرى في أجندة السياسة الخارجية التركية منذ وصول حزب "العدالة والتنمية" ذو الميول الإسلامية إلى الحكم العام 2002، لكن الحساسية التي كانت سائدة بين نظام مبارك وبين الحكومة التركية، جعلت الأخيرة تتحرك ببطء وحذر في الملفات المرتبطة بمصر بشكل أو بآخر، خوفًا من ضغوط الأمريكان والصهاينة أصحاب الكلمة العليا في مصر، فالعدالة والتنمية صاحب رؤية وفكرة سعى من خلالها في إقامة تحالف إقليمي من نوع جديد لم تعرفه المنطقة من قبل، تحالف بروح أيديولوجية تقوم على فكرة إحياء المحور السني بين مصر كمرحلة أولى، ثم دول الشمال الأفريقي والسودان كمرحلة ثانية، وذلك في قبالة المحاور القومية أو الشعوبية أو الطائفية أو البرجماتية، مما حدا بالمراقبين للقول: إن أردوجان يسعى لإعادة أمجاد الدولة العثمانية.
وبعد اندلاع الثورة المصرية وتبدل الأوضاع الداخلية في مصر واستلام قيادة جديدة للحكم، خرجت أنقرة عن تحفظاتها إزاء رفع مستوى العلاقات الثنائية بين البلدين، ورأت أن رفع مستوى التعاون والتنسيق مع مصر إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية أصبح حتمية وضرورة إستراتيجية، خاصة في ظل التحديات الإقليمية المتزايدة للطرفين.
فلقد أعادت الثورة المصرية الاعتبار لهذا البُعد الذي أصبح عاملًا مساعدًا على تطوير علاقات مؤسساتية متينة بشكل يتيح تغيير شكل ومضمون العلاقات الثنائية من جهة، ويعيد صياغة قواعد اللعبة في المنطقة من جهة أخرى، خاصة في ظل التناغم الموجود بين البلدين على مستوى ملفات السياسة الخارجية والمواقف من مختلف القضايا المصيرية بالنسبة للمنطقة والتي ما كانت لتتم بهذا الشكل في ظل وجود نظام مبارك الذي كان رهينًا للمحور الأمريكي ـ "الإسرائيلي" في المنطقة ويتماهى تمامًا مع خططه وإستراتيجياته حيال قضايا المنطقة.
ولكن اللافت للنظر أن الأتراك قد اندفعوا في شراكتهم مع مصر بصورة كبيرة استرعت الانتباه، ولعل تسارع وتيرة الأحداث في الشرق الأوسط بسبب تداعيات الثورة السورية، كان السبب الرئيس لهذا الاندفاع التركي، فقد أدت أحداث الثورة السورية وتورط معظم الدول الإقليمية في الصراع الدائر على أراضيها إلى نشوء محور إستراتيجي خطير يضم إيران ولبنان وسوريا والعراق، وخطورة هذا المحور أنه قد جاء بمصالح متعارضة مع المصالح التركية، ويحاول إحباط المشروع التركي في المنطقة، وإفشال خطط أردوجان الرامية لبناء تحالف جديد، يقوم على الهوية الإسلامية بعيدًا عن القومية العربية القديمة، والعمل على عزل تركيا سياسيًّا وإستراتيجيًّا، وقطع التعاون التركي - الخليجي، والتركي - الشامي في الجنوب، لذلك كان أكثر الناس سعادة بالثورة المصرية هم الأتراك، فإن بروز مصر والانفتاح على مصر بهذا المعنى جاء في وقت حاسم جدًّا للأتراك، فإن دخول مصر على المعادلة الإقليمية كان مكسبًا تركيًّا وفق هذه الحسابات، لذلك كان الرئيس التركي عبد الله جول هو أول رئيس أجنبي يزور مصر بعد الثورة وذلك في مارس 2011 لتأكيد العزم التركي على مساندة مصر الجديدة.
ولأن الاقتصاد هو قاطرة الاستقرار السياسي، فقد حاولت تركيا أن توفر مناخه الملائم في مصر، لتفادي طول الفترة الانتقالية التي عادة ما تكون مليئة بالمشاكل والمعوقات، وتركيا من الدول المتفوقة اقتصاديًّا، وحققت تحت حكم العدالة والتنمية ارتفاعًا مطردًا في النمو الاقتصادي حتى اعتبر اقتصادها ثاني أسرع الاقتصاديات نموًّا في العالم سنة 2011، مما جعل الاقتصاد التركي يحل في المرتبة السادسة عشر على مستوى العالم، لذلك فقد رفعت تركيا حجم استثماراتها في مصر من نصف مليار دولار عام 2007 إلى خمسة مليارات في 2012، مع خطط مستقبلية ترفعها إلى عشرة مليارات في غضون خمس سنوات، كما قامت تركيا بافتتاح مئات المصانع والشركات في مصر، التحق بالعمل فيها عشرات الآلاف من المصريين، وزاد حجم التبادل التجاري بين الجانبين لأعلى مستوى، كما أقرضت تركيا مصر مليار دولار كوديعة ثابتة بالبنك المركزي، ومليارًا أخرى كخط ائتمان لتمويل الواردات التركية مع مصر، ووقعت سلسلة من الاتفاقات في مجالات متعددة تشمل قطاعات التكنولوجيا والاتصالات والسياحة والطاقة والكهرباء، بالإضافة إلى تدشين اتفاق خط النقل المائي بين موانئ مارسين والإسكندرونة التركية إلى موانئ الإسكندرية وبورسعيد المصرية.
كل ذلك أصبح على المحك بعد الانقلاب العسكري الذي أدرك الأتراك من اللحظة الأولى أن شراكتهم الإستراتيجية مع مصر الثورة ستكون مستهدفة بقوة من سلطة الانقلاب، فالبصمات "الإسرائيلية" والأمريكية كانت واضحة لدى الأتراك على صحيفة أحوال الانقلاب، ومن ثم لم تمض ساعات على بيان الانقلاب حتى قطع رئيس الوزراء التركي عطلته القصيرة، ليعقد اجتماعًا طارئًا مع "هاكان فيدان" رئيس الاستخبارات التركية، ليخرج بعد ذلك منددًا بموقف الجيش المصري، ورافضًا ما جرى، واصفًا إياه بالانقلاب العسكري الصريح، والانقلاب على إرادة الشعب والديمقراطية، ومنذ ذلك الحين وفصول التصعيد التركي تتوالى انتهاجًا لإستراتيجية حافة الهاوية مع القيادة المصرية الجديدة، التي رفضت تركيا تهنئتها والترحيب بها، بدعوى أنها غير منتخبة، بل وعملت على مواجهتها دوليًّا؛ عبر التنديد بما اعتبرته ازدواجية المعايير، في المواقف الغربية حيال أحداث مصر، ترافق ذلك مع تصاعد وتيرة التظاهرات والاحتجاجات التي عمت بعض المدن التركية للتنديد بالجيش المصري، وهي تظاهرات شارك فيها مؤيدو حزب العدالة والتنمية.
التصعيد التركي ضد مصر أخذ مسارات مختلفة، فقد ألغت تركيا ـ عكس ما يشاع في الإعلام المصري ـ مناورات بحر الصداقة التي كان من المزمع إجراؤها في أكتوبر 2013، وقامت بحلحلة مسار المحاكمة الدولية لقادة الانقلاب عبر الوسائط الدبلوماسية، وفي المقابل لم تقم مصر بخطوة جدية نحو التصعيد التركي سوى بشن حملات إعلامية عنيفة مليئة بالأكاذيب والافتراءات ضد حكومة أردوجان، كما قامت بخطوة مضحكة للرد على الأتراك، حيث احتفلت القوات المسلحة لأول مرة بمرور 99 سنة على مشاركة الجيش المصري في الحرب العالمية الأولى التي كانت من أهم نتائجها سقوط الدولة العثمانية!!، وذلك نكاية في الأتراك، في حين أصبحت تركيا ملاذًا آمنًا لقادة الإخوان والحركات المعارضة للانقلاب العسكري، ووضح أثر المخابرات التركية في كشف عدة فضائح للانقلاب، خاصة تلك التسريبات التي قامت شبكة "رصد" بتسريبها لقائد الانقلاب، وكذلك كشف عقود الشركات "الإسرائيلية" التي ستتولى الدعاية والترويج للانقلاب في الخارج، والأخرى التي ستتولى تأمين ممر البواخر في قناة السويس، مما زاد من حرج قادة الانقلاب، ووسع دائرة المعارضين له.
قد يبدو للوهلة الأولى أن مصر هي التي عاقبت تركيا وطردت سفيرها، ولكن عند التدقيق نجد أن تركيا هي التي عاقبت مصر وطردت سفيرها، وتخلصت من شراكة باهظة التكلفة لا طائل من ورائها، فقد أيقنت منذ بداية الانقلاب أن شراكتها الإستراتيجية مع مصر قد أصبحت في خبر كان، وأن مصر الانقلاب ستتخذ مواقف مغايرة تمامًا لمصر الثورة، وأن مصر قد عادت وبكل قوة لمحور أمريكا ـ "إسرائيل" كما كانت من قبل، وأن مواقفها الخارجية والداخلية أيضًا قد عادت رهينة التوجهات الأمريكية و"الإسرائيلية"، ومن ثم فلا داعي لهذه الشراكة المكلفة التي دفع فيها الأتراك عدة مليارات وتحملوا الضغوط الأمريكية و"الإسرائيلية" من أجلها، والبحث عن بدائل أخرى وبسرعة لتفادي الآثار المحتملة من وقف هذه الشراكة، وربما تكون ليبيا أو السودان هو البديل المناسب لمصر بالنسبة لتركيا، ولعل مسارعة الأتراك وفتحهم لباب شراكة جديدة مع العراق هو نوع من إعلان سريع لفض الشراكة مع مصر، ومواجهة من يقف خلف الانقلاب بنفس الأساليب والأسلحة. وتبقى أن المحصلة النهائية لمثل هذا الحدث وغيره من أحداث المنطقة منذ الانقلاب العسكري أن مدارنا الإقليمي سيشهد تغييرات جذرية ودرامية في بنية التحالفات القائمة، والخاسر الوحيد في كل هذه التحالفات الجديدة هو شعوب المنطقة عمومًا، والمصريون خصوصًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق