جرائم الميليشيات الشيعية العراقية: التقرير الذي لا تريدك واشنطن أن تراه
كشف تحقيقان غير منشورين أن الولايات المتحدة قد تجاهلت باستمرار عمليات القتل والتعذيب على أيدي الميليشيات التي ترعاها الحكومة العراقية الشيعية، وفقا لتقرير نشرته وكالة "رويترز".
وكانت هذه العمليات من الأحداث المثيرة للصدمة خلال واحدة من أكثر الفترات وحشية في تاريخ العراق. في أواخر عام 2005، بعد عامين من الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للإطاحة بصدام حسين، اقتحم جنود أمريكيون مبنى للشرطة في بغداد وعثروا على 168 سجين في ظروف مروعة.
وكان كثير منهم يعاني سوء التغذية، وبعضهم تعرض للضرب.
اكتشاف سجن سري أظهر للعالم عمليات الخطف والاغتيالات. وراء هذه العمليات كانت منظمة غير رسمية تابعة لوزارة الداخلية، تدعى مديرية التحقيقات الخاصة، وفقا لمسؤولين أمريكيين وقوات الأمن العراقية في ذلك الوقت.
وتولى الإشراف عليها قادة الميليشيات من منظمة بدر الموالية لإيران، حركة سياسية شيعية تلعب اليوم دورا رئيسا في الحرب في بغداد ضد تنظيم "الدولة".
وقد ضغطت واشنطن على الحكومة العراقية لإجراء تحقيق عن السجن السري، ولكن نتائج التحقيق لم يُكشف عنها مطلقا.
في حين أجرى الجيش الأمريكي تحقيقا خاصا به، ولكن بدلا من نشر نتائجه، اختار للضغط على المسؤولين العراقيين بهدوء خوفا من الإضرار بالنظام السياسي الهش الذي تم تشكيله في العراق، وفقا لعدد من المسؤولين في الجيش الأمريكي الحاليين والسابقين والدبلوماسيين.
ولم يُنشر كلا التحقيقين إلى الآن، وقد اطلعت وكالة "رويترز" عليهما، فضلا عن وثائق أمريكية أخرى من العقد الماضي.
وتظهر الوثائق كيف تغاضت واشنطن، سعيا منها لهزيمة الجهاديين السنة وتحقيق الاستقرار في العراق، باستمرار عن التجاوزات من قبل الميليشيات الشيعية التي ترعاها الحكومة العراقية.
وقد تعاملت إدارتا جورج بوش وباراك أوباما، على حد سواء، مع منظمة بدر وزعيمها القوي، هادي العامري، الذي يتهمه كثير من السنة بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان.
حققت سياسة واشنطن النفعية بعض الأهداف على المدى القصير، ولكن بسماحها لميليشيات شيعية أن تعيث في الأرض فسادا ضد خصومها السنة، غذت واشنطن الانقسام الطائفي بين الشيعة والسنة الذي مزق العراق.
وأثبت التحقيق الأمريكي في السجن السري خلال الفترة السابقة تورط مسؤولين وجماعات سياسية في موجة من أعمال القتل الطائفي التي ساعدت في إشعال حرب أهلية. ويشير أيضا، وبشكل مقلق، إلى أوجه الشبه في الرد الحكومي الأمريكي الصامت اليوم على الانتهاكات المرتكبة باسم محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية".
ويقول التقرير إن المحققين الأمريكيين واجهوا "عدم تعاون الحكومة، إحجام الشهود على التقدم والتواطؤ الرسمي".
وأما اليوم، فيقول السنة في المناطق التي تحررت من سيطرة الدولة الإسلامية إن الميليشيات الشيعية ارتكبت تجاوزات وجرائم، بما في ذلك النهب والخطف والقتل. فقد اختطفوا 718 سنيا على الأقل في محافظة صلاح الدين منذ أبريل 2015، وفقا لعدد من ضباط الأمن وكذا عضو مجلس المحافظة وشيوخ العشائر، ولم يُطلق منهم إلا 289، معظمهم بعد دفع الفدية.
ويقول بعض المسؤولين الأمريكيين السابقين والحاليين إن على واشنطن أن توقف استهانتها بالانتهاكات التي ترتكبها الميليشيات الشيعية.
ويعتقد روبرت فورد، وهو دبلوماسي أمريكي سابق عمل ضابط اتصال سياسي للسفارة الأمريكية في بغداد بين عامي 2004 و2006، أن قرار الحكومة الأمريكية بعدم معاقبة الذين يقفون وراء سجن سري سابقة مدمرة. وكشف قائلا: ""تم نقل عدد قليل من الناس إلى أماكن أخرى، وهذا ليس عقابا. كان المفروض أن تمنعهم من فعل ذلك".
قبل عشر سنوات، قال فورد، كانت ميليشيات الجماعات المسلحة تتحرك بناء على خلفيات سياسية، أو باعتبارها أجنحة مسلحة للفصائل السياسية، أما اليوم فإن "مكتب رئيس الوزراء قد اعتبرهم مؤسسة رسمية، وتحصل على موارد مباشرة من الدولة، وتحظى أيضا بقدر من الشرعية السياسية".
بعد سقوط نظام صدام حسين، وفقا لتقرير "رويترز"، كان واشنطن تأمل في أن يكون المجلس الأعلى ومنظمة بدر شركاء موثوق بهما في تشكيل قوات الأمن، التي انضم إليها مقاتلو بدر بأعداد كبيرة. ولكن بدلا من ذلك، بدأوا في اغتيال الضباط العراقيين السابقين، أعضاء حزب البعث وموظفي الخدمة المدنية.
وقال العقيد ديريك هارفي، وهو ضابط مخابرات متقاعد لوكالة "رويترز" إن الجيش الأمريكي اعتقل فرق اغتيال تابعة لمنظمة بدر تمتلك قوائم استهداف للضباط والطيارين السنة في 2003 و2004 لكنه لم يحتجزها.
بعد أن اكتسحت الأحزاب الدينية الشيعية انتخابات عام 2005، مُكنت منظمة بدر والمجلس الإسلامي الأعلى العراقي من السيطرة على وزارة الداخلية. وقد أعلنت السفارة الأمريكية تأييدهما لهذه الخطوة. لكن جيمس جيفري، كبير الدبلوماسيين في ذلك الوقت وسفير أمريكا لاحقا في العراق، قد انزعج عندما أصبح باقر جبر صولاغ الزبيدي، وهو حليف بدر، وزيرا للداخلية. وقال: "كان باقر جبر أكبر خطأ ارتكبته"، كاشفا لرويترز: "ملفه كان فظيعا".
وقد عين جبر أعضاء بدر في المناصب العليا لوزارة الداخلية. وأنشأوا مديرية المخابرات السرية الخاصة، والتي يعتقد مسؤولون أميركيون حاليون وسابقون أنها نسقت عمليات قتل المسؤولين السابقين في عهد صدام.
في غضون أشهر، لاحظ سياسيون سنة زيادة حادة في خطف الرجال من السنة. واتهم البعض رجالا يرتدون زي الشرطة، وبدأت الجثث تظهر حول بغداد.
أثارت أعمال العنف التوترات بين الجيش ومسؤولين أميركيين في السفارة الأمريكية. أراد الدبلوماسيين أن يُقدم الذين يقفون وراء عمليات القتل إلى العدالة، في حين كان مسؤولون عسكريون أكثر استعدادا لغض الطرف.
ووفقا لفورد، فقد أمرا الجنرال مارتن ديمبسي، الذي خلف بترايوس، ضباطه بعدم التحدث مع الدبلوماسيين الأمريكيين حول تورط قوات الأمن العراقية في عمليات القتل.
انفجرت التوترات وظهرت إلى العلن في نوفمبر عام 2005، عندما تلقى الجنرال الأمريكي، كارل هورست، ضابط عمليات بغداد، معلومات عن أن مراهقا السنة في عداد المفقودين كان محتجزا في سجن سري في وزارة الداخلية.
داهم "هورست" مبنى للشرطة في حي الجادرية في بغداد. وقال إن القوات لم تجد المراهق، ولكن اكتشفت 168 معتقلا.
وقد واجهت واشنطن معضلة، فالجيش الأمريكي في العراق يقاتل المتطرفين السنة وحركة جيش المهدي الشيعية. وكانت منظمة بدر واحدة من عدد قليل من القوات العراقية لا يعارض الأميركيين. ولكن الآن، ومع ما أصبح يعرف باسم "قبو الجادرية"، فإن ميليشياتها قد ارتبطت ارتباطا مباشرا بحمام الدم الذي مزق العراق.
دفع مسؤولون أمريكيون العراقيين للتحقيق وتقديم الأدلة مباشرة إلى إبراهيم الجعفري، رئيس الوزراء آنذاك. "وقال إنه لا يمكنه فعل أي شيء"، كما كشف.
وبضغط من الأمريكيين، شكل الجعفري لجنة تحقيق، ولم تظهر نتائجها إلى الآن. تقرير اللجنة، الذي اطلعت عليه وكالة "رويترز"، يعفي الأجهزة الأمنية في البلاد وجميع المسؤولين الحكوميين. بدلا من ذلك قالت لجنة التحقيق إن الشرطة العراقية "البعثية" كانت تعامل السجناء بشكل سيء.
وهو ما أدى بالجنرال "كيسي"، مُحبطا، إلى إطلاق التحقيق بنفسه، وقدمت نتائج تلك التحقيقات، بقيادة فريق عمل الاستخبارات العسكرية الأمريكية، إلى كيسي في فبراير 2006.
أثبت التقرير الأمريكي تورط وزير الداخلية، جبر الصولاغ، ورئيس المحكمة العليا العراقية، محمود. وحمَل المسؤولية أيضا لاثنين من الرجال الذين يديرون السجن: رئيس المخابرات بدر في ذلك الوقت، بشار وندي، الذي عُرف باسم المهندس أحمد، ومسؤول بدر الثاني، العميد علي صادق.
ووفقا للتقرير الأمريكي: "كان جبر متواطئا ومسؤولا بشكل غير مباشر عن الاعتقالات غير القانونية وسوء المعاملة والتعذيب والقتل خارج نطاق القضاء".
في فبراير 2006، وبعد أيام من تلقي الجنرال كيسي تحقيقا للجيش الأمريكي عن السجن الأول، فجر مسلحون سنة مزارا شيعيا في سامراء. وأشعل الهجوم فتيل حرب أهلية واسعة النطاق. أرسل الجنرال كيسي التقرير إلى الجعفري، لكنه قال إن رئيس الوزراء الذي كان يقاتل للبقاء في منصبه بعد انتخابات وطنية قبل بضعة أشهر، "لم لديه أي حافز للتحرك" وقاوم الضغوط.
عندما تم تشكيل الحكومة العراقية الجديدة في مايو 2006، أُبعد الجعفري رئيسا للوزراء وأصبح جبر الصولاغ وزير المالية. وقال السفير الأمريكي السابق في العراق، زلماي خليل زاد، إن التغييرات أوقفت سرعة تنامي نفوذ الميليشيات الشيعية "داخل الشرطة، وبدأ الجيش الأمريكي يُجمع أسوأ وحدات الشرطة الوطنية من الشوارع لإعادة تدريبها.
لكنَ دبلوماسيين آخرين، مسؤولين عراقيين وضباط الجيش الأمريكي يقولون إن الميلشيات كانت جزءا لا يتجزأ من الشرطة والجيش، بحيث إن عمليات القتل خارج نطاق القضاء استمرت حتى أواخر عام 2007.
في حين يعتقد ريان كروكر، الذي كان سفير الولايات المتحدة في العراق عام 2007 في ذروة الحرب الأهلية، أن هادي العامري، زعيم منظمة بدر، وأقرانه هم الآن أكثر قوة من الجيش العراقي. وقال: "كلما يتعمق تورطهم في ساحة المعركة، يصبحون السلطة الحقيقية في الأرض، ويضعفون أكثر رئيس الوزراء العبادي".
وأضاف قائلا إن إستراتيجية واشنطن في الضربات الجوية ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" جنبا إلى جنب مع غض الطرف عن تجاوزات الشيعة، إنما ترسخ بهذا سلطة الميليشيات وتساعد على تقسيم العراق إلى أجزاء دينية وعرقية. وأوضح: "الحل الذي نملكه على المدى القصير هو إثارة مشكلة أكبر على المدى الطويل".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق