السبت، 22 مارس 2025

الخطاب الصهيوني المراوغ (2 - 4)

 الخطاب الصهيوني المراوغ (2 - 4)


د. عبدالوهاب المسيري

٢ ـ استخدام مصطلحات محايدة هي في جوهرها 

عمليات تغييب للعرب وللواقع وللتاريخ العربي:

من الحيل الصهيونية البلاغية استخدام مصطلحات تبدو كما لو كانت بريئة محايدة تحل محل المصطلحات ذات المضمون التاريخي والإنساني العربي. ولعل أهم هذه المحاولات بطبيعة الحال هو الإشارة إلى فلسطين باعتبارها "أرض بلا شعب". فهذه عبارة محايدة للغاية، ففلسطين ليست "فلسطين" أساساً وإنما هي مجرد "أرض" والسلام. وتتبدَّى نفس الظاهرة في الخلاف بشأن قرار مجلس الأمن رقم 242 فينص في مقدمته على مبدأ عدم "جواز الاستيلاء على الأرض بالقوة" ويتعامل مع الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967 ويدعو إلى الانسحاب منها، وهنا طرح الإسرائيليون إشكالية الأراضي المعنية وهي «أراض» كما في النص بالإنجليزية، أو «الأراضي» كما في النص بالفرنسية. وكانوا يفضلون بطبيعة الحال النص الإنجليزي لأنه يحيِّد الأرض ويفقدها حدودها فتصبح كلها قابلة للتفاوض بشأنها. وقد تدهور (تطور) الأمر حين قرر الإسرائيليون أن "الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 في الضفة والقطاع "أراض متنازع عليها" بالإنجليزية: دسبيوتيد disputed وليست "محتلة" بالإنجليزية: أوكيوبايد occupied وقد وافقهم الأمريكيون على ذلك. وقد حاولت الدعاية الإسرائيلية أن تشير إلى "الانتفاضة" باعتبارها "أحداث الشغب" أو مجرد "عصيان مدني" ولكن الانتفاضة نجحت في اختراق المعجم الصهيوني واستقرت (كالنجم الساطع) داخل الكلمات العبرية والإنجليزية.

وتظهر عملية التحييد في حديث الصهاينة عن "التقدم" في المنطقة وتحويل الصحراء إلى مزارع خضراء...إلخ، دون أن يُحدَّد لحساب مَنْ وعلى حساب مَنْ سيتم هذا التقدم. وقد لجأ مارتن بوبر لحيلة مماثلة في خطاب أرسل به لغاندي إذ كتب له محاولاً تبرير الغزو الصهيوني قائلاً إن الأرض لمن يزرعها، وكأن المستوطنين الصهاينة مجرد فلاحين مسالمين وجدوا أرضاً فقاموا بحرثها وزرعها في صبر وأناة بينما يقوم العرب (اللئام) بالتنغيص عليهم! وفي هذا إلغاء كامل لأصول الصراع واستخدام لمصطلحات محايدة تُلغي التاريخ.

٣ ـ استخدام مصطلحات دينية يهودية في سياقات

 تاريخية زمنية:

هذه الحيلة البلاغية مُتضمَّنة في كل الحيل السابقة، ولكنها من الأهمية بمكان بحيث قد يكون من المفيد معالجتها بشكل مستقل. والخطاب اليهودي الحلولي الكموني لا يُفرِّق بين التاريخ الزمني والتاريخ المقدَّس ولا بين المطلق والنسبي. وهذا ما يفعله الخطاب الصهيوني حين يشير إلى فلسطين باعتبارها «الأرض المقدَّسة» أو «أرض الميعاد» أو «إسرائيل» (وهو اسم يعقوب بعد أن صارع الرب). واستخدام المصطلحات الدينية في سياق زمني يخلق استمرارية لازمنية، فالعبرانيون الذين خرجوا من أرض المنفى في مصر وصعدوا إلى أرض كنعان لا يختلفون كثيراً عن اليهود السوفييت أو يهود الفلاشاه الذين خرجوا من بلادهم (المنفى) وصعدوا إلى أرض كنعان (دولة إسرائيل) . ومن هنا تُسمَّى الهجرة الاستيطانية إلى فلسطين «عالياه»، من العلو والصعود، بينما الهجرة منها هي «يريداه» بمعنى «الارتداد والكفر». ويؤدي استخدام المصطلحات الدينية إلى خلع القداسة اليهودية على الأرض الفلسطينية، الأمر الذي يعني تحويل اليهود إلى عنصر مرتبط بها عضوياً، أما العرب، فيتم تهميشهم، فهم يقعون خارج نطاق دائرة القداسة.

٤ ـ إخفاء دال معيَّن تماماً أو محوه من المعجم 

السياسي والحضاري أو استخدام دوال تؤدي إلى 

تغييب العرب:
يلجأ الصهاينة لمحو بعض الدوال تماماً من المعجم السياسي والحضاري حتى يمكن محو المدلول وإخفاؤه من الخريطة الإدراكية. وهذه الإستراتيجية تضرب بجذورها في الخطاب الاستعماري الاستيطاني الغربي الذي يستخدم ديباجات توراتية. فالمستعمرون الاستيطانيون هم «عبرانيون» أو «الشعب المختار»، والبلاد التي يفتحونها (سواء في أمريكا الشمالية أو جنوب أفريقيا أو فلسطين) هي «صهيون» أو «إسرائيل»، ويُشار إلى سكان هذه البلاد بـ «الكنعانيين»، ولذا فمصيرهم الإبادة. ثم تمت علمنة هذا الاتجاه وأصبح المستعمرون الاستيطانيون "حملة مشعل الحضارة الغربية والاستنارة" وسكان البلاد المغزوة هم «السكان الأصليون» أو «البدائيون» أو «الهمجيون» أو «المتخلفون» أو «الهنود الحمر». وفقدت بلادهم أسماءها فزيمبابوي أصبحت، على سبيل المثال، «روديسيا» ولم تَعُد بلاد الأباشي والتشيروكي تُسمَّى بأسمائها وإنما أصبحت «أمريكا» نسبة إلى "مكتشف" هذه البلاد (أميريجو فيسبوتشي). وقد حدث شيء مماثل في الخطاب الصهيوني، فالمستوطنون الصهاينة هم «العبرانيون» و(«الحالوتسيم» في المعجم العلماني، أي الرواد الذين وصلوا إلى الأرض فاكتشفوها). أما سكان البلاد الأصليون فقد أصبحوا إما «كنعانيين» أو «إشماعيليين» (وفي الصياغة البلفورية العلمانية «الجماعات غير اليهودية»). وتمت إعادة تسمية فلسطين فأصبحت «إسرائيل» وأصبحت عملية الاستيلاء على فلسطين هي مجرد «إعلان استقلال إسرائيل». واستمرت هذه العملية بعد عام 1948، فأصبحت أم الرشراش «إيلات» وأصبحت الضفة الغربية «يهودا والسامرة» . وقد اتسع نطاق هذه العملية في الوقت الحاضر بحيث بدأ الاتجاه نحو تغييب العالم العربي بأسره وليس الفلسطينيين وحدهم. ومن هنا الحديث عن «السوق الشرق أوسطية» بدلاً من الحديث عن «العالم العربي». فالسوق الشرق أوسطية تعني أن هناك بلداناً مختلفة في هذه «المنطقة» وأن عروبتها مسألة وهمية أو هامشية ليست ذات قيمة تفسيرية أو تصنيفية عالية.

ويبدو أن هناك اتجاهاً في هذه الأيام لمحو كلمة «مقاومة» من المعجم السياسي بحيث يهيمن دال واحد هو كلمة «إرهاب»، وتصبح أعمال المقاومة التي لها جذور تاريخية ومعنى محدد مجرد «إرهاب» أو «هجمات انتحارية» ليس لها سبب واضح ولا اتجاه مفهوم. ولذا، نجد أن مؤتمر شرم الشيخ حاول تعريف «الإرهاب» ولم يأت أي ذكر لكلمة «مقاومة». ومن هنا يمكن إدراك حجم الإنجاز الذي حققته اتفاقية وقف إطلاق النار بين لبنان (حزب الله) وإسرائيل، فهي اتفاقية قد نصت على حق الدفاع عن النفس، أي حق المقاومة.

٥ ـ الخلط المتعمد بين بعض الدوال وفرض نوع من

 الترادف بينها:
يعمد الصهاينة إلى الخلط بين بعض الدوال التي لها حدود معروفة. ومن أهم هذه العمليات محاولة الخلط بين مصطلحات «يهودي» و«صهيوني» و«إسرائيلي» وأحياناً «عبراني»، وذلك على الرغم من أن كل مصطلح له مجاله الدلالي الواضح. وقد جرى الخلط بينها لتأكيد مفهوم الوحدة اليهودية الذي يشكل جوهر الرؤية الصهيونية. وقد شاع الاستخدام الصهيوني في العقول حتى أصبح الحديث عن «الدولة اليهودية» و«دولة اليهود» و«الدولة الصهيونية» ممكناً باعتبارها عبارات مترادفة.

٦ ـ استخدام اسم يشير إلى مسميات مختلفة:
يُستخدم اسم مثل «الشعب اليهودي» دون تعريف هذا الشعب اليهودي، و«إرتس يسرائيل» دون التحدث عن حدودها. وحيث إن لكل صهيوني تعريفه الخاص، فإن الاسم هنا يشير إلى مسميات مختلفة تختلف باختلاف من يستخدم الدالّ: توطينياً كان أم استيطانياً، علمانياً كان أم متديناً؟ وهذا الإبهام يعني أن الصهيوني يمكن أن يكون معتدلاً إن شاء (فيُصرح بأن الشعب اليهودي هو من هاجر بالفعل إلى إسرائيل)، ويمكنه أن يكون متطرفاً إن ذكر عكس ذلك (الشعب اليهودي هو كل يهودي أينما كان)، وحدود إرتس يسرائيل هي حدود 1948 أو 1967 أو من النيل إلى الفرات، والأمر متروك دائماً للاعتبارات البرجماتية. والشيء نفسه ينطبق على مصطلح «صهيوني» نفسه، فهو مصطلح مطلق يشير إلى كل من يرى نفسه كذلك، بغض النظر عما يفعله بعد ذلك. فاليهودي، الذي يجعل الولايات المتحدة وطنه ويقود سيارته مكيفة الهواء ويدفع بضعة دولارات للمنظمة الصهيونية، يمكن أن يعتبر نفسه صهيونياً (إن كان ذلك يروق له)، ومن ينتقل إلى الضفة الغربية ويحمل السلاح ضد أهلها هو صهيوني كذلك.

ويمكننا هنا الإشارة إلى الصورة المجازية العضوية الحلولية الكمونية المتواترة في الخطاب الصهيوني، فهي صورة مجازية تفترض أن الأرض والشعب متوحدان من خلال روح تحل فيهما هي مصدر التماسك العضوي بينهما. وهذه الروح تُسمَّى «الإله» في الخطاب الديني، وهي «روح الشعب» في الخطاب العلماني. وداخل هذا الإطار، يمكن أن يشير الدالّ الواحد (الروح) إلى مدلولين. وأثناء إعداد وثيقة إعلان الدولة الصهيونية التي يُقال لها «وثيقة إعلان استقلال إسرائيل»، نشب خلاف بين الصهاينة الإثنيين الدينيين والصهاينة العلمانيين حول عبارة «واضعين ثقتنا في الإله» حيث أصر الدينيون على تضمينها في ديباجة الوثيقة. وقد حُلَّ الخلاف عن طريق تبنِّي عبارة «تسور يسرائيل» والتي تعني حرفياً «صخرة إسرائيل» ولكنها تعني أيضاً «الإله». ومعنى هذا أن دالاً واحداً وهو «صخرة إسرائيل» يمكن أن يؤدي معنىً إلحادياً للعلمانيين ومعنى دينياً للمتدينين، فالصخرة قد تكون الإله وقد تكون روح الشعب وقد تكون أساساً مادياً متيناً لتأسيس الدولة الصهيونية.

ــــــــــــــــــــــــــــ

كتاب "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية"



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق