الساعات الأخيرة في حياة الإنسان
الموت نهاية كل حى، وقد مات من قبلنا حتى الأنبياء، وجعل الله تعالى لكل إنسان أجلاً لا يتعداه، سبق به العلم الإلهى الأزلى، يظهره الله تعالى للملائكة عند اكتمال أربعة أشهر من حياة الجنين فى بطن أمه، ففى صحيح الحديث عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات، يكتب رزقه وأجله وعمله وشقى أو سعيد...".
وتمضى بالإنسان الحياة حتى تأتى الساعات الأخيرة، قد يكون فيها مريضاً أو صحيحاً، وقد يكون قائماً أو قاعداً، وقد يكون حاضراً أو مسافراً، وقد يكون فى برٍ أو بحر أو جو، وقد يكون وحيدًا أو وسط أهله وعشيرته..
قال الله تعالى: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (نوح:4).
وإذا استشعر الإنسان دنو أجله وجب عليه أن يحسن الظن بالله تعالى ويغلب جانب الرجاء ويطمع فى رحمة الله تعالى ما دام مؤمناً.. وقد صح فى الحديث عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول : "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل".
وعندما يكون الإنسان مريضاً فإن له واجبات وعليه حقوقا منها:
1- أن يصبر ويحتسب ويوقن بثواب الله.. ففى صحيح الحديث.. "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، (النصب: التعب، والوصب: المرض). ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه".
2- لا يكره الحياة ولا يضجر من مرضه ولا يسخط على القدر ولا يتمنى الموت، فإن الحياة خير للمحسن وللمسئ على سواء، فقد يزداد المحسن إحساناً وقد يقلع المسىء عن إساءته.. وفى صحيح مسلم.. لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه فإن كان لابد فاعلاً فليقل: "اللهم أحينى ما كانت الحياة خيراً لى، وتوفنى إذا كانت الوفاة خيراً لى".
وقد يستثنى من ذلك وقت اقتراب الساعة وظهور الفتن المهلكات وتعاقب المصائب الدينية والدنيوية.. ففى صحيح البخارى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول ياليتنى مكانه".
3- عيادة المريض أدب إسلامى، وأحد حقوق المسلم على المسلم، وفى صحيح البخارى قال عليه الصلاة والسلام: "عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكوا العانى".
ويطلب من العائد الدعاء للمريض والتنفيس له فى الأجل بمعنى تبشيره بالشفاء وتهوين الأمر عليه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يعود مريضاً يقول: "لا بأس، طهور إن شاء الله".
بسم الله أرقيك، من كل شىء يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك..
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك..
اللهم رب الناس أذهب البأس واشف، أنت الشافى لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما".
وعندما تأتى اللحظات الأخيرة من حياة الإنسان تحضره الملائكة لتنتقل به من حياة الدنيا إلى حياة البرزخ تمهيداً للبعث يوم القيامة والحساب والجزاء.
وقد جاء البيان القرآنى بنسبة التوفى إلى الله تعالى فى قوله: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الزمر:42).
وجاء البيان القرآنى- أيضا- بنسبة التوفى إلى الملائكة فى قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (الأنعام:61).
وجاء البيان القرآنى كذلك بنسبة التوفى إلى ملك الموت وحده فقال تعالى: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (السجدة:11).
ولا تعارض فى هذا البيان القرآنى فالله تعالى هو صاحب الخلق والأمر يأمر بقبض الأرواح، ويتوجه هذا الأمر إلى ملك الموت الذى يقود أعواناً له ينزعون الأرواح من الأبدان حتى إذا بلغت الحلقوم تولاها ملك الموت بنفسه، أو أن ملك الموت يتولى قبض الأرواح ثم يسلمها إلى ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب ليبدؤوا مع الإنسان مسيرة الحساب.
هذا وقد وردت آثار تفيد كراهة موت الفجأة أو الفجاءة، وهو الموت بغير سبب ظاهر ممهد للموت لما فيه من عدم التمكن من الاستعداد بالتوبة وبيان حقوق العباد والوصية بخير. وروى فى مسند الإمام أحمد بسنده عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم مر بجدار مائل فأسرع وقال: أكره موت الفوات.
ومن الخير أن يستدرك الولد ما فات أبويه عند موت الفجأة، ففى صحيح البخارى أن رجلا قال للنبى صلى الله عليه وسلم: "إن أمى افتلِتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها من أجر إن تصدقت عنها، قال: نعم".
وللموت سكرات أشار إليها القرآن الكريم فى قوله تعالى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (ق:19).
وقد ثبت فى الصحيح عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: دخلت على النبى صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فمسسته فقلت: إنك لتوعك وعكاً شديداً، فقال: أجل إنى أوعك كما يوعك رجلان منكم، وتقول السيدة عائشة رضى الله عنها: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالموت، عنده قدح فيه ماء، وهو يدخل يده فى القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: "اللهم أعنى على غمرات الموت وسكرات الموت..".
وفى رواية: أن النبى صلى الله عليه وسلم لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: "سبحان الله إن للموت لسكرات".
وكان من دعاء الرسول وهو مستند إلى صدر السيدة عائشة: "اللهم اغفر لى وارحمنى وألحقنى بالرفيق الأعلى".
ومن السنة تلقين الميت الشهادتين وتغميض عينيه والدعاء له بالخير والتسليم لله عز وجل..
وفى صحيح مسلم بسنده عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله".. وروى أبو داود والحاكم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة".
ونقل الإمام ابن حجر عن الزين بن المنير قوله: هذا الخبر يتناول بلفظه من قالها فبغته الموت أو طالت حياته لكن لم يتكلم بشىء غيرها، ويخرج بمفهومه من تكلم لكن استصحب حكمها من غير تجديد نطق بها.
فإن عمل أعمالاً سيئة كان فى المشيئة، وإن عمل أعمالاً صالحة فلعل سعة رحمة الله تقتضى أن لا فرق بين الإسلام النطقى والحكمى المستصحب".
وتحكى السيدة أم سلمة موقف احتضار زوجها أبى سلمة فتقول: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبى سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر، فضج ناس من أهله فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، ثم قال: اللهم اغفر لأبى سلمة وارفع درجته فى المهديين، واخلفه فى عقبه فى الغابرين، واغفر لنا وله يارب العالمين، وأفسح له فى قبره ونور له فيه.
وفى لحظات الاحتضار الأخيرة يكون الناس على أصناف ثلاثة:
أ- المقربون وتبشرهم الملائكة بالروح والريحان وجنة النعيم.
ب- أصحاب اليمين وتبشرهم الملائكة بالسلامة والأمن.
ج- المكذبون الضالون وتتوعدهم الملائكة بالجحيم وأهواله ففى سورة الواقعة جاءت آية الاحتضار والتحدى فى قوله تعالى: (فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ*فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) (الواقعة:83-87).
ثم فصلت الآيات أحوال الناس فى هذه اللحظات الأخيرة فقال الله تعالى: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ*إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) (الواقعة:88-95).
وقد تكرر هذا المعنى فى أكثر من آية قرآنية، منها ما يشرح أحوال المؤمنين عند الاحتضار ومنها ما يشرح أحوال الكافرين.. ونقرأ فى حق المؤمنين قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (فصلت:30-32).
فالملائكة تتنزل على المؤمنين فى مواقف الشدة ومواطن العسرة، عند الموت وفى القبر وحين البعث، وهذا التنزل لتثبيت المؤمنين والربط على قلوبهم حتى لا يخافوا مما هم قادمون عليه من أمر الأخرة، ولا يحزنوا على ما فاتهم من الدنيا من أولاد أو أموال أو جاه فإن لهم البشرى الدائمة وسط الأحوال إلى أن يستقروا خالدين فى الفردوس والنعيم المقيم.
ونقرأ فى وصف أحوال الكافرين فى هذه اللحظات الحرجة قول الله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (الأنعام:93).
فالملائكة تتوعد الكافرين بالعذاب والنكال الذى ينتظرهم عقب الموت وتقوم الملائكة بضرب أجساد هؤلاء الطغاة فى محاولة شديدة قاسية لإخراج الروح من الجسد بالعنف والقهر، ويقع هذا الضرب على الوجوه والأدبار كما جاء فى قول الله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) (محمد:27).
ويترتب على هذا الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين حب لقاء الله أو بغضه، فالمؤمن فى هذه اللحظات الأخيرة يحب لقاء الله استعجالاً للبشريات التى تنتظره والكافر يكره لقاء الله هروباً من سوء المنقلب.. وفى رواية للإمام أحمد قال النبى صلى الله عليه وسلم: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فأكب القوم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: إنا نكره الموت، قال عليه الصلاة والسلام: ليس ذاك ولكنه إذا احتضر (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) (الواقعة:88-89) فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله عز وجل، والله عز وجل للقائه أحب (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ*وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) (الواقعة:92-94) فإذا بشر بذلك كره لقاء الله، والله تعالى للقائه أكره".
ويتواصل هذا الشعور بالحب أو الكره مع تشييع الجنازة وحمل الناس للميت، ففى صحيح البخارى قال عليه الصلاة والسلام. إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت قدمونى وإن كانت غيرصالحة قالت يا ويلها أين يذهبون بها؟! يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعه لصعق".
ولذا كان من الهدى النبوى الإسراع بالجنازة وعدم البطء فى المشىء بها سواء كان المشيعون أمامها أو خلفها أو عن يمينها أو عن شمالها.. وفى صحيح البخارى قال عليه الصلاه والسلام: أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم.
ولنعلم أن مشاهدات الإنسان فى الساعات الأخيرة والحوار الملائكى معه.. فى ذلك نوع حياة جديدة غير ما تعارفنا عليه فى حياتنا الدنيا، ولقد عشنا حياتين سابقتين هما حياة الرحم والحياة على ظهر هذه الأرض ولكل منهما قوانين لا تقبل الانتقال إلى الحياة الأخرى، فكذلك حياة الساعات الأخيرة وخروج الروح فى نوع من الحياة لا يعلم حقيقتها إلا المولى سبحانه وتعالى الذى يخلق ما يشاء ويختار، ونحن نتكلم هنا بقدر ما صح نقلا عن الوحى الإلهى.
بقلم: أ. د. محمد سيد أحمد المسير
أستاذ العقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين- جامعة الأزهر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق