الخميس، 17 يوليو 2014

غزة وجريمة العصر

غزة وجريمة العصر

عادل سليمان


تبدو الأحداث وكأنها تمضي متسارعة، عدوان إسرائيلي متصاعد على قطاع غزة، ومقاومة فلسطينية صامدة ومثابرة وعنيدة، وأيضاً متطورة ومبدعة، تحركات دولية وإقليمية وبيانات وتصريحات ومبادرات، أصوات ضرس عالية، ولكن كالعادة من دون طحن، وكأن الجميع يجرون على جهاز مشي كهربائي منزلي، ولا يراوحون أماكنهم! المشهد يعيد إنتاج نفسه من جديد: عدوان ديسمبر/كانون الأول 2008، ثم يناير/كانون ثاني 2009، وعدوان 2012، ثم عدوان 2014.
 ولو رجعنا إلى مواقف كل الأطراف، وحتى تصريحات المسؤولين إبان تلك العدوانات، لوجدناها متطابقةً، ربما حرفياً.

أميركا والغرب يتحدثون عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وحماية مواطنيها ضد الإرهاب (المقاومة)، وتعاطف مع الضحايا من الأطفال والنساء (ضحايا دفاع إسرائيل عن نفسها عبر جرائم الحرب التي ترتكبها ضد أهل غزة العزل)، ثم دعوات وحملات إغاثة إنسانية لقطاع غزة من منظمات وجمعيات، وأيضاً بعض الحكومات، ناهيك عن بيانات الشجب والإدانة من جامعة الدول العربية وبعض دولها، ومطالبة المجتمع الدولي بالتدخل، لوضع حد لمعاناة الشعب الفلسطيني في غزة، ثم يهدأ كل شيء، ويلملم الفلسطينيون جراحهم، ويعيشون على ركام بيوتهم وأنقاضها، ويضيفون إلى قوائم شهدائهم وضحاياهم مئات جدداً، وتستمر الجريمة قائمة. 

هذا ما يعنينا في هذا المقام.

الجريمة المستمرة، جريمة العصر الذي نعيشه، فلكل عصر جريمته الكبرى، لأن البشرية في تطورها، وانتقالها من عصر إلى آخر، كما تقدم إنجازات حضارية، تعتز بها، فإنها، أيضاً، ترتكب جرائم بشعة! فقد كانت جريمة العصور الوسطى هي العبودية، تملك البشر للبشر. تلك كانت جريمة ذلك العصر بكل تأكيد، عانت منها البشرية قروناً طويلة، ووقف الجميع عاجزاً أمامها، حتى الأديان السماوية التي تصدت لها لم تستطع التخلص منها. والذي لم يبدأ التصدي لها إلا بانتقال البشرية إلى العصر الحديث، وإن كانت بقايا العبودية لا زالت موجودة بأشكال متعددة، من عبودية مباشرة في بعض مناطق اليمن وإفريقيا جنوب الصحراء إلى عبودية مقنعة في شكل تجارة الرقيق والأعضاء البشرية، ولا زال المجتمع الدولي يناضل لمكافحتها.

جاء العصر الحديث، أيضاً، بجريمته الكبرى وهي الاستعمار، حيث تطورت جريمة العبودية من استعبادٍ فردي للبشر إلى احتلال جماعيٍ للشعوب، وتسخيرها لخدمة المستعمر، ووقعت شعوب ودول، وأحياناً قارات بأكملها تحت سيطرة المحتل، وامتد الاحتلال من أميركا، شمالها وجنوبها، إلى إفريقيا وآسيا وناضلت الشعوب كثيراً حتى بدأ شبح الاستعمار ينحسر عنها رويداً رويداً، ولا زالت أيضاً بقاياه تقاوم، مما دفع المنظمة الدولية إلى تشكيل لجنة دائمة، بمسمّى "تصفية الاستعمار"، وبينما تتطلع البشرية إلى عالم خالٍ من عار الاستعمار، وهي تنطلق إلى عصر ما بعد الحداثة بخطى متسارعة، عصر العولمة وحقوق الإنسان، عصر الحريات بكل أبعادها.

وفي وسط كل هذا الزخم، تطل علينا جريمة كبرى، هي بحق جريمة هذا العصر، عصر ما بعد الحداثة، جريمة اسمها غزة. غزة قطاع من الأرض، مساحته 360 كم٢، يعيش عليها حوالي 1.7 مليون إنسان، كل جريمتهم أنهم عرب فلسطينيون أغلبيتهم مسلمون، ينتمون إلى شعب تقرر أن تستباح أرضه ومقدراته لصالح آخرين، هو الشعب الفلسطيني الذي وجد فيه العالم الغربي "الحر"، أيضاً، في أرضه حلاً، لمشكلة كانت تسبب له إزعاجاً كبيراً، وهي المعروفة باسم "المسألة اليهودية"، فقرر هذا العالم "الحر" أن يجعل من تلك الأرض الفلسطينية العربية وطناً قومياً لليهود، يقيمون عليه دولةً، يتخذون لها اسماً تاريخياً هو "إسرائيل"، ويمدها بكل عناصر البقاء والقوة ومقوماتهما، على حساب ذلك الشعب. وباقي القصة/ الجريمة معروفة للكافة، حتى وصلت إلى هذا الفصل الذي تجسدت فيه جريمة عصر ما بعد الحداثة، في كلمة من ثلاثة حروف، غزة، حيث يفرض عليها حصار شامل، بري وبحري وجوي، ويمنع على أهلها التحرك، أيضاً، البري والبحري والجوي، وأضيف أخيراً بعدٌ آخر، هو تحت الأرض!

لا يقف الأمر عند حد الحصار، ولكن، حولت إسرائيل القطاع إلى ميدان مستباح للرماية الحية وتجربة كل أنواع الأسلحة على الأهداف البشرية الحية مباشرة، من أطفال وشباب ونساء ورجال مسنين، وأيضاً مبانٍ ومساكن ومنشآت. وليس من حق هؤلاء البشر أن يحاولوا مجرد محاولة للدفاع عن أنفسهم، وإلا فهم إرهابيون يمارسون العنف ضد المواطنين الإسرائيليين الآمنين الطيبين، وتتعالى أصوات العالم "الحر" أن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها ضد هذا "الإرهاب"! وحتى من يطلق عليهم الأشقاء العرب يقولون نحن ندعو إلى وقف العنف المتبادل فوراً! جريمة متكاملة الأركان، متعددة الأبعاد، فهي جريمة حرب وجريمة إبادة جماعية، وجريمة ضد الإنسانية، وفي أبسط تعريف جنائي هي جريمة قتل مقترنة بالسرقة.

لا أجد ما أنهي به مقالي سوى صرخة من سيدة فلسطينية حرة على أنقاض بيتها، وأشلاء أسرتها بعد قصف إسرائيلي (ما إلنا الا الله ونفسنا).
حقاً، ما لهم إلا الله وأنفسهم، وحتماً سينصرهم الله، لأنهم لم يتواكلوا، بل خرجوا لمقاومة العدو وهم مستعدون للتضحية بأرواحهم ودمائهم وبيوتهم، من أجل حريتهم وكرامتهم.
وستبقى غزة جريمة العصر عاراً في رقاب هذا العالم الذي يدّعي أنه حر، ولا عزاء لأمة اسمها العربية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق