“لنمنح طالبان فرصة”
- ترجمة/ شيماء نعمان
بينما يتوقع الخبراء حدوث تداعيات جدية في أفغانستان في أعقاب انسحاب البعثة القتالية الأمريكية المقرر مغادرتها البلاد الشهر المقبل، ظهرت أصوات إعلامية تطالب بضرورة بدء حوار حقيقي بين الحكومة الأفغانية وقيادات طالبان ليكون للحركة دور فعلي في إدارة البلاد في المرحلة القادمة بعد أن أزاحتها من الحكم الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على أفغانستان عام 2001 وسقوط البلاد في دوامة من العنف والفشل لا تزال تلاحقها حتى الآن.
وقد أكد الكاتب الصحفي “جاك فيرويزر” على ضرورة منح فرصة جديدة لطالبان والاعتراف بتأثيرها الفعلي في المناطق الجنوبية والشرقية الأفغانية.
فيما يلي نص مقاله الذي نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية تحت عنوان
“لنمنح طالبان فرصة”
مع اقتراب انتهاء انتشار البعثة القتالية الأمريكية في أفغانستان في ديسمبر المقبل، بدا الجنود الأمريكيون المغادرون مكتوفي الأيدي بينما سيطرت طالبان على أجزاء من المناطق القبلية النائية التي طالما أنهكهم العمل من أجل تهدئة الأوضاع فيها.
وربما كان إخفاق الحكومة الأفغانية في السيطرة على الأحياء النائية أمر مزعج للكثيرين؛ إلا أن عودة طالبان ليست بالضرورة شيئًا سيئًا.
فقد سعى الغرب على مدى 13 عامًا إلى فرض رؤيته الخاصة على أفغانستان، غير أنه بدلاً من بناء دولة تقوم على العدل وقابلة للاستمرار، قام ببناء دولة فرانكشتانية مشوهة لا تنبض بالحياة إلا عبر ضخ مبالغ وافرة من الأموال وعشرات الآلاف من الجنود.
إن الوقت قد حان للسماح لهذا البناء- القائم على معتقد في غير محله في بناء الأمم – أن يتلاشى وأن يتم السماح للأفغان بصياغة نظامهم الخاص حتى وإن بدا به خلل أو نقيصة.
ويحتم الواقع على أي حكومة أفغانية مستقبلاً أن تتضمن دورًا لطالبان، وأن تعترف أن معظم المناطق الجنوبية خارج المدن الكبرى ستتم إدارتها من قبل طالبان والمجالس القبلية التي لا تولي كبير اهتمام أو حتى مهادنة كلامية مع العاصمة كابول.
وكانت جماعات متحالفة مع طالبان قد نجحت فعليًا خلال العام الماضي في شق طريقها داخل محافظتي هلمند وأوروزجان.
ومثل هذا السيناريو يبعد كل البعد عن الرؤية الغربية لأفغانستان والتي دأب على طرحها الجنود والسياسيون على مدى العقد الماضي؛ وهي الرؤية التي اعتبرت طالبان بمثابة تهديد ظلامي لوجود الحكومة الديموقراطية الشاملة التي سعينا لإقامتها.
بيد أن ذلك يعكس الحقيقة العميقة لهذا البلد الذي يغلب عليه الطابع الريفي والعشائري، والذي لم تكن طالبان به يومًا كيانًا أحاديًا، وهو عامل آخر في الاضطرابات السياسية القبلية.
وينبغي على إدارة الرئيس “أشرف غني” الجديدة الوصول إلى هذه الجماعات وصياغة التسوية السياسية التي تفتقدها البلاد حتى الآن. وسوف تزداد فرص نجاحه لاسيما مع الدعم الأمريكي؛ فقط في حال استطاعت واشنطن إداراك دورها في البلاد على نحو جديد.
ويبدأ ذلك بالسماح للأفغان بأخذ زمام المبادرة في التفاوض بشأن السياسات المعقدة للحرب. هذا، ولم يبد الرئيس أوباما حتى الآن أي رغبة في الاستماع. وقد تأرجحت سياسته بشأن أفغانستان في خطوط متعرجة بين النقيضين. وكان أوباما قد صادق في عام 2009 على مضاعفة أعداد القوات في أفغانستان ثلاثة أضعاف لتبلغ 100.000 جندي وذلك على الرغم من المخاوف التي أثارها الرئيس الأفغاني آنذاك “حامد كرزاي” بشأن جدوى ذلك.
وبعدما أثبتت الحكومة الأفغانية بأنها غير راغبة أو قادرة على إدارة المناطق القبلية، اتخذ السيد أوباما وجهة عكسية، حيث عمل في السنوات الأخيرة على فك الارتباط إلى حد كبير فيما كان يتم سحب قوات “الزيادة”.
وقد أخبرني المئات من الأفغان ممن التقيت بهم وأجريت معهم مقابلات على مدى السنوات العشر الماضية أنهم لا يرغبون في أي من النهجين. وما يطالبون به هو ارتباط الولايات المتحدة وشراكتها شريطة أن يكون ذلك وفق شروطهم. إن السماح للأفغان بأخذ زمام المبادرة فيما نواصل شراكتنا هو أمر بالغ الأهمية نظرًا لكون طالبان ليست هي الشاغل الوحيد للحكومتين الأمريكية والأفغانية. فباكستان تستخدم البلاد في معركتها ضد الهند. فيما تصر إيران على دعم المسلمين الشيعة. فطالما كانت أفغانستان موطنًا لحروب غيرها من الدول.
وإذا ما قامت الولايات المتحدة بعمل استعراض أجوف لسحب القوات، فإنها ربما تحرز مزايا سياسية على أرض الوطن لكن ذلك لن يؤدي إلا إلى تغذية حالة من الفراغ في السلطة في أفغانستان أمام آخرين ليملئونه. ولأزمة الراهنة في العراق تظهر مخاطر الانسحاب على نحو متهور.
وكما يتعين على أمريكا أن تصل إلى الإدراك المؤلم بأنه من غير الممكن القضاء على طالبان، فإنه يتعين كذلك حمل العناصر الميليشية ومؤيدوهم في الحكومة الباكستانية على أن يدركوا أن الولايات المتحدة مستمرة في دعم الحكومة الأفغانية على المدى الطويل.
ويأتي السؤال المنطقي بشأن ما إذا كانت طلبان ستقبل بهذه الأدوار المختزلة أم لآ. وبالنظر إلى كونهم قد حكموا البلاد بأسرها في وقت ما، فإنه من اليسير أن تعتقد أنهم لن يقبلوا بما هو أقل. بيد أن الجهود الأمريكية المتعثرة في المحادثات مع طالبان في غضون السنوات الأخيرة قد أظهرت إلى أي مدى يمكن لقيادتهم بكل سهولة التعامل مع مثل تلك البدايات.
ويمكن للمفاوضات أن تكون ذات معنى في حال أصبحت جزء من مصالحة أعمق بين الفصائل المختلفة في البلاد والقوى الإقليمية التي تساندها. فحركة طالبان، برغم كل شيء، شق منها. وسيجد السيد غني في المناطق النائية من أفغانستان أن هناك اتفاقات ينبغي عقدها مع القادة المحليين وزعماء القبائل الساخطين. فإذا ما تمكن من دمج مثل تلك الاتفاقات في إطار تسوية سياسية أوسع نطاقًا- وهي الرؤية التي استعصت على سلفه السيد كرزاي- سيكون من الصعب على طالبان تجاهله.
وقد بدأت الخطوط العريضة لأفغانستان المستقبل في الظهور- حيث تدير الحكومة المدن الرئيسية فيما تدير طالبان وفروعها المناطق القبلية النائية في البلاد في الجنوب والشرق. لقد كان السيد غني إصلاحي متقد الذهن كأول وزير مالية للبلاد في أعقاب حكم طالبان. وسوف يتعين عليه هذه المرة قبول واقع السياسة الأفغانية الشظف في بعض الأحيان، حيث لكل شيء ثمنه.
ويذكر أنه في ديسمبر عام 2001 كانت قيادة طالبان قد دخلت في مفاوضات مع السيد كرزاي بشأن شروط الاستسلام، إلا أن المحادثات تم إيقافها من قبل وزير الدفاع الأمريكي السابق “دونالد رامسفيلد”. أما الآن فنحن نبعد كثيرًا عن تلك اللحظة، وما لم يبدأ السيد غني في الدخول في محادثات مع مسئولي طالبان، فإنه لن يعرف ما هي مطالبهم.
ويمكن للولايات المتحدة أن تلعب دورًا حيويًا في الجمع بين كل الأطراف ما لم تسع لفرض قيود على من سيكون الطرف الذي تتحدث إليه الحكومة الأفغانية. ويجب عليها أن تعمل نحو مواءمة المصالح بين أفغانستان وجيرانها، وبالدرجة الأولى باكستان، التي تخوض حربًا ضد نسختها الخاصة من طالبان. فكلاً من كابول وإسلام أباد لديهما الكثير من القواسم المشتركة. وليس هناك حل سريع، إلا ان أي حوار من شأنه أن يقلص من التدخل الخارجي في أفغانستان ينبغي القبول به.
ولكن كيف ستبدو أفغانستان بإدارة أفغانية؟ ستبدو متدينة ومحافظة بصورة واضحة وليست أقل فسادًا، ولكن يمكن القول أنها ستكون أفضل من أفغانستان ذات القيادة الأمريكية.
ووفقًا لتقرير للبنك الدولي فإنه في ذروة عمليات زيادة حجم القوات في عام 2011، ضخ الغرب 15.7 مليار دولار إلى أفغانستان كمساعدات. ومع ذلك تم تسليم 88% منها خارج الميزانية- أي أنها تم إنفاقها من قبل المانحين بدلاً من الحكومة الأفغانية.
ولم تبق معظم تلك الأموال في البلاد، بل ارتدت إلى الوراء مرة أخرى عن طريق المقاولين. في الوقت نفسه، فإن العديد من النجاحات التي تحققت في أفغانستان منذ عام 2001؛ مثل التوسع في نظام المدارس الإبتدائية للبنين والبنات وتشكيل ثقافة إعلامية نشطة، ليس لها ثمة علاقة بالمساعدات الغربية.
كما أن أفضل برنامج لإعادة البناء في البلاد- يدار بأقل النفقات- ويتضمن قيام المجتمعات المحلية باختيار وإدارة مشروعاتهم الخاصة.
إن الدروس المستقاة من الحرب الأفغانية متعددة، ولكن ربما يمكن تلخيصها كالتالي: استمع إلى أولئك الذين تحاول مساعدتهم. لا تحاول أن تفعل أكثر من اللازم. لأنه سيستغرق وقتًا أطول مما تعتقد.
ويُعتقد أن السياسي “الإسرائيلي” “آبا إبان” قال ذات مرة: “يمكنك دائمًا أن تعتمد على الأمريكيين لفعل الشيء الصحيح- ولكن بعد أن يكونوا قد استنفذوا كل خيار آخر”
(وهو تعليق ينسب أحيانًا إلى “وينستون تشرشل”).
لقد وصلنا إلى هذه المرحلة في أفغانستان. والمأمول أن تستغنى الولايات المتحدة في نهاية المطاف عن خططها أحادية الجانب لبناء الأمة وما يتبعها من جداول زمنية لإلحاق الهزيمة بطالبان في مقابل رؤية أكثر واقعية واستمرارًا للبلاد.
*جاك فيرويزر: كاتب صحفي متخصص في شأن الشرق الأوسط ويعمل كمراسل لشبكة “بلومبرج نيوز” وصاحب كتاب “الحرب الجيدة: لماذا لم نستطع كسب الحرب أو السلام في أفغانستان”
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق