الأربعاء، 19 نوفمبر 2014

مأساة الهشتاج

مأساة الهشتاج

وائل قنديل

إذن، فقد حل "الوطن" في السيسي، ولو تابعت ما يصدر عن الرجل من تصريحات، ستجده يجسد قولة "أنا الوطن والوطن أنا" على طريقة الحلاج (الحسين بن منصور المحمي) الذي مات مقتولاً مصلوباً بأمر الخليفة في القرن الرابع الهجري، متهما بالتجديف والكفر، لأنه استبد به الحس الصوفي، فأطلق صيحته الشهيرة "أنا الحق والحق أنا" "مأساة الحلاج"، كما صورها شعرياً صلاح عبد الصبور، قبل عامين من نكسة يونيو/ حزيران ١٩٦٧، تختلف عن "مأساة الهشتاج"، فالأول بلغ به الاتصال الروحي بالله أنه وجد نفسه تحت طائلة تفسيرات فقهاء السلطة التي تتهمه بالاعتقاد في "حلول الله في شخصه"، بينما في الحالة الثانية بلغ التوحد مع نفسه المتضخمة، والانفصال التام عن الواقع، أن استسلم لتخرصات علماء وعوالم سلطة الانقلاب، تسوِّل له أنه "الوطن والدين"، بعد أن حلّا وتجسدا في شخصه.
وكما يرى الرجل أنه الوطن والوطن هو، يجنح كتبته وخدم سلطته إلى اعتناق حلوله في أشخاصهم، أو بالأحرى ادعاء حلوله بهم، بحيث يكاد أحدهم ينطق "أنا السيسي والسيسي أنا" غير أن حالة ادعاء حلول الزعيم في أشخاص حاشيته، تتطلب حتماً ومسبقاً تكريس وتثبيت فكرة حلول الوطن في الزعيم السماوي، ليس بمعنى القدوم من السماء، وإنما الذي يسلك مع الشعب، كما فعلت السلطات الصينية، وأوقعت مذبحة بصفوف معارضيها في ميدان" السلام السماوي" عام 1989.
لقد بلغ الإيمان بعقيدة "حلول الدين والوطن في السيسي" أن إعلامياً من حاشيته أعلنها صريحة على الشاشة، القمع في مصر وصل إلى حد أن كل من يعارض عبد الفتاح السيسي يتم صلبه. كان الرجل يحكي، بألم مصنوع جيداً على ملامحه، عن حفلات الصلب المعنوي الذي يتم لمن يحاول أن يكون نقدياً من داخل معسكر السيسي، سعد الدين إبراهيم نموذجاً، غير أن عمليات الصلب المادي والتعليق كالذبائح في زنازين الحجز والاعتقال للمعارضين من خارج معسكر الانقلاب لا تثير غضباً، أو ألماً، أو امتعاضاً لدى أحد منهم بالطبع. 
وبمناسبة الصلب، بمعنييه المعنوي والمادي، فإن الواجب يقتضي تصحيح معلومةٍ، أو تفنيد أكذوبة جرى ترويجها في ذكرى مذبحة محمد محمود، بشأن السياسي والبرلماني الإخواني المسجون، الدكتور محمد البلتاجي، إذ يتم تداول مداخلة تلفزيونية للبلتاجي مع لعب بالتواريخ لإدانته ظلماً.
إن بعضهم يخلط بسذاجةٍ، أو بخبث، بين أحداث محمد محمود الأولى، نوفمبر 2011، ومحمد محمود نوفمبر 2013، التي راح ضحيتها الشهيد "جيكا"، وقد كنت شاهداً على الاثنتين.
في الأولى، كان ثوار يناير في مواجهة بطش الشرطتين "الداخلية والعسكرية"، وفي الثانية كان المكان ملعباً مفتوحا للفلول والمواطنين الشرفاء والدولة العميقة.
في ليلة مقتل جيكا التقيت بكثيرين من ثوار يناير، قالوا كلهم: ليس هذا ميدان التحرير، ولا محمد محمود، وأن الموجودين في معظمهم وجوه غريبة على المكان ورمزيته، ونصحوا بأن نخرج جميعاً، لأن مجريات الأحداث تشير إلى أن "الطرف الثالث" يعربد وسيصنع كارثة.
هذه شهادتي للتاريخ، وأطالب كلاً من: المستشار زكريا عبد العزيز، والناشر محمد هاشم، ومؤسس رابطة أصحاب الدم، والد الشهيد، مهاب علي حسن، ومن كان لايزال حاضراً من حركة 6 إبريل بالإدلاء بشهاداتهم عن تلك الليلة. لكن، لا تفعلوا كما قال صلاح عبد الصبور ساخراً في "مأساة الحلاج":
إذا وليتم لا تنسوا أن تضعوا خمر السلطة في أكواب العدل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق