الثلاثاء، 23 يونيو 2015

الإفراج عن صحافيّ «الجزيرة»: عندما صحّحت ألمانيا خطأها

الإفراج عن صحافيّ «الجزيرة»: عندما صحّحت ألمانيا خطأها

أحمد بن راشد بن سعيّد

شكّل اعتقال صحافيّ قناة الجزيرة، أحمد منصور، يوم السبت الماضي، في مطار تيغيل بالعاصمة الألمانية برلين، صدمة لكثيرين ممن يرون في ألمانيا والدول الأوروبية الأخرى أنظمة ديموقراطية تتمتع بفصل للسلطات وباستقلال للقضاء.
وقبل أن يُفرج عن منصور مساء الإثنين، ربط محللون الاعتقال باستقبال ألمانيا قبل أسبوعين رئيس النظام الانقلابي في مصر، عبد الفتاح السيسي؛ بالرغم من اعتراضات رئيس البرلمان ورئيس حزب الخضر ووسائط إعلام ومنظمات سياسية وحقوقية رأت في الزيارة دعماً لدكتاتور، ومباركة لحملة قمع وحشية يشنها على معارضيه.
 لكن الزيارة مضت قُدُماً، بل تمخّضت عن توقيع اتفاقيات مهمة في مجال الطاقة والبنية التحتية بما في ذلك اتفاقية مع مجموعة «سيمنس» الصناعية بقيمة 9 بلايين دولار لتوريد محطات كهرباء تعمل بالغاز وطاقة الرياح.
 لم تكن الزيارة ونتائجها تطبيعاً مع أكبر اقتصاد أوروبي فحسب، بل كانت تعبيراً واضحاً عن دعم رسمي ألماني لقتل الديمقراطية في أكبر دولة عربية، ومحاولة لإضفاء الشرعية على عسكرتاريا فاشية ومدّها بأسباب البقاء.
وبعد ألمانيا، وجهت بريطانيا دعوة إلى السيسي لزيارتها. 
اللافت أن الدعوة تمت بعد حفلة أحكام الإعدامات الجماعية في مصر، بما فيها الحكم بإعدام الرئيس مرسي، أول رئيس مدني منتخب ديموقراطياً في البلاد، وهو ما أثار استهجان رابطة مسلمي بريطانيا، ومنظمة العفو الدولية التي وصفت الدعوة بأنها مثيرة للدهشة، وتنمّ عن قصر نظر؛ وتجاهل لانتهاكات حقوق الإنسان «المرعبة» في مصر.
بعد الإطاحة بالرئيس مرسي، تسابقت الحكومات الأوروبية إلى استقبال السيسي في عواصمها: فرنسا، إيطاليا، اليونان، ألمانيا، وبريطانيا. ما يهم الغرب ليس الديموقراطية في مصر (ولا في أي بلد عربي أو إسلامي)؛ ما يهمه هو مصالحه التي تقضي بإبعاد الشعوب عن إدارة شؤونها، وبإقصاء ممثليها الحقيقيين عن السلطة، وبالسهر على حماية الكيان الصهيوني مما قد يمسّ أمنه، أو حتى يثير قلقه.
ذهب السيسي إلى ألمانيا، بعد «تأجيل» أحكام الإعدام على مرسي ورفاقه؛ تخفيفاً للحرج على المستشارة الألمانية، أنغلينا ميركل. 
ولو قُدِّر للسيسي أن يزور بريطانيا (لم يُحدّد موعد الزيارة بعد)، فإن عاصفة من الاحتجاجات ستهب ضد الزيارة، بما في ذلك انتقادات حكومية شكلية، كالقول مثلاً إن الإعدامات «تثير القلق»، وإن «المتَّهمين» يستحقون «محاكمات عادلة». ولكن كل ذلك الهيجان والهيلمان لن يسفر عن تغيير يُذكر، وسيجري «تطويب» السيسي بصفته «الصبي المدلل» الذي يحرس مصالح الغرب.
ربما في هذا الإطار، استجابت ألمانيا لطلب طغمة الانقلاب اعتقال أحمد منصور، استناداً إلى اتهامات ملفَّقة ومثيرة للسخرية (تعذيب محام في ميدان التحرير، سرقة، اختطاف واغتصاب).
كان الاعتقال صادماً لأن السلطات الألمانية تعلم حقيقة ما يجري في مصر، وتعلم أن الحملة المكارثية السيسية لم تبق ولم تذر، وأن الاتهامات الموجهة إلى منصور زائفة وكيدية، ومع هذا ورّطت نفسها، وانحازت إلى سلطة غاشمة ارتكبت مجازر على الأرض، ومازالت ترتكب المجازر باسم القانون مصدرةً أحكام إعدام وسجن بالجملة على سياسيين منهم رئيس منتخب، ورئيس برلمان منتخب، ونوّاب منتخبون، وعلى صحافيين وناشطين حقوقيين ومواطنين عاديين.
 لم يمر الاعتقال بسلام، إذ شهدت برلين وباريس احتجاجات تندد بالاعتقال، وقالت فرانتسيسكا برانتنر، النائبة في البرلمان الألماني عن حزب الخضر المعارض، إنه «لا يجوز للقضاء في برلين تحت أي ظرف من الظروف أن يجعل نفسه مساعداً لتحقيق (رغبة) نظام تعسفي في القاهرة» مضيفةً أنه إذا سقط القضاء في برلين في هذه الشبهة، فإن سمعة ألمانيا ستتدمّر، ليس بين القوى الديمقراطية في مصر فحسب، وإنما أيضاً في أجزاء أخرى من العالم العربي.
بدا منذ اللحظات الأولى للاعتقال أن ألمانيا شعرت بأنها في مأزِق، وأن انخراط قضائها في هذه العملية يشكّل فضيحة أخلاقية وسياسية للدولة الأقوى في الاتحاد الأوروبي.
وتحت ضغط الحرج، صرّح المتحدث باسم مكتب الادعاء العام الألماني، مارتن شتيلتنر، أن ثمة احتمالاً لصدور قرار «في أي وقت» بإطلاق سراح منصور.
لم يلق أحد باللوم في هذا الأمر على نظام السيسي، فهو غارق في خزيه، لكن اللوم كان على ديموقراطية كألمانيا تتصاغر من أجل هواها الصهيوني، فترضى لنفسها أن تكون شرطي سلطة دموية وغير شرعية.
كما لم يمثّل اعتقال منصور اختباراً لليبروفاشي العربي، فهو ليس أكثر من بندقية مستأجرة؛ لكنه كان اختباراً لحرية التعبير التي (سلخ) الغرب المسلمين بسببها بعد الهجوم على مجلة شارلي إبدو في باريس.
 شعر كثير من العرب والمسلمين وهم يرون صحافيّ الجزيرة في قبضة الشرطة الألمانية بالمعايير المزدوجة لحرية التعبير وحقوق الإنسان؛ المعايير التي تتلاشى عندما يدخل المسلم والعربي طرفاً في قضية أو نقاش. أحمد حر الآن، لكن تداعيات ما جرى لم تنته.
يشهد المشرق العربي مخاضاً عسيراً: شعوب تثور على جلاديها، دماء تسيل من أجل الحرية والكرامة، وثورات مضادة مصممة على الانتصار أو الدمار. الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي ليست بعيدة عن هذا المخاض، وتسعى بكل طاقتها لتكون لحظة الميلاد حزينة، والمولود مشوهاً.
يمثّل الانحياز إلى الانقلاب في مصر تعبيراً عن القلق الغربي من استقلال العرب المسلمين ونهضتهم، ويمثل انحطاط السلوك الألماني والذي تجلى في اعتقال صحافي «الجزيرة» تعبيراً عن رفض وجود تيارات واتجاهات عربية مستقلة تتحدى الهيمنة الغربية، وتعارض «الدمى» التي نصّبتها وساندتها.
المصريون والعرب لا يستحقون الديموقراطية، و «القمع» حل مناسب لإبقائهم تحت التحكم، و»العسكر» أفضل الحلول.
هذه هي رسالة الاحتجاز يوم السبت الماضي في مطار تيغيل ببرلين، وهي رسالة سياسية، لا قانونية. لم تستطع السلطات الألمانية أن تتحمل تبعات اعتقال صحافي يتمتع بشهرة واسعة وصدقية عالية، فبادرت بالإفراج عنه حتى قبل أن يلتقي بالمدعي العام. لقد صوّبت ألمانيا خطأها الكبير، لكن إصلاح الضرر الذي أصاب سمعتها سيأخذ وقتاً.

• @LoveLiberty

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق