الجمعة، 26 يونيو 2015

بروتوكولات حكماء العرب -1-

بروتوكولات حكماء العرب

نص أدبي بقلم

دكتور محمد عباس

1334هـ

2013 م

إهداء


إلي شهداء رابعة..


إلى شهداء النهضة..


إلى الشهداء الساجدين..


إلى شهداء المنصة..


إلى شهداء رمسيس..


إلى شهداء أبي زعبل


إلى كل شهدائك يا مصر

....

أهدي هذا العمل..

ليس إهداء


لقد اكتشفت مذهولا أن البطل الرئيسي في هذا العمل الأدبي يكاد يكون هو الفريقالسيسي.. رغم أنني كتبته دون أن أعرف حتى اسمه..



بروتوكولات حكماء العرب

-1-


كيف وصلت إلىّ هذه البروتوكولات؟..

ليتني كنت أستطيع أن أقول لكم!!..

لكنني ممنوع من التصريح والبوح..

قد أستطيع أن أحوم من بعيد وأن أشير وأن ألمح .. لكنني لن أستطيع أبدا أن أبوح وأصرح..

ممنوع أنا من أن أمارس المتعة الوحيدة للبؤساء والمكروبين والمساكين .. متعة أن أفضفض بما عرفت وأن أثرثر بما سمعت وأن أحدث عما رأيت..

ممنوع..

ثم إن هناك مشكلة أخرى أبادر بالاعتراف بها.. وإلا بدا لي أو لكم أنني أتعمد الغموض كي أعطيكم إحساسا كاذبا بأهميتي.. أو أنني أتورط في الكذب عليكم كي أثير المزيد من فضولكم، فما ذكرته على الفور قد يوحي لكم بأنني أعرف الكثير الكثير لكني أخبئ هذا الكثير .. وأخفيه عنكم.. وذلك كله غير صحيح.. فما أشد جهلي بالأمر كله.. حتى أن كل ما أعرفه لم يرو فضولي أنا نفسي ولن يروي بالتالي فضولكم.. بل إنني أعترف أنني أكثر منكم فضولا.. فأنا المعنيُّ بالأمر بل والمتورط فيه دون إرادة مني.. ودون أي سابقة قد تبرر أو تفسر إسناد الأمر إلىّ أنا بالذات دون أي واحد منكم..

كنت مسكينا من المساكين مثل معظمكم.. حتى فوجئت بالأمر.. وبذلك الشخص المجهول الذي لم أره حتى الآن، وبتلك الرسالة الغامضة التي لا أعرف مبتداها أو منتهاها أو حتى فحواها.

لقد حذرني الشخص المجهول الذي أرسل إليّ هذه البروتوكولات من أن أبوح باسمه.. ودهشت من الأمر لأنه في الحقيقة لم يخبرني باسمه!!..

وحذرني من أن أشير إلى جنسيته رغم أنني لا أعرف من أي البلاد يكون.. كل ما قاله لي أنه من بلاد لا إله إلا الله محمد رسول الله.. وهو بهذا الشكل لم يحدد مكانا ولم يستثن بلدا.. لأنه.. حتى وإن اختلفت الرؤى.. فإن كل البلاد هي بلاد لا إله إلا الله محمد رسول الله بعد أن بلغ الأمر ما يبلغه الليل والنهار فلم يستثن بيت مدر و لا وبر.

لقد نبهني المرسل المجهول ألا أبذل جهدا في محاولة كشف جنسيته بقراءة أختام البريد على المظروف.. قال إن هذه الأختام على المظروف الذي يحتوى على مخطوط هذه الأوراق لا تدل على مكانه .. فقد تعمد أن يرسل المظروف من بلاد غير بلده.. وزيادة في الحرص فإنه لم يرسله بنفسه.. ولم يكن أبدا في البلاد التي أُرسلت الأوراق منها..

لقد حاولت طيلة قراءة هذه الأوراق أن أستنبط من أي البلاد يكون..

في فقرات كنت أهتف: إنه من مصر..

لكنني في الفقرة التالية كنت أهتف: لا.. بل ليبيا.. بل السودان.. بل السعودية.. بل سوريا.. بل الشام.. بل إيران.. بل الهند والسند.. بل بخارى.. بل سمرقند.. بل الداغستان.. بل البوسنة والهرسك.. بل الأندلس.. بل.. بل.. بل.. بل ..

وأحيانا كنت أهتف: العرب.. المماليك.. الجراكسة.. التتار.. الفرس.. الأتراك.. البربر..

ولم يقتصر الأمر على ذلك.. لأنني كنت في أحيان أخرى أصيح: هذا هو الملك فلان.. أو الرئيس أو الأمير .. أو الشيخ.. أو الوزير.. أو اللواء ..أو البكباشي.. أو العقيد..أو الجنرال..أو الكاتب..

لكنني أصارحكم القول يا قراء.. أنني في كل مرة كنت أشعر بخيبة أمل فظيعة.. إذ ما أكاد أضع يدي على يقين حتى يختفي.. رغم أن السطور تشف حتى تكاد تنطق.. والمعاني ترق حتى تكاد تُرى.. لكنها لا تنطق أبدا ولا تُرى..

لا أعرف أيضا الفترة الزمنية التي كتبت فيها هذه البروتوكولات.. فأثناء قراءتي لها كنت أظن أحيانا أنها كتبت أمس أو اليوم وأن من كتبها قد تعمد أن يدس فيها أحداثا قديمة تنصلاً مما قد تجره عليه من متاعب .. وفى أحيان أخرى كنت أؤكد أنها كتبت منذ ألف عام.. لكن المرسل المجهول دس فيها ما حدث بالأمس وما يحدث اليوم وما قد يحدث غدا .. ربما إسقاطا على ما يمكن أن يحدث لنا في المستقبل .. بل أحيانا كان يشير إلى حرب بالصواريخ زمن السيف.. وفي أحيان أخرى كان يرمز إلى حرب بالسيوف زمن الصواريخ.. ولست أدرى لماذا فعل ذلك؟.. لماذا حرص على كل هذا الغموض.. أهو مجرد الإخفاء لأصل نص خطير كهذا؟ .. أم أنه بالغموض يدس تأثير قوة الأسطورة فيما يكتب.. أم.. أم .. أم…

على أنني أريد أن أصارح القارئ أيضا.. أن الخط والمداد الذي كتبت به هذه البروتوكولات ليس خطا واحدا ولا لونا واحدا.. بل إن الأغلب أن عشرات الأيدي وربما مئاتها قد اشتركت في كتابتها.. ولقد حاولت حتى بتحليل نوع الورق والمواد الكيماوية المستعملة في هذا المخطوط أن أستكنه منها غموض التاريخ والجغرافيا فعجزت..

حاولت واجتهدت وعجزت..

كان يلزم للأمر كي يتم مراكز بحث كبرى ومعامل هائلة قائمة على أحدث وسائل التكنولوجيا. ولست واثقا من أن ذلك كله لو كان قد توفر كان كفيلا بحل الأمر.

هل لو كنتُ جامعة أو مركز أبحاث أو وكر مخابرات أو حتى ملكا أو رئيسا: هل كان هذا سيساعدني على فك هذا اللغز؟.

علمي الضئيل وثقافتي المحدودة وأفقي الضيق تخبرني جميعا أن المزيد من المعرفة لا تقلل مساحة الجهل، بل على العكس، كل علم جديد يزيد من إدراكنا لحجم ما نجهل. المصباح الصغير في بقعة ظلام دامس يعطيك دائرة صغيرة من الضوء ويكشف حولها دائرة ظلام أكبر، وكلما اشتدت قوة المصباح ازداد قطر دائرة الضوء وازدادت أيضا مساحة الظلام المحيطة. المعرفة كالمصباح. لاحظوا الآن.. في إطار هذا المثل أنني تكلمت عن مساحة للضوء تمثل قدر علمنا .. وتحيط بها مساحة أكبر بكثير من الظلام المُدرَك تمثل جزءا من جهلنا .. دعونا الآن من الظلام غير المدرك.. لأنه محير جدا.. وربما تتشوش عقولكم إذا ما حدثتكم الآن عنه.. فدعونا نَعُدْ إذن إلي ما كنا فيه.. حيث أنني واثق أن قلة الوسائل لم تكن السبب فيما ألمّ بي.. وربما إذن لو توفر لي كل ما أريد من وسائل المعرفة.. لأصبحت حيرتي من الأمر أكثر من حيرتي الآن.. لكنني لا بد أن أعترف.. أنني برغم الحيرة كنت واثقا من شيء ما.. كنت واثقا من أن هناك مخطوطا.. فقد كان في يدي.. وكنت واثقا من أن الأمر جد لا هزل.. وكنت واثقا من المرسل المجهول.. لكنني أعترف أيضا أن هذا اليقين الذي كان غالبا عليّ رغم دواعي الشك .. إنما هو يقين لا يتعلق بالجهل أو المعرفة .. فحتى اليقين نفسه كان مجهول المنبع.. أو أن منابعه كانت توجد في إطار مساحة الظلام الهائلة المحيطة ببقعة الضوء المحدودة.. ولن نتحدث الآن عن يقين حقيقي إيحابي متفاعل فاعل.. وعن يقين آخر ليس يقينا.. يقين كالسراب.. يريح من لفحه الهجير وشوته الشمس وأضناه العطش فيوهمه أنه أوشك أن يجد الماء.. يقين جبان هش دافعه الرغبة في الركون إلى الراحة والخوف من المواجهة. لا أتحدث عن هذا. أتحدث عن يقين حقيقي.

حاولت أيضا في البداية أن أخمن من يمكن أن يكون قد صاغ هذه البروتوكولات: هل هو ملك أم رئيس أم أمير أم زعيم حزب سياسي أم ضابط مخابرات؟؟!!.. هل هي فلسفة عصابة كعصابات المافيا؟ أو جماعة كجماعات كوبنهاجن؟.. هل هي مؤامرة للاستيلاء على الحكم؟ أم أنها مؤامرة من الحكام كي لا يتركوا الحكم أبدا؟ .. أم أن ذلك كله غير صحيح وليس هذا المخطوط سوى منهج دراسي يدرس للنخب الحاكمة في عالمنا الإسلامي.. منهج يدرس في معهد سريّ لم نسمع به قط.. معهد قد يكون مقره في روما أو لندن أو باريس أو تل أبيب.. معهد لا مبنى له.. لكنه ينتشر كأذرع الأخطبوط أو كالسرطان في عواصمنا.. بحيث لا يكاد أن يكون هناك مسئول لم يتخرج منه..

فكرت أن تكون هذه الأوراق أيضا نص الخطبة الافتتاحية في أحد مؤتمرات القمة السرية التي لم يُعلن عنها.. أو أن ملكا قد كتبها لأبنائه وأحفاده كي ينشبوا مخالبهم في رعاياه أبد الدهر.. أو أنه رئيس.. هل يختلف الأمر؟..

هل يختلف؟!..

كل ذلك كان مجرد احتمالات.. مجرد احتمالات وعناصر النفي فيها توازى عناصر الإثبات..

لكن ذلك الشخص المجهول الذي أرسل المخطوط إلىّ لم يخف عنى أن خفاء هذه البروتوكولات لا يضارعه إلا علانيتها.. وأن كل الناس يعلمون بما فيها لكن لا أحد ينطق ببنت شفة.. قال إنه يفهم أن يتآمر الصياد على الفريسة لكنه لا يفهم أبدا كيف تتواطأ الفريسة معه في التآمر على نفسها.. ولقد صارحني أيضا أنه أرسل ملخصات مختلفات للمخطوط إلى عدد لا حصر له من الكتاب والمفكرين عارضا عليهم أن يحملوا أمانة نشر النص الذي سيرسلهم له لو وافقوا..حدث ذلك دون أي رد فعل منهم.. بل لقد اتصل بهم بعد ذلك – كيف؟ لم يفصح.. - ففوجئ أن أغلبهم وجه إليه أسئلة جعلته لا يشك أن مهنة الفكر والكتابة ليست إلا ستارا لعملهم في الشرطة أو المخابرات.. ولقد امتنع تماما عن الظهور أمامهم.. فقد كان واثقا أنهم بغض النظر عن العجز والقدرة سيحاولون تسليمه للسلطات.. لم يقل لي المرسل المجهول كيف اتصل بهؤلاء الكتاب والمفكرين.. ولكنني أدرك أنه ما دام قد اتصل بهم فقد يتصل بي في أي يوم ..

يقتلني السؤال: لماذا اتصل بهم ولم يتصل بي.. ولقد فهمت ضمنا أنه يكن لهذه الحثالات البشرية والطفيليات الحيوانية كثيرا من الازدراء والاحتقار.. فلماذا إذن اتصل بهم ولم يتصل بي أنا؟!.. ولماذا أخبرني بكل ذلك فجعل وهم زهو تفردي بهذه البروتوكولات يزول.. ينهش القلق قلبي.. وأهاتف القلب غير المطمئن قائلا: فلتنتظر.. فربما يتصل بك. وها أنذا أنتظر.. أجمع له آلاف الأسئلة وأنتظر..

ملايين الأسئلة لكنى لا أملك إلا أن أنتظر..

هذا هو كل ما أعرف يا قراء وقد قلته لكم..

ما لم أقله لا أستطيع أن أقوله ..

فأتوسل إليكم.. ألا تلحوا بأسئلتكم علىّ.. إلا إذا كنتم متواطئين مع الصياد والفريسة.. لأن بوْحي بأكثر مما بحت به قد يعنى هلاكي وهلاك الرسل الذين اشتركوا في توصيل هذه الأوراق إليّ..

لذلك – أتوسل إليكم مرة أخرى- أن تقرءوا هذه البروتوكولات كما قرأتها.. ولتلفحكم نيرانها كما لفحتني.. ولتعذبكم كما عذبتني.. ولتتساءلوا كما تساءلت .. ولتفكروا كما فكرت ولتسهروا الليالي كما سهرت ولتبكوا كما بكيت ولتصرخوا كما صرخت وليمسكم الروع كما مسني بل وزلزلني.. فالأمر لا يخصني وحدي.. وما يتعلق بي من هذه البروتوكولات لا يزيد عما يتعلق بكم منها.. لكن قدري هو الذي جعلني مسئولا عن توصيلها لكم.. وهو قدر كان يمكن أن يحيق بأي واحد منكم..

ما أبهظنى .. ما أقض مضجعي.. علمي بأن أوراق هذه البروتوكولات ليست كاملة.. ولا مرتبة.. ولا أنا أستطيع أيضا أن أؤكد أن جميع أوراقها المبعثرة تنتمي لها .. وأن الصدفة أو التعمد لم تضيفا وريقات إليها.. وعلى سبيل المثال.. فإن تلك الورقة التي لا عنوان لها.. والتي سميتها أنا " الاعتراف بالإيمان" لا يمكن ضمها لأي فصل من الفصول.. ولا لأي بروتوكول من البروتوكولات.. لذلك لا أستطيع الجزم.. هل هي من البروتوكولات أم مدسوسة م لا...

ما أبهظني أيضا وأقض مضجعي.. أن المقدمة والخاتمة قد سقطتا من الأوراق.. بحثت كثيرا فلم أجد.. لو أنني عرفت البداية لفهمت.. ولو أنني عرفت النهاية لعلمت.. تساءلت … وتساءلت .. .وتساءلت.. و…و…و… وآلاف الأسئلة عجزت عن أن أجيب على سؤال واحد منها.. لذلك أطرحها عليكم كما وصلتني.. فلعل ما عجز عقلي عن فهمه.. تفهمه عقولكم….. فالأمر على أي حال ليس أمري وحدي.. فهو يهمكم كما يهمني.. ليس اهتمام اقتناص فرصة أو النجاح في صفقة أو تجنب شَرَك.. أو الإفلات من خديعة.. وليس أيضا إغراء حل لغز.. لا .. ليس أيا من ذلك.. الأمر أمر حياة أو موت.. بل أكثر من الحياة والموت ..

لا أريد أن أطيل عليكم.. لذلك أختم هذه المقدمة التي أخشى أن تكون قد طالت بالفعل بأن أحكى لكم عن حيرتي في كتابة عنوان هذه السلسلة من المقالات.. فقد كان العنوان الأصلي للأوراق:

" بروتوكولات حكماء العرب "

لكن خطا واضحا نتج عن قلم ما.. عمل بالشطب على كلمة "حكماء" ووضع أعلاها كلمة : " حُكّام ".. لكنني اخترت العنوان الأصلي.. لأغراض لن تخفى عنكم.. ولقد لجأت إلى هذه الحيلة البريئة المسالمة في أضيق نطاق.. لجأت إليها أثناء نسخي للمخطوط.. ولم ألجأ إليها إلا تقية عندما كانت الكلمات تكاد تصرخ: أنا أقصد فلانا..

إنها عبقرية الصدفة.. أو عبقرية المخطوط.. وهى عبقرية لن أستطيع أبدا أن أقنع بها رجال الأمن وهم يعذبونني ساعة التحقيق.. ولا رجال النيابة وهم يتواطئون مع الشرطة.. ولا رجال القضاء وهم يتواطئون مع رجال النيابة ليحاكمونني.. ولأنني أدرك يا قراء أنه إذا وقعت الواقعة لن يتقدم منكم من يحميني.. وليس هذا قدحا فيكم.. ولا قلة ثقة بكم.. وإنما ببساطة.. لأنه لا أحد منكم يستطيع أن يحمى نفسه أو أهله بله أن يحميني.. لذلك تجوّزت ولا أقول تجاوزت.. فأبدلت كلمة هنا وكلمة هناك.. وحولت الماضي إلى مضارع والمضارع إلى ماض.. ورفعت حرف جر ووضعت آخر.. ولست أخفي عنكم.. أنني أثناء كتابتي لكم.. تكون إحدى عينيّ عليكم.. أما العين الأخرى.. فمركزة على جهاز الأمن الباطش الجبار.. مدركا أنه حتى الشيطان يمكن مقاومته بالاستعاذة منه وقراءة القرآن.. لكن أجهزة الأمن في أنحاء عديدة من عالمنا الإسلامي .. قد أشيع عنها أنها تمزق القرآن.. وتدوسه بالأقدام .. فكيف لا أخاف..

ها أنذا أكاد أقع في الاستطراد مرة أخرى.. لذلك ألجم فمي.. وأكبح يراعى.. وأوقف تدفقي.. وأمنع خواطري.. لا لخشية الإملال بل مخافة الوقوع في المحظور..

لذلك أتوقف ..

فلتدلفوا معي إلى الموضوع مباشرة:



البروتوكول الأول :

بسم الله الرحمن الرحيم

سنكون صرحاء ونناقش دلالة كل تأمل، بل كل كلمة، بل كل حرف، بل الصمت نفسه، وسنصل إلى شروح وافية بالمقارنة والاستنباط . وعلى هذا المنهج سأعرض منهج سياستنا.. ويجب أن تتنبهوا أننا إذ نتكلم هنا نتكلم كي نصل إلى أعماق الحقيقة المجردة..وعليكم أن تنسوا تماما كيف تتحدثون إلى الناس.. حين لا يكون لحديثنا من هدف إلا إخفاء الحقائق.. إننا نتصارح هنا بعقل يختلف اختلافا كليا عن العقل الذي نستعمله في حياتنا العامة.. وعليكم أن تدركوا أن أي خلل في هذا التقسيم سوف يؤدى إلى هلاككم جميعا.. ولعلكم عاينتم بأنفسكم النتائج الفاجعة ونهايات البعض وعواقب الأمور عندما لم يفهم البعض هذه الحقيقة.

أكرر.. وأحذر.. أن الأمل الوحيد في احتفاظكم بأماكنكم هو أن تفكروا بطريقة مختلفة اختلافا كليا عن طريقة تفكير العامة والدهماء والجماهير.. لا أقول لكم أن هذه الطريقة مناقضة لطريقة الناس.. فالتناقض على أي حال يشكل نوعا ما من العلاقة ولو بالاختلاف.. لذلك لا أقول بالتناقض بل أقول أنه لا علاقة بين الطريقتين على الإطلاق.

إن هناك منكم من لا يزال في منصبه منذ عشرين أو حتى ثلاثين عاما.. بل لقد تجاوز البعض في حقب أخرى خمسين عاما.. وهؤلاء قد سمعوا منى أو من غيري قبل ذلك.. لكن حتى هؤلاء سيحتاجون إلى كل تركيزهم معي لأننا نطور خططنا باستمرار.. فالرعاع يطورون خططهم باستمرار.. والسادة يزيدون من مطالبهم باستمرار.. ولتعلموا من الآن أن ما كان يصلح أمس رغم صحته لا يصلح اليوم.. وأن ما يصلح اليوم لا يصلح للغد .. في إطار من الحركة لا يتوقف.. فلا ثبات ولا دوام..

ثم أن هناك مشكلة أخرى. ذلك أن بعض من كانوا حكاما بالأمس يقبعون اليوم في السجون أو القبور أو معلقين على المشانق.. وأن بعض من كانوا رعاعا انضموا إليكم.. وهذا يزيد مشاكلنا إلى ما غير حد.. ليست مشاكل المضمون والقدرة على متابعته فقط.. بل ومشاكل الشكل والتأمين..

لكن.. من وجهة نظر أخرى فإن الأمر ليس معقدا.. إنه بسيط وسهل وبديهي.. حتى أنكم ستندهشون عندما تفهمونه على الوضع الصحيح.. ستندهشون لعدم فهمكم له هكذا منذ البداية.. فالأفكار مثل المشاهد التي يراها أي واحد منكم وهو يقود سيارته.. إنها تتغير باستمرار.. تتغير كتغير المياه الجارية في نهر فلا يدع لك جريانها الفرصة كي ترى نفس النهر مرتين.. أبدا.. أبدا. . لذلك لا تحكم على وضعين بنفس الحكم أبدا حتى ولو تصورت أنهما متماثلان..

إنني أعلم أن معظمكم لم يقرأ كتابا في حياته.. وأن قدرتكم على فهم التصور الفني للمعاني تكاد تكون معدومة إلا عند واحد وربما اثنين.. لذلك سأستعمل أسهل الألفاظ وأكثر المعاني مباشرة.. وأقول لكم الآن على سبيل المثال أنكم ربما تتخيلون أنكم كلما أوغلتم في المعرفة قلت مساحة جهلكم.. وهذا غير صحيح.. إنه يمكن أن يكون صحيحا في مقرر مدرسي محدود بين دفتي كتاب لو استوعبته فقد استوعبت الأمر كله.. في الحياة.. لا تسير الأمور على هذا المنوال.. بل تسير على العكس.. فكلما ازداد علمكم ازداد إدراككم لحجم جهلكم.. حتى إنهم يقولون أن العالم الحقيقي ليس من يعرف أنه يعلم كثيرا بل من يدرك أنه يجهل كثيرا.. هل يبدو الأمر صعبا عليكم؟ دعوني أعطيكم مثالا يشرح لكم الأمر.. في رحلات الصيد التي تقومون بها في الصحراء.. عندما تشعلون أنوار السيارة المنخفضة فإنكم ترون مساحة محدودة من الضوء تحيطها مساحة أوسع من الظلام.. فإذا ما أشعلتم الأضواء العالية ازدادت مساحة البقعة المضيئة لكن مساحة الظلام ستزداد أكثر.. هذه القاعدة صالحة إلى ما لا نهاية.. كلما ازدادت قوة المصباح – وأرمز به هنا للمعرفة- ازدادت مساحة الظلام.. التي أرمز بها للجهل.

هناك أمر متصل منفصل.. كان يمكنني تأجيله لموضع آخر.. وفي جلسة أخرى.. لكن ذكره الآن سيوفر علينا بعض الوقت.. لأننا لن نعود إلى التذكير بالخلفية النظرية ولا بتفاصيل المثال.. ذلك أنك لو وجهت هذا الضوء مهما بلغت قوته إلى السماء في ليلة صافية شديدة الظلمة فإنك لن ترى شيئا على الإطلاق لأنكم لا ترون الضوء ذاته بل ترون ما يعكسه أو يمتصه أو يشتته.. وتماما كما أن عماء الأعمى لا يعني تلاشي الموجودات.. فإن ما أريدكم أن تنتبهوا إليه من المثل.. أن الأشياء قد تكون موجودة.. لكنكم لا ترونها.. تلك نقطة هامة جدا.. ولكن هناك نقطة أخرى لا تقل أهمية عنها.. لأن العقل البشري الذي قد يعجز عن رؤية ما هو موجود قد يفعل العكس فيتوهم وجود ما هو غير موجود.

أريد أيضا – بداية - أن أنبهكم إلى الخلل الكامن في العلاقة بين الكلمات والمعاني وبين الحقيقة المجردة..

يجب أن تعلموا أن الكلمات والحروف مجرد أشكال.. شفرة.. تعمية.. رموز.. وأنها وحدها لا تعنى شيئا.. فالماء مثلا.. ليس مكونا من الميم والألف والهمزة.. لكنه مكون من اتحاد ذرتين من الهيدروجين بذرة من الأكسيجين.. والفرق بين الحروف الثلاثة والذرات الثلاث هو الفارق بين الكلمة كرمز وبين الحقيقة كواقع.. ليس لحروف الكلمة أية علاقة بالذرات المكونة للمادة.. ليس ثمة أي تشابه ولا حتى دلالة.. ولو أننا اصطلحنا اليوم على أن نسمى الماء نارا.. واتفقنا جميعا على ذلك.. وسقنا الناس سوقا عليه.. فإن ذلك لن يؤثر على ذرتي الهيدروجين وذرة الأكسيجين أي تأثير..

هذه واحدة..

الثانية أن لفظة الماء نفسها تعنى مئات المعاني تختلف باختلاف سامعها وباختلاف الوقت.. فالماء بالنسبة لمعظمكم الآن يعنى هذا الكوب البارد الموضوع أمامكم لتشربوه.. أما عندما تعودون إلى مهاجعكم بعد نهاية هذا الاجتماع فهو يعنى دلوا من الماء الدافئ تغتسلون به.. بالنسبة لمرضى العيون قد تكون مياه زرقاء أو بيضاء.. وبالنسبة لمرضى القلب فإنه يعنى على الفور ماء على الرئة ولمرضى الكبد استسقاء ولمرضى الكُلَى بولا محصورا.. بالنسبة للفلاح يختلف الأمر.. لأنه لا بد أن يفكر في الري حين يسمع كلمة الماء.. لكنه يفكر فيه بمعنيين متناقضين.. ففلاح الصحراء يفكر في شحه أو انعدامه وفلاح الوديان يخشى من الفيضان الذي يجرف أمامه كل شيء.. . أما جندي المطافئ فيفكر في ماء يطفئ به حريقا.. لكن زميله .. الجندي الآخر الذي يعمل في سلك الأمن فقد يفكر في الطرق المختلفة التي يجعل بها الماء البارد جدا والساخن جدا أكثر تعذيبا للمتمردين والإرهابيين.. زميلهم الثالث الذي عبر قناة السويس لن يذكر إلا المياه التي سلطوها على الحاجز الرملي لينهار.. عالم البحار سيفكر في شيء آخر .. وهكذا دواليكم..

الكلمات إذن مجرد شفرة ورمز دالّ على معنى وهي لا تكتسب قيمتها إلا بالتواطؤ أو التآمر أو التوافق –سموها كيفما شئتم- مع المتلقي.. وليس هناك أي حكمة أو حصافة في أن نخلص لهذه الرموز إخلاصا أعمى..

على العكس..

إنها حماقة وخيبة وسبيل إلى الهاوية..

لا أقصد بالطبع أن تخرجوا من هذا الاجتماع ليصدر كل واحد منكم مرسوما بقاموس يغير فيه أسماء الأشياء.. تلك أيضا حماقة.. مثل حماقة ذلك الذي أضاف كلمة العظمى إلى بلده الصغيرة، فأصبح مضغة في الأفواه، أو ذلك الذي وضع لافتة كبيرة على السجن المركزي تقول:"دار الحرية" أو تسميتنا لدار الفناء بدار البقاء[1].. لكنني لا أقصد ذلك الآن.. قد أقصده في وقت آخر.. وقد أعود إليه.. وقد لا أعود إليه أبدا.. فالوقت ضيق والمهام جمة والمشاغل لا تنتهي.. ما أقصده الآن شيء آخر.. لا ينصرف إلى رموز الأشياء بل إلى الحقيقة المادية .. وإلى حقيقة المعنى.. على أن ندرك بداية أن الحقيقة المادية ليست واحدة كما يظن معظمكم.. ذلك أن العقل البشري لا يعمل بطريقة عدسات الكاميرا بل بطريقة ريشة الرسام.. بعدسات الكاميرا تبدو الحقيقة موضوعية ومستقلة عن الذات.. أما بريشة الرسام فنحن لا نرى الحقيقة المجردة بل نرى ما يراه الرسام.. وهو ليس متطابقا بالضرورة مع الحقيقة. ثم إن هذا الكلام ليس صوابا مطلقا.. لأن الموضوعية المنسوبة إلى عدسات الكاميرا ليست كذلك بالضرورة.. فمجرد اختيار الصورة انحياز.. وزاوية اللقطة انحياز.. وإبراز صورة وإخفاء صورة انحياز.. والتحميض وطريقة الطبع ونوع الورق انحياز.. كما أن ما يرسمه الرسام يحوي جزءا من الحقيقة وجزءا من الرسام.. ولنفترض على سبيل المثال أن هذا الرسام يعاني من عمى الألوان.. وأنه ينقل في الصورة التي يرسمها بريشته اللون الأخضر الذي لا يستطيع أن يراه فيضع مكانه اللون الرمادي مفجرا التساؤل هل اللون الأخضر موجود ومستقل عن الذات الإنسانية أم أنه لا يكون كذلك إلا من خلالها وهل الحقيقة الموضوعية المجردة مستقلة عن العقل والحواس أم أنها ما يتصوره العقل والحواس.. ومن خلال هذا التصور فإن الحقيقة المادية تختلف من شخص لشخص ومن مكان لمكان ومن زمان لزمان.. ولابد أن تختلف وإلا ما كنتم هنا.

من هذا المنطلق فعندما أقول كلمة الحرية مثلا.. فلابد أن يختلف المعنى عند الحاكم عنه عند المحكوم.. لا.. ليس مجرد الاختلاف ما أقصده.. بل هو التضاد الكامل.. فعندما نتكلم – فيما بيننا فقط وليس أمام الدهماء – عن الحرية فإننا نقصد حريتنا نحن في الحكم وليس حريتهم.. بل إن أي قدر من الحرية يُمنح لأولئك السوقة هو انتقاص واستلاب لحريتكم يجب ألا تسمحوا به إلا لغرضين: الغرض الأول هو أن تحصلوا على الثمن.. أما الغرض الثاني فهو أن تجيدوا كالبهلوانات السير على حبلين مشدودين في اتجاه معاكس.. لأنكم إن منعتم الحرية تماما عن رعاياكم فإنهم سيثورون عليكم لتفقدوا الحكم.. فإذا ما أسرفتم في منحهم الحرية سيثورون أيضا عليكم وستفقدون الحكم أيضا.. إن الجماهير كالعبد الخسيس.. إذا جاع سرق وإذا شبع زنى.. لذلك فإنكم مع مثل هذا العبد يجب أن تعطوه من الطعام ما يكفى بالكاد لأغراضكم في استخدامه بحيث لا يجوع ولا يشبع..

نعود إلى المثال الذي تركناه على الفور.. إلى كلمة الحرية.. إن عبقريتكم ونجاحكم يعتمد على استعمال نفس الكلمة للدلالة على المعنيين المتناقضين.. أن تقول الكلمة تقصد بها معنى في رأسك بينما يفهم سامعك نفس الكلمة لكنه يفهم منها المعنى المضاد تماما..

إن الشعوب تندفع كالعجماوات في اتجاه الكلمة التي تعنى معنى مجردا دون أن تتساءل أي تساؤل.. وعندما تلوح لهم بكلمة الحرية على سبيل المثال فإن أحدا لن يسألك: حرية من؟ أنا أم أنت؟ ثم كيف؟ ثم أين؟ ثم ماذا؟ ثم لماذا؟.. لن يسألكم أحد هذه الأسئلة.. رغم أن هذه التساؤلات بعينها هي التي يمكن أن تكشف لهم عن حرية كالماء وحرية كالنار.. وهذا العماء بالضبط هو المقود الذي تقودون به هذه العجماوات.. وعليكم أن تدركوا دائما أن الأعمى إذا قاد أعمى مثله فسيسقطان معا في الهاوية.. وعماء الشعوب ناتج عن مفهومهم المتحجر الجامد لمعنى الكلمات التي ضربنا عليها الأمثلة الآن..

ما ينطبق على كلمة الحرية ينطبق على آلاف الكلمات غيرها.. على ملايين الكلمات.. بل على الكلام كله.. وإنني أريدكم أن تتأملوا كلمتي هذه إليكم – في ضوء المفهوم الجديد وعلى مثال كلمتىْ الماء والحرية – وأن تطبقوا هذا المفهوم على كلمات كالاستقلال والرفاهية والديمقراطية والتنوير والدستور والسلام والحرب والإرهاب والتعصب والتطرف والتمدن والحضارة والتحضر والعلم والجهل والبداوة والتقدم والرحمة والأمن والأمان والأمانة والإيمان والتنوير والعلم ونزاهة الانتخابات وحرية التعبير وحرية المرأة..

عليكم أن تفهموا ما قلت.. فتلك هي الأبجدية التي بدونها لا يستقر الحكم في أيديكم أبدا..

أريدكم الآن وأنتم تسمعوني أن تتخلصوا من كل مفاهيمكم البالية عن الكلمات..

أريدكم أن تعلموا أنه لا يوجد حق وباطل .. ولا خير ولا شر.. ولا أمانة ولا خيانة.. ولا صواب ولا خطأ.. ولا حلال بالطبع ولا حرام-أعتقد أنكم تجاوزتم النقطة الأخيرة منذ زمان طويل بل إن بعضكم لم يؤمن بها أبدا- لا يوجد أي من ذلك.. يوجد فقط قوة وضعف.. مفيد وضار.. مكسب وخسارة.. أما الصواب فكل ما تستطيع أن تثبته بالقوة مهما كان خطؤه.. والباطل فهو كل ما يقوله آخر لا يملك سيفا يهددك به دفاعا عن حقه مهما كان صوابه.. افهموا ذلك وعوه.. كل كلمة من هذه الكلمات تحوى معنى ظاهريا عليكم أن تتشدقوا دائما به.. وفى نفس الوقت عليكم أن تفهموا معناها الباطني.. وهو ألا معنى محدد لها.. فالكلمة مشروع عمل.. فإذا نجح هذا العمل فالكلمة حق وخير وصواب وصدق.. وإذا فشل فالكلمة باطل وشر وخطأ وكذب.. وليس هناك أي مدلول آخر للكلمات غير ما أقول لكم..

إننا لا نستطيع أن نتقدم خطوة واحدة أبعد من هذا المدى الذي بلغناه قبل أن نعرج على كلمتين في غاية الأهمية.. هاتان الكلمتان هما: الله والدين..

هل استوعبتم أنني بدأت كلمتي لكم بـ "بسم الله الرحمن الرحيم".. كان هذا هو أول درس لكم.. فهل ياترى فهمتموه؟.. يجب أن تبدأ خطبكم للناس بالبسملة.. دون أن يعنى ذلك أي شيء آخر.. يقولون إن الناس على دين ملوكهم.. وأنا أقول لكم العكس.. إن الملوك يجب دائما أن يكونوا على دين رعاياهم.. !!.. ليس بالمعنى الحرفي.. إن الدهماء يحتاجون للإيمان فهو عزاؤهم الوحيد عن التعاسة والبؤس وأملهم الوحيد في الجزاء.. بل إن إيمانهم هو على وجه الخصوص ما يحميكم منهم..

ولعلكم عاينتم ماذا حدث لبعض الأغبياء منكم والذين غامروا وقامروا بالهجوم المباشر على الدين.. لقد مزقوا تمزيقا..لأن الرعاع لا يفرطون في دينهم تحت راية الكفر أبدا..لكنهم لن يعارضوا التفريط فيه كله تحت رايات الإيمان!.. دعكم من أغراضنا الدعائية حين نخلط ما بين الإيمان والإرهاب ولا تنسوا أبدا أن في إيمانهم أمنكم.. ولكن الترياق لهم سم لكم.. لأنكم لو آمنتم انتهيتم.

أرجوكم أن تنتبهوا معي.. فهذه المنطقة خطرة.. شديدة الخطورة.. الدين سلاح بتار لا تدَعوه أبدا في أيدي أعدائكم.. إنني لا أتدخل في عقائدكم الشخصية.. فليفكر كل منكم كيفما شاء.. لكن عليه أن يعمل بما نرى.. آمنوا أو اكفروا.. لكن إياكم أن تأخذوا الدين بمفهوم رعاياكم وإلا أقيمت على كل واحد منكم كل الحدود.. لا أتحدث عما في قلوبكم .. لكنني أتحدث عن الحكم.. كيف يستمر وكيف يستقر.. كيف نستثمر الدين للاستمرار.. وفى هذا المجال فإن الإيمان لا يعنى الإيمان بالله بل الإيمان بالحاكم.. والكفر لا يعنى الكفر بالله بل الخروج على الحاكم..

لقد كان أسلافنا مستعدين دائما للإيمان بالله طالما كان هذا الإيمان يعنى الحق الإلهي لنا في حكم الرعاع.. الآن.. بعد أن اكتشف هؤلاء الرعاع أننا ظللنا آلاف الأعوام نخدعهم وأن الله لم يعطنا أبدا حقا إلهيا في حكمهم فإن علينا أن نطور من أنفسنا وإلا ضاع منا الحكم.. ولتفهموا جيدا أن ضياع الحكم منا ليس معناه أن تهربوا إلى الخارج لتتمتعوا بملايينكم وملياراتكم على شاطئ بحيرة في سويسرا أو على ربوة في أورلاندو.. عليكم أن تفهموا أن أي واحد منكم أنتم النخبة الحاكمة ليس له إلا مكان من ثلاثة: القصر أو السجن أو القبر..

لنبتعد عن الله..

وليس معنى ذلك أي موقف ضد الله.. بل إن أي موقف ضد الله هو حماقة عاقبتها الوحيدة هي الهلاك.. أقصد طبعا هلاك الدنيا.. هلاك على أيدي رعاياكم .. لذلك علينا أن نحاول أن نثبت للدهماء والرعاع دائما أننا مع الله وأن الله معنا.. وعلينا دائما أن نقمع بأي درجة من العنف أي فئة من الناس تحاول إثبات أن الله ليس معنا أو أنه معهم..

إن خير النتائج في حكم الشعب ما ينتزع بالعنف والإرهاب والتزوير والتعذيب، لا بالمناقشات الأكاديمية.. إلا أنكم يجب أن تكونوا حريصين طول الوقت.. أن تستعملوا أشد وسائل الإرهاب وحشية لقمع المعارضين.. دون أن تعترفوا أبدا أنهم معارضون أو أنكم إرهابيون.. !!.

إن ذلك لا يتم بسهولة.. إذ لابد أن يحركه منهج شامل وعقل متكامل وفلسفة لا تغيب عن وعينا أبدا..

إنني ألاحظ في الحقب الأخيرة تدنيا خطيرا في وسائل تعاملكم مع رعاياكم.. لن أخدعكم.. ولن أتحدث عن مقاييس للشرف أو الأمانة أو النزاهة أو الشفافية.. فأنا أول من يدرك أن هذه المسميات هي وسائلنا لخداع الناس.. وأنتم ستهلكون في حالتين: الحالة الأولى ألا يقتنع الناس بها وأن يدركوا أن الحياة ليست إلا غابة ولا يجوز التعامل فيها إلا بمنطق الوحوش.. أما الحالة الثانية فهي أن تؤمنوا أنتم بالشرف أو الأمانة أو النزاهة أو الشفافية.. ساعتها ليس ثمة محيص من هلاككم.

أعود إلى تدني وسائل البعض منكم في الحكم وفي التعامل مع رعاياه.. ولكي أقطع عليكم الطريق ولا أبلبل أفكاركم فأنا أدرك أن الحكم لا يمكن أن يستمر أو أن يستقر دون استعمال أكثر الوسائل دموية وكذبا وخداعا.. لكن ذلك كله ينبغي أن يغلف بغلاف أنيق.. غلاف يخفي ما بداخله.. وينكره ويستنكره مهما بلغت الأدلة الثبوتية عليه.. ولقد بلغ انزعاجي مبلغا عظيما عندما لاحظت أن بعضكم مثلا مارس بغباء منقطع النظير تزوير الانتخابات بطريقة لم تحدث في التاريخ عندما استدعى جيشه كله ليحول بين الناس وبين الوصول إلى صندوق الانتخاب.. وكان العالم يرى ويصور ويعرض.. والغبيّ يظن أنه كسب المعركة بينما هو قد خسر شرعيته كلها في نفس اللحظة..

أرجو أن تكونوا قد استوعبتم أسلوبي في الشرح.. وأنني لا أستعمل الألفاظ بأي مدلول حقيقي.. وإنما أستعملها بالمدلول الذي اتفق الناس عليه.. وأنني في هذا الصدد لا أعترف إلا بشرعية واحدة.. هي شرعية التغلب بأي وسيلة.. لكن هذه الوسيلة يجب أن يتم عرضها بالجلال المناسب. وأن يتم التوقف عن العرض كليا في الوقت المناسب. إن النجاح في الحكم كالنجاح في العمل أو الطعام أو الشراب أو المباريات أو الصداقة أو حتى العبادة.. وحتى.. حتى الحب.. فهذا النجاح يعتمد في أحد أهم وجوهه على قدرة المرء واستعداده للتوقف بينما ما تزال لديه الرغبة في الاستمرار والقدرة عليه لكن دون الجلال المناسب. إن هذه الخاصية موجودة في الطب أيضا.. فهناك حكمة طبية تقول أن الطبيب البارع ليس هو من يعلم متى يُقدم.. بل هو من يعرف متى يُحجم.

وعلى الرغم من كل ذلك الوضوح فإن هناك من لا يريد أن يتوقف أبدا حتى لو تحول إلى "مسخ" شائه مضحك ليقدم نموذجا هزليا مشوها للحكم.

ولقد شعرت بالخجل عندما سمح أحدكم بانتهاك أعراض النساء من رعاياه في الشارع.. تحت كاميرات الفضائيات الفاضحة.. كان أمرا مشينا جدا.. جعلني أشك في قدرتي على الشرح لكم.. على تعليمكم والتأثير فيكم.. خاصة مع هذا الرجل.. الذي يستمع إليّ بانتظام منذ أكثر من ربع قرن.

أريد أن أقول لكم شيئا هاما.. شيئا هاما جدا.. لا تنسوه أبدا.. وسوف أبدأ بضرب المثل كي تستوعبوا ما أقول.. إن أي داعرة لو اعترفت بأنها داعرة فإنها ستفقد إلى الأبد فرصتها في حياة حرة شريفة وكريمة.. وأنا لا أطلب من هذه الداعرة أن تتوقف عن الدعارة.. بل أطلب منها أن تنكر دائما وعلى طول الخط أنها داعرة وأن تتصرف طول الوقت على أنها أكثر النساء شرفا.. فذلك.. وذلك فقط.. هو الذي يزيد من سعرها في عالم الدعارة والأشراف جميعا.. إن عليها أن تراهن ليس على من يعرفون الحقيقة بل على من يجهلونها.. وسوف يكون نجاحها شبه مطلق لو اقتصرت نسبة من يعرفون حقيقتها على 10% أو 20%.

أرجو أن تكونوا قد تجاوزتم سذاجة البدايات الأولى وألا يشعر أحدكم بالإهانة لتشبيهي إياكم بالداعرات. سيكون ذلك مضحكا إذا حدث.

إذن فالحاكم مهما كان.. ومهما فعل.. عليه أن يبدوا مهيبا وقورا جليلا يتمسك بأهداب الأخلاق والشرف.. وأن يراهن طول الوقت على من يجهلون حقيقته لا على من يعرفونها.

لماذا كان عليك أيها العجوز الصغير أن تزوِّر وأن تنتهك الأعراض تحت كاميرات الفضائيات.. لماذا لم تفعل ذلك وأضعافه في الخفاء لتدّعي في نفس الوقت أنه لم يحدث أبدا ولتندد بمن يدعيه وتتهمه بأبشع الصفات.. لماذا؟.

نعود إلى مثل الداعرة.. نعود إلى المثل مكررين ما قلنا ففي التكرار إفادة لكم يا معشر الحكام.. إنها تعرف بالطبع أكثر من أي شخص آخر أنها داعرة.. كما أنها تعرف أن بعض الناس يعرفون أنها داعرة.. لكن كل رهانها يجب أن ينصب على من لا يعرفون. وفي اللحظة التي تصاب فيها هذه الداعرة بالانهيار فتظن أن الناس جميعا قد اكتشفوا سرها فقد انتهى أمرها.

كذلك الحاكم أو الملك أو الرئيس أو الأمير.. إنه يعرف أكثر من أي شخص آخر .. وأكثر من أشد معارضيه شراسة .. كما أنه – بمقاييسهم ومصطلحاتهم التي اتفقنا منذ البداية أنها خطأ- يعرف بمقياس هذه المصطلحات أنه لص وجلاد وخائن ومجرم وعميل وربما شاذ وكافر أيضا.. ذلك كله لا يهم.. وليس له معنى.. وحين يدرك أن البعض يفهمه على هذه الحقيقة فإن ذلك لا يهم أيضا.. ما يهم.. هو عدد الناس الذين يستطيع إقناعهم بأن الأمر ليس كذلك.. بل إنه على العكس من ذلك.. وأن أعداءه هم المجرمون وهم الجلادون وهم اللصوص وهم الشواذ وهم الكفرة.. إن بقاء الحاكم في مكانه يعتمد علي هذه المعادلة.. على نسبة الناس الذين يستطيع خداعهم. وفي اللحظة التي يظن فيها أن الناس جميعا قد اكتشفوا أمره .. فقد انتهى أمره.. ليكون بقاؤه في الحكم بقاء جثة ميت لم يدفن.. أما الخطأ الجوهري الكامن في هذا الموقف.. فهو أن الناس لا يمكن أن يتفقوا أبدا إلا بعد اعتراف صريح.. أما بدون هذا الاعتراف فإن من أعجب العجائب أن الناس مستعدون دائما لتصديق الكذاب وتكذيب الصادق.. وهذه قوة هائلة يحسن البعض استغلالها فترفعه إلى أعلى عليين ولا يدرك البعض إمكاناتها فترده أسفل سافلين. يعني هذا أن الناس لن تجمع رأيها على الحاكم أبدا دون اعتراف صريح منه.. وما لم يدل بهذا التصريح فسوف تظل الغالبية أشد ميلا لتصديقه.

إنني أدرك أبعاد الضعف الإنساني.. كما أفهم الرغبة الكامنة عند كل إنسان على ظهر هذه الأرض في الانتحار والاعتراف.. وهي رغبة لا يكاد يفلت منها أحد ولو لثانية واحدة طول عمره.. تحت وطأة هذا الضعف فإن الواحد منكم.. والذي يعرف عن نفسه ما يعرف.. يظن أحيانا- في نوع من الانهيار العصبي- أن الآخرين جميعهم قد عرفوا.. وأن أمره انكشف.. وأنه لم يعد لديه أي وقت كي يضيعه في محاولات الإخفاء.. لذلك لا يتورع عن ارتكاب أمور مشينة وحقيرة.. كمنع الناخبين من الوصول إلى صناديق الانتخاب وانتهاك أعراض النساء في الشارع.. وأرجو ألا تخطيء أحدكم في فهمي.. أنا لا أستنكر الفعل.. بل أستنكر فعله في العلن. إن مثل هذا الحاكم يهبط بجلال الحكم المفترض إلى مهانة لص يَهرَب أو قاطع طريق يواجه أعداءه بالسنجة والمطواة والمسدس.[2]

والآن سوف أسألكم سؤالا هاما جدا راجيا أن يكون قد خطر ببال أحدكم على الأقل أن يوجهه إلى نفسه:

ماذا كبح هذه الوحوش المفترسة التي نسميها الناس- رغم كل ما فعلناه وما نفعله وما يعرفون أننا سنفعله بهم - عن افتراسكم ؟ ..

أنا أجيبكم.. :

لقد خدعناهم.. علمناهم أن الخضوع للقانون رمز للتحضر وأساس للتقدم.. لم يسألوا أي قانون ولماذا وماذا وكيف؟.. وببساطة خضعوا للقانون، القانون الذي وضعناه نحن كي نفترسهم به.. فما القانون في الحقيقة إلا قوتنا مقنَّعة .. ولقد وضعناه بديلا عن شريعة لم تعد تناسبنا.. نحن لم نقل للناس أبدا إن الدين خطأ أو أننا ضده.. لكننا باستمرار أمددناهم بقوانين تهدم بصورة فعلية لا تعصبهم الديني فقط كما ادعينا دائما.. بل تهدم دينهم ذاته دون أي تصريح منا أو اعتراف.. على أننا قد وضعنا القانون لا لنطبقه.. بل لنتظاهر أننا نطبقه كي يطبقوه هم.. وفي اللحظة التي نتوقف فيها عن هذا التظاهر فسوف يقلدوننا على الفور ويخرجون على القانون كما خرجنا نحن عليه.. وتكون النهاية المؤكدة.

على كل واحد منكم إذن أن يتظاهر باتباع القانون والدين والإخلاص لهما.. فذلك هو السبيل الوحيد للسيطرة على الرعاع.

لا تواجهوا الدين أبدا بل التفوا حوله.. هؤلاء الرعاع يظنون بفكرهم المنحط أن الاستعمار هو الذي خلع الشريعة من على عرشها.. لأن استمرارها كان يعنى قدرة الرعاع على المقاومة.. ويقينهم من الجدوى.. وأملهم في الجزاء.. دعوهم يظنون ذلك.. لأن الاتهام إذا لم يوجه إلى الاستعمار فسوف يوجه إليكم.. ولتكونوا على بينة دائما من أن الشريعة أعدى أعدائنا.. وفى نفس الوقت علينا ألا نكف عن التظاهر دائما أننا نطبق الشريعة.. بل وأننا حماتها..

إن قانون الطبيعة هو : الحق يكمن في القوة .. والسعادة تكمن في اللذة.. تلك هي الحقيقة وكل ما عداها هراء..

هل يحسب بعضكم أنني بهذا أهدم الأخلاق والقيم والمبادئ والشرائع؟..

كل هذا هراء.. نعم.. هراء تسرب إلى عقولكم من مفاهيم الرعاع والدهماء..

دعوني أسألكم هذا السؤال :

لماذا لا يكون منافيا للأخلاق لدى دولة يتهددها عَدُوّان أحدهما خارجي، والآخر داخلي - أن تستخدم وسائل دفاعية ضد الأول تختلف عن وسائلها الدفاعية ضد الآخر، وأن تضع خطط دفاع سرّية، وأن تهاجمه في الليل أو بقوات أعظم؟..

لماذا يكون منافيا للأخلاق لدى هذه الدولة أن تستخدم هذه الوسائل ضد العدو الخارجي ولا تستعملها ضد العدو الداخلي وهو الأخطر حتى من العدو الخارجي، فالعدو الخارجي قد يوكلكم في الحكم نيابة عنه.. أما العدو الداخلي فإنه يحطم أسس حياتكم وأسس سعادتكم ؟.. نعم العدو الداخلي هو الأخطر وعليكم أن تعدوا له القوة الأكبر.. العدو الداخلي من المعارضين والرعاع والدهماء.. والغوغاء.. لا يوجد عند العدو الخارجي فدائيون.. ومعه – أو ضده- تستطيع أن تحسب الأرباح والخسائر.. بل وتستطيع بدرجة عالية من الدقة أن تحسب الأفعال وردود الأفعال.. أما مع العدو الداخلي.. الغيبيّ الفدائيّ.. فأنت لا تستطيع أن تحسب أيا من ذلك.. إذ كيف تستطيع التصرف مع من يعتبر الموت فوزا.. وأنه يدخل الجنة مع أول قطرة تراق من دمه.. ثم إنك تستطيع أن تتفاهم مع العدو الخارجي.. وأن تتصالح وتتفاهم وتتعاون ولو ضد الأمة.. أما مع العدو الداخلي فإنك لا تستطيع أن تمارس أيا من ذاك.. ذلك أن أول ما يطلبه ذلك العدو هو رأسك.. والباقي بعد ذلك بالطبع لا يهم!..

علينا أن نعلم أن الانتصار هو الحقيقة التي يجب أن نصل إليها.. وأن نعلم أن الانتصار مع العدو الخارجي لا يأتي إلا بالاستسلام له وتحقيق أغراضه ليحقق أغراضكم.. أما العدو الداخلي فالأمر يقتضي الترويض والالتفاف والتمزيق والفتنة والسحق. وعليكم أن تستعملوا كل أنواع الأسلحة – بما في ذلك أسلحة الدمار الشامل-في الحالتين.. دون أن تعترفوا أبدا أنكم استعملتموها.. مهما كان حجم الأدلة ضدكم..

إن السياسة لا تتفق مع الأخلاق في شيء . والحاكم المقيد بالأخلاق ليس بسياسي بارع .. بل هو ليس بسياسي على الإطلاق.. وهو لذلك غير راسخ على عرشه.

لابد لطالب الحكم وكذلك لطالب الاستمرار فيه من الالتجاء إلى المكر والرياء، فإن الشمائل الإنسانية العظيمة من الإخلاص والأمانة تصير رذائل في السياسة، وإنها لتبلغ في زعزعة العرش أعظم مما يبلغه ألد الخصوم..

إن الغاية تبرر الوسيلة، وعلينا - ونحن نضع خططنا - ألا نلتفت إلى ما هو خيّر وأخلاقي بقدر ما نلتفت إلى ما هو ضروريّ ومفيد ..

إن ما يحقق استقرارنا في الحكم هو أن تكون السلطة في قبضة شخص واحد مسئول . وبغير الاستبداد المطلق لا يمكن أن يستمر حكمنا..

يجب أن يكون شعارنا : كل وسائل العنف والخديعة.

إن القوة المحضة هي المنتصرة في السياسة، وبخاصة إذا كانت مقنعة بالألمعية اللازمة لرجال الدولة . يجب أن يكون العنف هو الأساس. ويتحتم أن يكون ماكرا خداعا من يريد حكم تلك الفئات من الأمة التي تأبى أن تداس إرادتها تحت أقدامنا . إن هذا الشر هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى هدف الخير لكم ولأبنائكم وأحفادكم.. ولذلك يتحتم ألا نتردد لحظة واحدة في أعمال الرشوة والخديعة والخيانة والتزوير إذا كانت تخدمنا في تحقيق غايتنا وتضمن لنا الاستقرار والاستمرار . لكنني في الوقت ذاته أنبه وأحذر من أن يرى العدو الحقيقي وجهنا الحقيقي.. أعني العدو الداخلي.. أو بالأحرى العدو الوحيد..

لست أعنى أن تتصرفوا كالوحوش الضواري.. ولا كالحالمين السذج.. على العكس.. يجب أن تبدو عليكم كل مظاهر الرقة والتحضر والتهذيب ودماثة الأخلاق .. بل والوقار.. ذلك ضروري.. جوهري.. لذلك كان غضبي عظيما ودهشتي أعظم.. من ذلك الغبيّ الذي مزق أستار الجلال التي تغطي على بشاعة الحكم.. فأمر أغواته وخدمه بضرب الناس وقتلهم في الشارع.. والذي كون عصابات من البلطجية لكي يواجه بهم معارضيه والرافضين لحكمه.. الغبيّ.. فيم كانت المليارات التي أُنفقت على التعليم والإعلام والقضاء والنيابة والثقافة إذن.. يجب أن تفهموا ذلك.. أن تفهموه بطريقة أفضل من ذلك.. ذلك أن من يفعل ذلك إنما يهين جلال الرئاسة ويهبط بمنصبه من رئيس مملكة إلى رئيس عصابة.. كان يستطيع أن يقتل من شاء.. لكن على يد النيابة والقضاء..

إن القوة محكومة بالقدرة.. وقدراتكم محكومة بإجادة اللعب بين عدوين خطيرين: عدو الداخل وعدو الخارج.. عدو الخارج هو العالم كله عامة والبلاد الغربية على سبيل الخصوص .. أما عدو الداخل فهو شعوبكم كلها.. وأنتم بين شقي الرحى وتروس المفرمة.. لو اكتشف الغرب أنكم مخلصون لشعوبكم فسوف يسحقكم سحقا.. ثم إن لطاقة شعوبكم على الاحتمال حدودا ولو اكتشفت خيانتكم السافرة والكاملة لها فسوف تسحقكم هي الأخرى – عليكم أن تفهموا أنني أستعمل الخيانة هنا بمفهوم الشعوب لا بمفهومنا نحن الذي يتلخص في أن الخيانة ليست خيانة .. الخيانة تجارة .. والتجارة شطارة .. والأذكى من يحصل على أقصى ثمن - ..

عليكم أن تدركوا أننا بين احتمالات الانسحاقين علينا أن نعيش وأن نحكم..

إن عدو الخارج أقوى وأذكى وأخطر لذلك فهو الصحيح والمصيب والصادق أما شعوبنا فضعيفة لذلك فهي الخطأ والباطل والكذب.. علينا إذن أن نخلص كل الإخلاص للغرب لكن دون أن تكتشف شعوبنا ذلك.. علينا أن ندعى دائما الإخلاص لها والدفاع عنها.. أن نتشدق بأكثر الكلمات حماسة.. وأكثرها إيمانا .. علينا أن نلهب دائما عواطفهم وأن ندغدغ غرائزهم.. وأن نمنيهم.. سوف تكونون مجانين وحمقى لو تصورتم أن شعوبنا ستصدقنا.. ذلك خيال لا أمل لنا فيه.. لكن كل ما نسعى إليه أن نجعلها غير واثقة أبدا من خيانتنا لها.. وتلك هي المعادلة الصعبة.. أن تخدعوها طول الوقت.. ولن تستطيعوا خداعها طول الوقت إلا إذا أفرغتم جماجمهم من العقل وقلوبهم من الإيمان..

لكن.. كيف يمكن أن ننجح في ذلك؟..

هل بالدبابات والمدافع؟..

لا أنكر أن الدبابات والمدافع هي الضامن الوحيد والأخير لنا.. علينا إذن ألا نلجأ إلى خط دفاعنا الأخير إلا بعد أن نستنفد كل وسائل دفاعنا الأخرى..

لقد قلت لكم إن مفهوم الله مفهوم خطر.. وإن الملوك على دين شعوبهم.. وإن عليكم أن تتجنبوا تجنبا مطلقا المواجهة المباشرة مع الله أو الدين.. وقلت لكم أيضا إن عليكم أن تزلزلوا يقين شعوبكم وأن تفرغوا قلوبها من الإيمان..

لعلكم تتساءلون الآن : كيف نفعل الشيء وضده في نفس الوقت؟!..

و أنا أقول لكم أنه ليس أمامكم إلا أن تفعلوا الشيء وضده في نفس الوقت!!..

عليكم أن تثبتوا دائما أن 1+1 =2 إذا كانت المعادلة تتعلق بكم.. أما إن كانت تتعلق بشعوبكم فيجب أن تكون النتيجة صفرا .. مهما تكررت عمليات الجمع.. حتى لو تكررت مليارا ونصف مليار مرة.. ولكي تصلوا إلى ذلك فإن عليكم أن تسحقوا سحقا لا رحمة فيه مؤسسات المجتمع المدني التي تحاول أن تتحدث باسم الأمة.. عليكم أن تسحقوا النقابات والأحزاب والهيئات والمنظمات.. لكن ذلك لا بد أن يتم بذكاء لا بغباء.. وأصارحكم القول أنني يمكن.. أن أقبل كل أنواع الجرائم عندما تكون مبررة وعندما تعود عليكم بالخير وأفهمها وأرحب بها وأقدرها .. لكن الجريمة التي لا أقبلها أبدا.. ولا أجد لها مبررا أبدا ولا أغفرها أبدا هي جريمة الغباء. لكن يجب أن أشير الآن أنه حتى الغباء فإننا نستفيد منه في بعض الأحيان.. ذلك أن للغباء قوة مدمرة هائلة إن لم نفهمها أفسدت خططنا. كما أن تقديم بعض النماذج الغبية ستجعل العامة تنبهر بالأذكياء. وفيما نتحدث فيه على سبيل المثال.. فإنه لا يكفي القضاء على منظمات المجتمع المدني.. وإنما يجب قبلها أن ننشئ منظماتنا البديلة ولا أقول العميلة.. وأن نغرق عملاءنا فيها بالملايين.. إلى الدرجة التي تجعلهم مستعدين للدفاع عنا بدمائهم.. عليكم أن تسيطروا تماما على الصحف والقضاء والنيابة والأمن والجيش.. وسوف أتحدث بإسهاب عن كل ذلك.. لكن الأهم من ذلك كله أن تؤمّنوا ظهوركم من الدين.. إن فتوى واحدة لشيخ قد تقضى ببيعكم كعبيد.. ولما كنا لا نستطيع – مع بالغ الأسف - تغيير الدين نفسه فلابد أن نبحث عن سبيل آخر..

نحن لا نستطيع بالطبع أن نجعل كل الشيوخ تابعين لنا.. لكن ما نستطيعه هو أن نختار من بين التابعين فقط من نمنحه حق الإفتاء ورؤساء الشيوخ ورئيس الرؤساء.. ألا نسمح إلا لأتباعنا بالظهور على شاشات التلفاز أو الحديث على موجات الراديو أو الكتابة في صحفنا الرسمية أو تلك التابعة لنا لكننا ندعى أنها غير رسمية.. ثم إن علينا أن نحاصر من يرفضون الخضوع لنا .. أن نمنعهم من الخطابة في المساجد أو حتى الاجتماع بالناس.. أن ندينهم بالخيانة والمروق.. أن نحيلهم لمحاكمنا الاستثنائية.. أن نضيق عليهم كل سبيل.. أن نتهمهم حتى بالكفر.. لكننا لو فعلنا هذا بأنفسنا لاكتشفت الأمة حقيقتنا.. لذلك يجب أن يتصدى لإدانة معارضينا من رجال الدين كبار المشايخ التابعين لنا.. فهنا لن نكون مسئولين أمام الناس عما يحدث.. ولا حتى مشايخنا الذين تتحرك ألسنتهم بما يدور في رؤوسنا لن يكونوا مسئولين .. سيكون الدين هو الذي يدين المتمردين بالخيانة والمروق والكفر.. تذكروا ذلك.. لنعترف.. أن الدين بالنسبة لنا مصدر خطر ماحق على المدى البعيد.. لكننا إن طوعناه لصالحنا فسوف يصبح ذا فوائد لا تنضب. ولمن أراد أن يهدمه أن يعرف أنه إذا حاول ذلك بنفسه فسوف يقصمه.. فلن يهدم الدين إلا الشيوخ وعلماء الدين.. ركزوا على هذه النقطة ولا تنسوها أبدا.. ولا ترتعبوا من تشدد بعضهم وتطرفه.. فإنكم ستحصدون أكبر المنافع من أكثر المتشددين.

هل تذكرون القس جيمي سواجارت؟ رجل الدين المفوه والخطيب العظيم الذي أعاد مجد خطابة شيسيرون .. هل تذكرون جولاته في أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية والشعبية الهائلة التي حققها.. كيف أشعل مشاعر الجماهير وكيف اتبعه الملايين؟ .. هل تذكرون صرخاته التي استولت على القلوب والعقول:

No Sex before marriage and no sex outside marriage.

" لا جنس قبل الزواج ولا جنس خارج الزواج.. " ..

هل تذكرون صرخاته وهو يهاجم رقص الشباب بجميع صوره ويهاجم الخلاعة والفنون ومدينة هوليود ويعتبرها بؤرة من بؤر الفساد في العالم..

هل تذكرون حواراته الصاخبة مع الداعية الإسلامي أحمد ديدات؟.. هل تذكرون سخريته وتهكمه من قوانين الزواج والطلاق عند المسلمين.. مقارنا إياها بالديانة المسيحية التي تحتم على المسيحي أن يحصل على أفضل طائر له من الطلقة الأولى (يعنى اختيار زوجته) ..

هل تذكرون ما حدث له بعد ذلك؟؟..

هل تذكرون فضيحته.. فضيحته الجنسية المدوية بعد أن ابتزته العاهرة التي كان يعاشرها.. والتي كان يخصص لها رحلتين شهريتين للاتصال بها بطريقة شاذة لإشباع رغباته ونزواته…

هل تذكرون ما حدث بعد ذلك من توالى الفضائح الجنسية على قساوسة آخرين كانوا يعملون ببرامج الدعوة الدينية في التليفزيون الأمريكي مثل القس جيم بيكر والقس مارفن كورميج وآخرين..

لعلكم سمعتم عن كل ذلك أو عن بعضه.. لكن الذي لا تعلمونه أن العاهرة لم تفضح القسيس بسبب الاختلاف على الثمن ولا حتى بسبب الغيرة.. العاهرة كانت موظفة من المخابرات.. والقسيس اندمج في الدور ونسى أنه "موظف" يأتمر بأمر الحاكم لا بأمر الله.. لذلك حدث له ما حدث..

أريدكم أن تبحثوا عن شيوخ من هذا النوع تسندون إليهم مناصب المشيخة الكبرى.. النوع الذي يكف عن الإحساس بأنه يتحدث باسم الله ويقنع بأنه مجرد "موظف" لدينا .. موظف يساعدنا على الدوام على إماطة القداسة عن المقدس.. موظف يتحدى المعلوم بالضرورة بمعاونة الشيوخ.. فمثل هذا النوع هو الذي تستطيعون ابتزازه وتهديده باستمرار كي يضع لكم خاتم الحق الإلهي على قراراتكم ومشروعاتكم.. كي تبدو أمام الدهماء أنها ليست قوانينكم التي ابتدعتموها لتحطيم مؤسسات المجتمع وإنما قوانين الله.. وسوف يتيح هذا لكم أن تحولوا معارضي تلك القوانين إلى إرهابيين أو كفار.. مثلُ هذا "الموظف" هو الذي يحلل لنا الحرام ويحرم الحلال.. وليس أمامكم مفر من أن يحتل هذا النمط المناصب الدينية الرئيسية الكبرى..

وليس يسعني في هذا المجال إلا أن أوجه الشكر والتحية إلى معظمكم.. فقد كان أداؤكم في عالم الشيوخ رائعا.. وإنني أعرف العديدين منكم.. الذين ظلوا عشرين أو حتى ثلاثين عاما.. ينتقون من الشيوخ الأسوأ فالأسوأ ليولوه المنصب الأعلى فالأعلى.. حتى وصل الأمر ببعض الأماكن في النهاية أنه لم يعد يدعو للدين إلا كافر ولم يعد يدافع عنه إلا عميل.. أما الدعاة الحقيقيون فقد نجحتم نجاحا رائعا في وصمهم جميعا بالجهل والتخلف والإرهاب.. نعم.. كانت نتائجكم أكثر من رائعة.. وأكثر حتى مما توقعناه.. لقد كان جهل الناس عظيما.. ولم يدهشنا ذلك.. أما الذي أدهشنا حقا فقد كان تصديق الناس لنا.. ربما نناقش في لقاء آخر هل صدقونا بالفعل؟.. أم أننا وصلنا بهم إلى درجة من الإعياء واليأس والعجز بحيث كانوا كالغريق الذي يبحث عن قشة على أمل أن تنقذه من الغرق غير مدرك أنها – القشة- سبيله إليه.. وعلى أي حال من الأحوال ذلك فرق أكاديمي لا يهمنا الآن.. لكن الذي يهمنا.. والذي اكتشفناه بالمصادفة.. وعلينا أن نستثمره حتى حده الأقصى.. هو أننا عندما حولنا الشيوخ التابعين لنا إلى عبيد لنا لا لله.. فقد اختلفت المشارب والتوجهات.. كان ذلك طبيعيا ومنطقيا لكننا لم نفطن إليه في وقته.. ولقد ترتبت عليه نتائج هائلة.. كارثية هائلة على الرعاع ومبهرة لنا. كان كل شيخ من هؤلاء الشيوخ ينفذ سياسة واحد منا.. ولما كنا مختلفين في الوسائل لا في الغايات فقد اختلف شيوخنا.. ولما كان لكل شيخ منهم أتباعه ومريدوه فقد انقسم الأتباع والمريدون كما انقسم الشيوخ.. وازداد تشرذم المجتمع شيعا وفرقا وتضاعف ضعف الناس.

***

***

***

عندما وصلت إلى هذا المدى من قراءة البروتوكولات تمزق قلبي وانهد كياني..

كيف قضيت عمري كله في هذا الظلام وأنا أظن أنه نور..

كيف صدقت هذه الأكاذيب كلها وأنا أحسب أنها الصدق..

كيف تعرضت لهذه الخيانات كلها وأنا أظن أنها الأمانة..

كيف سرقني من كنت أظنه أنه الأمين.. وكيف ذبحني من ظننته يحميني..

يا أللـــــه..

الحامي غول.. والهادي مضل.. والخائن مؤتمن.. والجلد فاجر.. والثقة ضعيف..

كنت أبكي على نفسي..

فماذا إذن عن الشيخ..

هل كان كما يصفون؟..

يا أللــــه..

لطالما صليت خلف شيخ بلدتنا ولطالما صمت على رؤيته وتعبدت على فتاواه..

كنت أرتجف وكنت أنوح:

وكنت أخاطب شيخي في خيالي.. إذ لم أكن أجرؤ على مواجهته فقد يكون واحدا من العسس السرّيين..

كنت أقول :

- لو كنت واحدا من الشيوخ "الموظفين" فقد أفسدت علينا آخرتنا بعد أن ضيعت علينا الدنيا..

ورحت أردد :

أفسد الآخرة وضيع الدنيا..

أفسد الآخرة وضيع الدنيا..

أفسد الآخرة وضيع الدنيا..


[1] - يرجى ملاحظة أن الكلمة تأتي على لسان المتحدث..ونستغفر الله العظيم.


يتبع 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق