بروتوكولات حكماء العرب
-2-
سنختار لهم رؤساء مِمّن لهم ميول العبيد
“ من بروتوكولات حكماء صهيون”
يتحرش بي العسس .. فقد جاءوني في المنام أمس ..
كان حلما .. ولم أقل كابوسا .. فالكابوس هو مجيئهم في اليقظة ..
وقبل أن تتهموني بالتحامل على أولئك العسس يا قراء.. أو بأنني أتهمهم بما لم يقترفوه من أشياء لا تُسأل عنها إلا هواجسي .. قبل اتهامكم ذاك أقول لكم أنني لو لم يرهقني الرعب من مجيئهم في نهاري وقيامي لما أتوني في ليلى ومنامي.. ولو أنهم لم يطاردوني في أيامي لما غلبوا على أحلامي .. كانوا أربعة .. وكانوا يجلسون على ممر وقر في خاطري أنه من ممرات محاكم التفتيش .. أولهم كانت عيناه من نار .. نظر إلىّ فتفككت أوصالي .. تراخت أصابعي القابضة على أوراق المخطوط فكأنما قطع تيار الكهرباء عن عضلاتي وعظامي فتوقفت أصابعي عن الانقباض والتشبث بالمخطوط .. سقطت الأوراق فتلقفها كائن لم أره وأعطاها له.. وحين مد الأول يديه لتناول المخطوط فوجئت بحوافر في نهاية الأيدي .. كانت الحوافر من نار فاستبد بي الفزع ورحت أبسمل وأحوقل وأستعيذ بالله من الشيطان الرجيم .. ناولها الأول للثاني والثاني للثالث الذي تناولها وراح يقرأ فيها كلاما ليس هو المكتوب وكان الكلام يطفح من بين شدقيه وينهمر حروفا من نار كحديد منصهر يفيض على حافة بركان ويسيل فصرخت رعبا واحتجاجا فبادلني الصراخ فإذا بصرخته نفثة نار أحرق لسانها وجهي ولساني .. كان الرابع – وهو كبيرهم - يجلس على مقعد لم أر مثله في حياتي .. مقعد من الجمر .. ونظرت إليه مذهولا فإذا بجسده مكون من نار تتأجج .. كان من نار وكان يجلس مستمتعا على النار ..
صرخ فيّ:
- أيها الخبيث .. هل تظن أنك تخدعنا .. تجدّف في كلامك ثم تقول: وصلني مخطوط من مجهول .. نحن نعلم سرّك وعلانيتك .. ما هي إلا حيلة ظننت أنها ستنطلي علينا فلا نطالك .. حيلة تظن أنك تتخفى وراءها لتكفر بنا وتظن أن ناقل الكفر ليس بكافر .. عندنا نحن يختلف الأمر .. فناقل الكفر أشد إجراما وأكثر خطورة من الكافر نفسه .. فلتكفرْ في بيتك كما تشاء .. لكن أن تروّج للكفر مدّعيا أنك إنما تكتب مجرد مقالات أو قصص تتكسب منها أو تسري بها عن نفسك عندما تحفرها على جدران معبد أو تنشرها عبر مجلة أو على صفحات صحيفة فلن نسمح لك به أبدا .. يا لك من خبيث كافر .. منحناك الحرية والحياة فلم تشكر لنا بل وكفرت بنا ..
صرخت:
- الله هو مانح الحياة وهو المحيى والمميت وبه أومن وله أشكر وأحمد ..
صرخ:
- ألم نكن بقادرين على اعتقالك أو اتخاذك رهينة أو قتلك ..
قلت
- بلى ..
قال:
- ولم نفعل فنحن إذن أحييناك ..
قلت:
- فالله يأتي بالشمس من المشرق فأتوا بها من المغرب ..
فبهت .. لكنه واصل الحديث قائلا:
- دعنا من سفسطتك .. لنرجع إلى حيلتك التي تظن أنك من خلالها تستطيع أن تقول ما تجبن عن قوله بدونها ..
وقلت له:
- ما أنا إلا كاتب اؤتمن أمانة استودعها إياه مجهول .. وعليه أن يؤديها ..
فقال:
- حيلتك الساذجة لن تنطلي على أحد .. أنت ألّفت حكاية كاملة محبوكة الأركان معظمها صدق و أقلها كذب.. لكنك أيها المجرم رجوت أن نصدق كذبك وأن نكذب صدقك.. ألّفت الحكاية خصّيصا لنا .. لكي تخدعنا .. وتحسب أن القراء سيتواطئون معك .. سيعلمون أنه ما من مخطوط قد وصل إليك وأنك تستعمل هذه الحيلة كي تهزأ بنا .. كي تنشر ما تريد أن تنشره لكنك تخفيه مخافة يقظة أجهزتنا وعذاب سجوننا فابتدعت هذه الحيلة كي تنشر ما تشاء متخفيا خلف المقال والإبداع .. وأنت تفعل ذلك مدركا أن قرّاءك على الجانب الآخر يفهمون الأمر ويتواطئون معك فيصل إليهم ما تريد أن تقوله لهم بتمامه دون تحمل مسئوليته وعقابه .. أنت تكتب ما تشاء وهم يقرؤون ويعجبون فيقولون عنك : يا له من شجاع .. ولقد قيل ..
ثم نظر إلى أتباعه وصرخ:
- اقذفوا به إلى النار ..
فصرخت:
- ما أنا سوى كاتب ..
فقال:
- ثم ظننت أنك ستموه الأمر علينا .. فما دمت قد قلت إن هناك مرسلا مجهولا فلابد أننا سنعتقد أنك تكذب .. وأنه لا يوجد مرسل أصلا وأنك تخفى خلف كذبك مصيبة أخرى نندفع لنتعقبها فتفلت بجريمتك الأولى .. الواقع أننا نعتقد أنكم جميعا لا تكفون عن الكذب .. لكننا نعلم أنك لم تكذب في هذه الواقعة بالذات .. فالواقعة حقيقية والمخطوط حقيقي والمرسل مجهول يَجدّ رجالنا الآن في أثره .. يا أحمق .. ظننت أنك ستخدع الجميع بحيلتك .. نحن والقراء والتاريخ .. لكننا نفهمك جيدا ..
صرخت في توسل:
- أنا لست على هذه الدرجة من الدهاء والخبث ..
نظر إلى رفاقه قائلا في نشوة المنتصر:
- إنه كالذي يعترف أنه ارتكب مخالفة مرور في مكان ما كي يثبت أنه كان بعيدا عن المكان الآخر الذي ارتكب فيه جريمة قتل ..
صرخت في توسل:
- أنا من زمرة المساكين فلا تحمّلني ما لا طاقة لي به ..
- قال:
- فلنجرب حتام تصمد! ..
التفت إلى الثاني سائلا:
- هل تبدأ بالوسائل القديمة ..
وأشار إشارة بذيئة فارتعدت .. لكنه أهملني والتفت إلى الثالث مواصلا:
- أم بالوسائل الحديثة ..
ثم التفت إلى كائن لا أراه – خيل إلىّ أنه هو الذي ناوله المخطوط عندما أفلتته يداي- قائلا له:
- عبيدكم سبقوكم وتلاميذكم تفوقوا عليكم.. إن لم تفلح وسائلكم فأرسلوه إلى القاهرة أو عمان أو الرباط فهناك بلغت براعة وسائلهم أن الصخر في أيديهم ينطق والموتى يتحركون !
طارت نفسي شعاعا .. لكنني استجمعت أشلاءها وهتفت في ضوء ذبالة شجاعة لم تنطفئ بعد:
- ما فعلت إلا الواجب وما هاجمت أحدا لكنني دافعت عن عقلي وقلبي وروحي .. أغار الجراد على حقلي فقاومته كي لا أجوع، زحفت الثعابين والحيات والعقارب إلى مخادع أطفالي فقاومتها كي لا تلدغ أبنائي وتنفث السم في عروقهم، زحف الظلام فأشعلت شمعة .. أنا لم أسئ إلى الظلام لكن النور بدده ..
صرخ صرخة عظيمة اهتز لها كياني:
- دعك من المجاز والكناية والتشبيه أيها الحشرة .. تكلم مباشرة كما أكلمك ..
تمتمت بصوت حرصت على ألا يسمعه:
- حتى لغتي يتآمرون عليها لاغتيالها ..
ثم استجمعت بقايا شجاعة لأواجهه بنبرة حملت كثيرا من الاستجداء وقليلا من التحدي:
- نشر صبيانكم وشذاذ آفاقكم الكفر والشذوذ والانحطاط .. اجترءوا على ذات الله العلية وسخروا من رسوله الكريم .. فلما أردنا مواجهتهم أوصدتم في وجوهنا الأبواب .. اتهمتمونا بالجهل والانغلاق والتحجر والتأسلم .. كانت حجتكم حرية التعبير .. أليس لنا في حرية التعبير هذه نصيب؟! .. هل من يهاجم الله والرسول مستنير أما من يهاجم الحكام فهو كافر؟! ..
صرخ في وجهي:
- لماذا لا تذهب إلى مليكك كي تواجهه بذلك .. ما شأننا نحن بهذا الأمر كله؟!.
صرخت في توسل:
- لا تخدعني يا سيدي .. فأنا أدرك أن مليكي ليس إلا صبيا من صبيانك علاقته بك علاقة عبد بسيد وعلاقته بنا علاقة سيد بخدم وعبيد .. فأنت المسئول إذن .. وما تحمله لا يخفّف عنه وما يحمله لا يخفّـف عنك ..
وتدفقت الحمم النارية:
- يخفّـف عني أو عنه؟! .. أمام من يا أهلك الصعاليك ..
وتزايدت حدة التحدي فما أدري إن كانت هذه الزيادة عائدة لقوة إيمان أم ليقين بهلاك أدركت أنه لن تجدي معه المساومة ولا حتى التخلي، فقلت:
- أمامه .. أمامه هو .. من لا هو إلا هو .. الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم .. له ما في ..
وهنا .. لطمني لطمة هائلة كي لا أكمل .. وكنت أحس لسع الجمر على صدغي وأشم رائحة الشواء من كبدي .. لطمني وتدفقت الحمم من عينيه كالطوفان وهو يصرخ في نفاد صبر متأففا:
- ألم أقل لكم اقذفوا به إلى النار ..
حاولت الهرب منهم .. طفقت أجري وأجري وأجري وأجري وجنود محاكم التفتيش يطاردونني ويسدون عليّ الآفاق ..هل كنت في قرطبة أم القاهرة؟ في القنطرة أم القنيطرة؟ في كابل أم بابل؟ في الشيشان أم في لبنان؟ كنت في الظلام وكانت جحافلهم خلفي وكنت رغم الظلام أراهم بظهري.. كانوا يفتشون عني في الدور والبساتين فيرد عليهم أهل تلك الدور قائلين: هرب.. ثم يكررون الكلمة بتنغيمات مختلفة :هرب .. هرب إلى مالطة.. هراب.. هاراب.. خاراب إلى مالطة.... خراب مالطة .. هل كنت في مالطة؟ كنت مختبئا في الظلام وكانوا يسألون أهل مالطة عني فيقولون لم يأت عندنا أحد.. وسمعت صوتا من بعيد خيل إلىّ أنه صوت الأذان فتلفت الناس حولهم في ذعر هاتفين ليس في هذه البلاد مسلم فابحثوا في مكان آخر.. وانطلقوا صائحين ساخرين:
- يؤذن في مالطة!!.. من هذا المجنون الذي يؤذن في بلاد ليس فيها مسلم؟!..
وكنت ما أزال أجري وكانوا ما يزالون من فوقي ومن أسفل مني وعن يميني وعن شمالي وقدامي ومن خلفي وزاغ بصري وبلغ قلبي حنجرتي فطفقت أجري و أجري و أجري .. و كانت سرعتي في الجري رهيبة وظننت أنني اخترقت حاجز الصوت حتى اختلط عليّّ الأمر فرحت أخرّف:
- من المؤكد أنني لست أنا .. لم تكن لي هذه السرعة من قبل ..
وكانوا هم أسرع مني .. كانوا كالصقور وكنت كأرنب .. لم أر ذاتي لكن استقر في يقيني أنني كالأرنب .. لم أر ذاتي .. فالإنسان كالعين .. والعين ترى كل شيء إلا نفسها .. وكذلك الإنسان .. وكذلك أنا .. كانوا يحلقون في السماء وكنت أخبّ على الأرض .. ولولا مناوراتي وانعطافاتي وخشاش الأرض الذي كنت أختبئ فيه وأتوارى لتمكنوا مني منذ الدقائق الأولى .. كانت أشكالهم تتبدل .. فأحيانا يكون وجههم كوجه البوم .. وأحيانا تختفي سحناتهم خلف صفحة الغيوم .. لكنني أدرك بالحدس أنهم موجودون .. وأحيانا أخرى ينقضون عليّ كالصقور أو يحومون فوقي كالنسور .. ولقد أدركت شيئا غريبا جدا .. فرغم أنني كنت أحلم .. وكنت أدرك في الحلم أنني أحلم .. لكنني كنت أسيرا في براثن الحلم لا أستطيع الخلاص بالفرار ولا باليقظة ..ورغم فزعي ورعبي قلت لنفسي لا تنس عندما تصحو أن توثق ما علمت عن خراب مالطة والأذان في مالطة وهل لها أساس تاريخي أم مجرد أضغاث أحلام.. وكنت أجاهد أن أصحو كغريق يجاهد كي يصل إلى سطح الماء وكنت أختنق وقد نفد الهواء من صدري..واكتشفت شيئا غريبا .. غريبا جدا .. فأنا لم أكن أفرّ في المكان فقط .. ولا هم كانوا يطيرون في المكان فقط .. بل كانوا يطاردونني في الزمان وكنت أفر في الزمان أيضا .. وقد أدركت هذا عندما تحولت البومة إلى طائر الرخ .. والنسر إلى طائر العنقاء .. ثم اشتد الحال فانقلبت الطيور إلى طائرات الفانتوم والشبح والميغ والميراج .. وعلى الأرض كانت الجياد تطاردني تركبها كائنات لا تظهر منها إلا عيون ينطلق منها الشرر فلا أعلم إن كانت لإنس أم لجن .. وكانت الجياد تتحول أحيانا إلى ديناصورات ضخمة وأحيانا أخرى إلى دبابات هائلة .. وكان القمر كالبحر ينشق .. وكنت أجري وأجري وأجري وألهث وألهث وألهث .. حتى غلبني الجهد والفزع من انتظار النهاية فكدت أستسلم لكنني استنجدت بآخر قواي ورحت أشجع نفسي محاولا النداء والتشجيع فاكتشفت أنني نسيت اسمي فرحت أهتف:
- يا أنا .. يا أنا .. يا أنا ..
لكنني لم أسمع إلا رجع الصدى فظللت أجري وأنادي على نفسي ولم ترد عليّ نفسي أو أنها حين ردت أخرس صوتها الفزع وظللت أخوض الكرب وأعاني الهول حتى أدركتني رحمة ربي فاستيقظت من نومي ألهث ألهث ألهث ألهث ..
كنت من الرعب في رعب .. وخشيت أن يكون الأمر قد اختلط عليّ.. أن تكون الأحلام واقعا والواقع كابوسا، كنت مرعوبا من أن تكون أوراق المخطوط قد ضاعت مني فعلا لا حلما عندما أخذها ذو الحافر الناري المشقوق .. كيف أعتذر عن ضياعها، ليس للمرسل المجهول بل لأمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، أخبرني المجهول أنه لا توجد في الدنيا نسخة أخرى كاملة من ذلك المخطوط .. وأن النسخ الأخرى كانت مرتبطة بوقائع أزمان محددة..أما النسخة التي أرسلها إليّ فهي أصل الأصول.. هي أول نسخة وآخر نسخة.. يوجد الكثير من النسخ المقلدة أو المزيفة أو الموضوعة..قال لي إنه ظل عشرات الأعوام يبحث لها عن مستودع أمين فلم يجد .. فكر في البداية أن يحفظها في الأطراف والأجنحة بعيدا عن أعين الراصدين في المركز والقلب.. لكن الأطراف كانت تتساقط كأصابع المجذوم.. حاول أن يخفيها في الأندلس لكنها زالت.. وفي تيمور الشرقية لكنها انفصلت.. وفي الفليبين لكنها تنصرت .. وفي الداغستان وبخاري لكنه وجد الكفر قد استقر هناك ليحكم.. وفي الهند لكنه اكتشف أنهم تركوا الإسلام بمعونة الرومان وعادوا يعبدون البقر.. وإلى السند فوجد أن حاكمها مسلم بالاسم لا بالفعل وأن التعامل معه غير مشرف وأنه أشد كفرا من الكافر الأصلي وأعظم خطرا..سألته لماذا لم تطبع منها مئات النسخ فإن ضاعت واحدة وجدت العشرات ..
فقال: يا مسكين فماذا أفعل إن ذهب كل قوم بنسختهم يزيدون وينقصون.. حتى نصل إلى زمن لا يبقى من المخطوط إلا المختلف عليه حتى الاقتتال وطوفان دم.. قلت : ولكن كان هناك وسائل.. لكنه أوقفني ثم واصل ما كان فيه: إذ أنه لم يجد في الأطراف ملجأ فعاد إلى المركز.. فكر ذات يوم أن يحفظها تحت قبة الصخرة في المسجد الأقصى .. لكنه أدرك أن القبة أسيرة والولاية عليها للأشرار دون الأخيار .. وفكر في يوم آخر أن يخفيها في قمة مئذنة الأزهر لكنه اكتشف أن الأزهر قد اخترق الأعداء رأسه .. وأن من اختُرق رأسه فقد مناعته وبأسه ..
حذرني المجهول أيضا من أن أخفيها حتى في الكعبة .. فقواعد الأعداء هناك قريبة .. وما من أحد يعلم مخططاتهم لغد .. ثم إن الكعبة وإن كانت ليست أسيرة لكنها بالأسيرة أشبه، وهي محاصرة، وإن بدا للعيان أن الولاية فيها للأبرار فالله وحده يعلم ما خلف الظاهر من أسرار..
سألت نفسي وأنا من الرعب في رعب:
- هل أضعت أوراق المخطوط بعد كل هذا؟ .. أضعتها بعد أن افتقدتها .. منذ عام .. بل منذ مائة عام بل منذ ألف عام .. بل .. بل .. ماذا أقول؟ وبم أهذي .. وكيف أقول أنني افتقدتها ألف عام ولم أعرف بها إلا منذ أيام قلائل.
هرعت إلى الكهف الذي أخفيتها فيه ..
اخترته كهفا كآلاف الكهوف لا يميزه في حد ذاته عنها شيء لكنني علمته بشمس تزاور عنه في شروقها ذات اليمين وتقرضه في غروبها ذات الشمال..
هرعت هرعت هرعت هرعت ..
هرعت يفترسني خوف وحشي من احتمال ضياع شيء فريد ليس له في الوجود مثيل، شيء إن ضاع ضاعت بضياعه ملايين الملايين. شيء اؤتمنت عليه، وأمانة ارتضيت حملها، كنت جاهلا وظالما ولا أعلم قدر العقبات والعواقب فقبلت. فهل ضيعتها بعد كل هذا. هل ضيعتها وضيعت نفسي وأهلي وقومي وأمتي، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، أنوء بوزري، فكيف بي إذا تحملت أوزار الباقين جميعا. أبوء بذنبي، فكيف إذا حملت مع الآخرين أوزارهم، وماذا أفعل إن طبّقت على بنود قانون "خيانة الأمانة" أو "الإهمال الجسيم الذي لا يفرقه عن الغش إلا "حسن النية" أو قانون "علم ولم يبلغ".
ماذا أفعل ماذا أفعل ماذا أفعل ..
كانت الشمس غائبة ففقدت دليلي.. هل كنت كذلك الأحمق المشهور الذي خبأ ثروته تحت ظل سحابة عابرة فلما عاد إليها لم يجد السحابة وضاعت الثروة.. لماذا لم أجعل دليلي شيئا ثابتا.. إن لم يكن خارجا عني فقلبي.. آه.. كانت الشمس غائبة وكان الظلام سائدا و أنا النور رائدي وسبيلي.. طال الليل لكن الصبح في النهاية لاح..
عندما طلعت الشمس محت آية النهار أية الليل فوصلت إلى الكهف الذي أخفيت فيه المخطوط ..
كان قلبي قد كاد أن يتوقف.
وأنا واثق أنني لو كنت قد اكتشفت ضياع المخطوط مني لكان قلبي قد توقف ..
الحمد لله .. وجدت الأوراق كما تركتها ..
رحت أنظر حولي متحسبا من تعقب العسس لي .. لكنهم بحمد الله لم يروني .. وها أنذا أعكف على الفور لأنسخ لكم ما جاء في البروتوكول الثاني قبل أن يعاود العسس كرّتهم فيأتون في الحقيقة لا في الأحلام:
البروتوكول الثاني:
هناك نقطتان أريد أن أثيرهما في بداية حديثي اليوم لكم ..
إن بعضا منكم ينظر إليّ كلصّ سرق بروتوكولات حكماء صهيون ثم نسج على منوالها .. لا تسألوني كيف عرفت .. وليس يزعجني اتهامكم .. لكن ما يزعجني هو جهلكم .. لقد ضربت لكم المثل في المحاضرة الماضية بكلمة "الماء" .. كنت أقصد أن تفهموا المثل كمجرد نموذج ينطبق على ما عداه .. لا أن تقتصروا عليه .. لشد ما يزعجني الأفق المحدود .. وافتقاركم للخيال والقياس..إنني أغفر كل شيء إلا الغباء..ولكن دعوني في البداية أروي لكم هذه الطرفة.. إذ يقال أن الخليفة الروماني في واشنطن دعا أمراءه في بلاد العرب إلى مؤتمر للقمة.. وهناك قال لهم أن بلاده أعطتهم أكثر مما يستحقون وفوق ما يطلبون لكن أوضاعهم استمرت تسوء لا لشيء إلا بسبب غبائهم وغباء حاشيتهم.. وقال لهم أن سر تقدم بلاده إنما يعود إلى ذكاء وزيره الأول.. ونادي على وزيره وسأله:
- أجب يا ريتشارد: شخص هو ابن أمك وأبيك لكنه ليس بأختك ولا بأخيك.. فمن هو؟
وأجاب الوزير ببساطة وتلقائية على الفور:
- أنا نفسي أيها الخليفة.. أنا ابن أمي وأبي ولست أختي ولا أخي..
وعاد حكام العرب إلي بلادهم يملأهم الخزي بعد التوبيخ والتقريع.. وبمجرد أن وصل كل منهم إلى بلاده استدعى الوزير الأول على الفور وسأله نفس السؤال:
- شخص هو ابن أمك وأبيك لكنه ليس بأختك ولا بأخيك.. فمن هو؟
واختلفت الإجابات وعجز الوزير الأول في غالبية الإمارات عن الإجابة لكن أكبرهم سنا أجاب كما أجاب ريتشارد:
- أنا نفسي يا جلالة الملك..
- أنا نفسي يا فخامة الرئيس..
- أنا نفسي يا سمو الأمير..
وغضب كل ملك وكل رئيس وكل أمير على وزيره صارخا فيه:
- إجابة خاطئة أيها الغبي وقد صدق الخليفة أنكم بغبائكم سر تخلف بلادنا..
وسأل الوزراء:
- فما هي الإجابة الصحيحة إذن..
واتفقت إجابات حكام العرب جميعا:
- نعم .. إجابة خاطئة أيها الغبي.. والإجابة الصحيحة أن ابن أمك وأبيك الذي ليس بأختك ولا أخيك إنما هو مستر ريتشارد بنفسه.. الوزير الأول للخليفة.. ولقد أقر هو نفسه بذلك.
مالكم لا تضحكون يا جلالة الجلالات وفخامة الفخامات وسمو الأمراء.. ؟ هل عجزتم حتى عن فهم الطرفة؟ ما أقصده أن الحكام الأغبياء لم يفهموا علم القياس.. أخشى أن تفعلوا ذلك بالأمثلة التي أضربها لكم.. أن تعتبروا كل مثل حكاية تنتهي مع آخر حروفها.. وليس هذا ما أقصد بالطبع.. بل إنني أضرب لكم الأمثال كنماذج تفسر لكم ما عداها.
نعم.. إن بعضا منكم قال لندمائه أنني لص سرق بروتوكولات حكماء صهيون ثم نسج على منوالها.. ليس يهمني وصفكم في حد ذاته.. لكن ما يهمني وما ما يزعجني هو استعمالكم لمعنى كلمة لص .. فالكلمات كما وضحت لكم لا معنى لها .. ونحن نعطيها المعنى الذي نريده لها .. الكلمة كالحجر .. والأحجار التي بنت أفخر المنتجعات هي نفسها الأحجار التي بنت أقسى المعتقلات .. الفارق هنا يكمن في إرادة من بنى .. في تخطيطه ومشروعه .. في التصور الشامل الذي يجعله يتخيل قبل أن يضع الحجر الأول الشكل النهائي للمشروع..فيرى بأول رأيه آخر الأمر.. كلمة اللص إذن في مشروعنا لا تعنى من سرق حقا لآخر .. بل تعنى الآخر.. نعم .. تعنى المسروق الذي يطالب بحقه دون أن يملك من القوة ما يغلبنا به على أمرنا .. يجب أن تفهموا ما أقول وإلا ما كنتم جديرين بمناصبكم ..
هل فهمتم .. ألمح في أعينكم عدم الفهم .. سوف أحاول أن أشرح لكم الأمر بطريقة أخرى .. فنحن على خلاف ما نتشدق به وندعيه لا نعتبر الجريمة جريمة بمجرد ارتكابها بل نعدها كذلك إذا أمكن اصطياد مرتكبها و إقامة الدليل عليه إذا استطاع الضحية إثباتها، افهموا أن مرتكب الجريمة في هذه الحالة لا يعاقب بسبب ارتكابه للجريمة بل بسبب غبائه حيث لم يستطع طمس الأدلة خلفه أو إسناد الجريمة إلى غيره أو سحق خصومه الذين أثبتوا الجريمة عليه.. فإذا كان ذكاؤه بالقدر الكافي فلم يستطع الخصوم إثبات الجريمة عليه أو إن كانت أدلتهم غير كافية فلابد أن يعاقبوا بتهمة التشهير والادعاء الكاذب .. ولما كانت كل الأجهزة في أيدينا وكل الوسائل أيضا، فإننا سنستطيع بمنتهى السهولة أن نثبت عليهم ما نريد إثباته .. سنثبته بكل قوة .. بكل يقين .. ابتداء من المستندات الرسمية حتى وسائل الإعلام .. لقد نجحتم نجاحا هائلا في تقديم رجال ونساء الإعلام..إنني أضحك أحينا في دهشة وحبور عندما أكتشف براعتكم الناتجة من تطبيقكم لما أقول لكم.. حيث حولتم رجال الإعلام إلى قوادين ونساءه إلى عاهرات يتنافسون ويتنافسن على إمتاعكم دون أي مراعاة لأي شيء.. هذه طاقة جبارة وأعلم أنكم استثمرتموها لكن ليس للحد الأقصى.. إن كل أجهزة الدولة مكرسة لإثبات براءتكم من كل جريمة.. إنكم تستطيعون اختلاق الحكايات وتدبير الشهود وتزوير الوثائق واصطناع المستندات وحتى شرائط التسجيل بالصوت وبالصورة.. نعم.. الكذب ليس عيبا وعليكم أن تمارسوه بقدر ما يفيد وكذلك اللصوصية وكافة الموبقات الأخرى.. إن عليكم مهمة شاقة كي تكونوا متحضرين.. عليكم أن تخلعوا تراث عشرة آلاف عام من الأباطيل التي شوهت وجدانكم وبلبلت أفكاركم.. عليكم أن تقاطعوا هذا كله وتنقطعوا عنه.. وأن تبدءوا من جديد.. وعليكم أن تدركوا أن الطبيعة هي مثلنا الأعلى وأستاذنا الوحيد.. لا تصرحوا أبدا بذلك لكن مارسوه دائما.. تعلموا من الطبيعة.. هل يتهم الأسد الذي يفترس غزالا بالإجرام.. أو الأفعى التي تسرق بيض الدجاج باللصوصية.. وهل لذلك أي عقاب.. إلا إذا افترضنا أن الغزال يستطيع أن يحصل على قوة أسطورية تجعله يقوم بعقاب الأسد بنفسه.. أو يدفع الدجاجة وهي تدافع عن بيضها وأفراخها لنقر عين الحية الرقطاء.. تلك أشياء لا تحدث عادة.. لكنها أحيانا نادرة تحدث..ربما نتميز عن عالم الحيوان بميزة.. ففي مثل الأسد والغزال لا يستطيع حيوان ولا إنسان أن يدين الغزال إذا ما استطاع أن يمزق الأسد إربا.. ولكننا على المستوى الإنساني نستطيع بوسائلنا فوق العادية أن نجرم هذا العمل و أن ندمغه بالوحشية والإرهاب.. فلتعلموا ذلك ولتستغلوه حتى أقصاه..إننا نخلق حقائقنا بأيدينا، ولا حق إلا ما نراه حقا ولا باطل إلا ما نراه باطلا .. وبهذا فإننا نسمي ما نشاء بطولة وما نشاء خيانة .. إلا أنني أحذركم وأنبهكم من أن هذه المسميات غير ثابتة ولا هي مستقرة .. فبطولة اليوم قد تكون في الغد خيانة وخيانة الغد قد تكون أول أمس أو بعد غد بطولة .. هل تريدون توضيحا أكثر .. سوف أضرب لكم مثلا من أنفسكم .. إذ يحكى أن ملكا عادلا ( لا تبتسموا .. ففي أحيان نادرة جدا يمكن أن يوجد ملك عادل .. إنه الاستثناء الذي يثبت القاعدة) وكان شعب هذا الملك يكاد يعبده .. وكان أي معارض للملك العادل يلقى به في السجن على الفور .. ثم انقلبت الأمور .. وأصبح الباطن ظاهرا والظاهر باطنا وقبض على الملك العادل وأودع السجن وصدرت الأوامر بإلقاء القبض على كل من يمتدحه .. وذات يوم اجتمع في أحد السجون ثلاثة وأخذ كل واحد منهم يعترف بجريمته التي سجنوه من أجلها .. فقال الأول:
- كنت أهاجم الملك العادل ..
وقال الثاني:
- كنت أدافع عن الملك العادل ..
وتلكأ الثالث قليلا ليقول ..
- أما أنا .. فقد قبضوا عليّ لأنني أنا الملك العادل نفسه!.
لا .. لا .. لا .. لا تضحكوا .. فإن معنى ضحككم أنكم لم تفهموا ما أعنيه .. فليس ما قلته طرفة .. بل هو يمثل جوهر الحقيقة عندنا فنحن يمكن أن ندين الشيء وضده وأن نحبس النظرية نفسها .. هل فهمتم؟!.
النقطة الثانية هي انزعاج بعضكم ودهشة بعضكم الآخر عندما وصفت الأجنبي عموما والغرب خاصة- وسوف أستعمل مترادفات عديدة تؤدي إلى نفس المعنى- بأنه عدوكم .. فهل كنتم تظنونه صديقا؟! .. قولوا ما شئتم لرعيتكم لكن افهموا الحقيقة المجردة وإلا هلكتم .. إنني مذهول كيف استطاع من يفكر بطريقتكم هذه أن يستمر في سدّة الحكم .. نعم .. الغرب عدوكم .. أخطر أعدائكم .. أم حسبتم أنكم ما دمتم قد أفرطتم في تقليده ولبستم لباسه وتحدثتم بلسانه انفصلتم بالكامل عن شعوبكم وأصبحتم منه .. لا .. سوف يقابلونكم في الغرب مرحبين متهللين.. ولكنه ليس تهلل الصديق لصديقه .. بل تهلل الداعر لقواد ساق إليه بغيته أو الصياد لكلب صيد حمل إليه فريسته أو على أحسن الفروض تهلل الإنسان لقرد يحاول أن يقلده فيلبس حلة ورباط عنق ويضع على عينيه عوينات ويدخن سيجارا ويشرب كأسا من الخمر ويراقص النساء .. هل يمكن للقرد إذا ما فعل كل هذا وأكثر منه أن يصبح إنسانا؟ .. هكذا ينظر ولاة الأمر هناك إليكم .. إنهم ينظرون إليكم كمجرد قوادين يسهلون متعتهم وكلاب صيد تحمل لهم فرائسهم وقرود تقطف لهم الثمار من أماكن خطرة فيكفونهم شر المخاطرة بأنفسهم .. ولقد كانت أدبياتهم وفلسفاتهم تتحدث عنكم عندما قالوا:
"سنختار من بين العامة رؤساء إداريين ممن لهم ميول العبيد، ولن يكونوا مدربين على فن الحكم، ولذلك سيكون من اليسير أن يمسخوا قطع شطرنج ضمن لعبتنا" ..
يجب أن تفهموا هذه النقطة وإلا هلكتم .. هل تذكرون ما قاله القائد الأعجمي عن زميله القائد العربي في الحرب الأخيرة التي كنتم فيها حلفاءهم .. هل وعيتم كمّ الازدراء والاحتقار الذي يواجهونكم بها .. قال القائد الغربي:
" كانت أكبر مشكلة واجهتني أثناء الحرب هي أن أتخلص من الأسئلة الساذجة الغبية لزميلي في القيادة- القائد العربي – .. والذي لم يكن يعرف الفارق بين الواقي الذكرى ومدفع الكلاشينكوف .. وإن خبراته القتالية بالدبابات والطائرات لا تتعدى خبرات الطفولة عندما كان يلعب بلعب تقلد الدبابات والطائرات .. " ..
نعم .. لا يذكركم الأجنبي ولا يذكر شعوبكم إلا مقترنين بألفاظ تتفاوت في حدتها بدءا من "ضحل"، "محدود"، "مخلّ"، "بسيط"، و"ساذج" و"مقزز" و"عاجز"و"بدائي" و"متخلف" و"ظلامي" و"رجعي" و"ضعيف" و"مارق"، وليس نهاية بـ "جاهل"، "عميل"، " انتهازي"، "صفيق"، و"وقح" وإرهابي" و"مجرم" و"محور الشر".
نحن لا نتكلم عن سباب يمكن أن يتم الاعتذار عنه بجلسة "تبويس" اللحى، بل نتكلم عن فلسفة كاملة تؤكد الفرقة وعدم التكافؤ وأن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا، فلسفة ترسخ الفروق العرقية والجنسية التي تحسم بشكل نهائي أنه من المنطقي والطبيعي استعلاء الغرب على الشرق، إنهم يجندون لذلك كتابا كبارا وفلاسفة من الوزن الثقيل وليس حشرات وديدان كتلك التي تربونها حولكم وتسمونها كتابا، أو بالأحرى فهم لا يجندونهم، وإنما اقتضت نتائج التطور الفكري لمجتمع متجانس تغيرت مرجعياته أن تكون تلك هي القناعات الحقيقية للمفكر أو الفيلسوف، بل ربما يكون الأمر هناك على العكس منه في بلادكم، حيث يسير الحاكم خلف المفكر ليطبق نظرياته.
نعم، أكرر أن المثقف هناك ليس مجرد كلب صيد كالذي تطلقونه لتمزيق معارضيكم بالحق أو بالباطل عندما تشاءون، وضعية المفكر هناك تختلف مواكبة الإمكانات الهائلة التي تنطوي عليها أفكاره وتوجهاته، ويجب أن تستوعبوا ذلك جيدا، لأن المفكر هناك لا الجنرال هو عدوكم الأول في معركة هائلة لا تنتهي أبدا آخر ما يظهر فيها السلاح، معركة يدخلها الجميع حتى الشعراء، ويدخلها بالطبع الروائيون، والفلاسفة، والمنظرون السياسيون، والاقتصاديون، والإداريون الذين يبنون أعمالهم وأنشطتهم على هذا التمييز المسبق بين ما هو شرقي وما هو غربي. تتضافر جهود الجميع على ترسيخ هذه النظرة إليكم وإلى شعوبكم، انظروا إلى صوركم على سبيل المثال في أفلامهم، أو ما تكتب عنكم أقلامهم، حيث يطفح الاحتقار على الدوام بمبررات ومظاهر هيمنتهم عليكم، باستعمال السلاح ضد شعوبكم واعتبار ذلك أمرا طبيعيا وأخلاقيا ومبرَّرا فإذا مارد المستضعفون ولو كأفراد باستعمال السلاح أو حتى الحجارة -حين لا يوجد السلاح- كان فعلهم إجراما وإرهابا وغير مبرر .. هل تفهمون ما أقول؟ وهل تدركون تلك الرغبة العميقة عند الأجنبي في أن يبيدكم كالهنود الحمر، كان يود ذلك لكن طبيعة العصر لم تعد تسمح، ولكنه وقد عجز عن الإبادة عجز في نفس الوقت عن قمع مشاعره ضد شعوبكم، مشاعره التي تتفجر فيها رغبة عارمة في إخصائكم عقليا وروحيا وعلميا، لقد عجز عن إبادتكم كبشر، فلا مفر إذن من أن يهبط بكم من المستوى البشري إلى مستوى دون الحيوانات، لكي يبرر في النهاية حقه في ذبحكم ذبح السائمة وفي السيطرة عليكم وعلى ثرواتكم، وهناك، حيث بلغت الثقافة ذروتها والتقدم أقصاه، لا تتشوش رؤاهم بأي كوابح أخلاقية، إن الناس غير متساوين، وذلك جزء من طبيعية الحياة وقوانينها، فمثلما تدور الأرض حول الشمس يجب على الضعيف أن يدور حول القوي وأن يتبعه؛ فخضوعكم للأقوى ودونيتكم أمامه هي مسألة عادية من قوانين الطبيعة أستاذنا الأكبر ومعلمنا الوحيد، مسألة يجب تقبلها، بل يجب عدم الشعور بها، والعماء عن ملاحظتها.
إنني أنبهكم مرة أخرى أنني لا أحدثكم عن صواب وخطأ ولا عن حق وباطل ولا عن صدق وكذب، وبالطبع لا أتحدث عن حلال وحرام .
أحدثكم عن الواقع المجرد كما هو لكي تستطيعوا التعامل معه.
إن بعض معارضيكم يتعبون أنفسهم كثيرا في محاولة تعقب ما يسمونه أخطاء أو أكاذيب في المنظومة الفكرية الغربية عن شعوبكم، وهم سذج جدا، يرون القذى ولا يرون الخشبة، ما زالوا يرون الأشياء بمفهوم الصدق والكذب، وهو مفهوم لا أحبه ولا أحترمه ولا أقره، ولا أستعمله هنا إلا لكي أبسط الأمر أمام عقول مجهدة كسولة لم تتعود على الغوص فيما خلف الظاهر لتسبر الأغوار، أقول لكم إن المنظومة الفكرية للأقوياء والمستكبرين كلها كذب، إنني أشعر بالاشمئزاز من نفسي وأنا أستعمل كلمة كذب، لكنني أصارحكم، بأنني أنظر إلى هذه المنظومة بإعجاب وانبهار لا يوصف أمام عمل إبداعي ليس له مثيل، أنتم تعرفون رأيي فيكم وفي شعوبكم، ولا يتسع المجال الآن للحديث عن ذلك، لكنني أتحدث عن هذه المنظومة الكبرى من الأكاذيب-مع تحفظي على كلمة أكاذيب- التي شارك في صياغتها مئات الملايين عبر مئات السنين كي يصلوا إلى ما وصلوا إليه الآن من صورة خيالية لكم ولشعوبكم، صورة خيالية لا تكاد تمت للواقع بصلة، صورة خيالية تحكمت فيها نية مسبقة وتخطيط مسبق بأن تكونوا في هذه الصورة البشعة التي تبرر معاملتكم معاملة لا يرتضونها لحيواناتهم، وللوصول إلى هذه الصورة، كان على كل مؤسسات المجتمع أن تنسج نسيجها الفريد، كان على الأقلام أن تكتب، وعلى الصحف السيارة أن تنشر الفضائح، وعلى المجلات المحترمة أن تنشر الأبحاث الموجهة، وعلى الجامعات والهيئات والندوات والتلفاز والمقالات واستقطاب العملاء واستكتاب المأجورين واستمالة أصحاب المصلحة أو الهوى أو أصحاب هذا الفكر كل أولئك لكي يصوغوا فكرة دونيتكم ودونية شعوبكم، كان عليهم أيضا أن يتلاعبوا بالبنوك والأموال وبأسعار صادراتكم ووارداتكم، فإذا فشلت هذه الوسائل كلها كان السلاح يتحرك، كان الهدف أن يبدو ضعف الضعفاء كبنية جوهرية غير قابلة للتبدل والتغيير، وكان الواجب دائما قمع أي محاولة لتغيير هذه الصورة الخيالية. نعم. أنا أعترف أن الصورة التي يقدمها المستكبرون والأقوياء عن الضعفاء ليست إلا عملا فنيا بارعا لا ينتمي للواقع، عمل فني كالشعر، الذي أعذبه أكذبه، إن الأقوياء المستكبرين هم الذين حددوا وفصلوا ومايزوا بين بنيتين تم تعريفهما على أنهما مستكبرون ومستضعفون، أو أقوياء وضعفاء، أو شمال وجنوب أو شرق وغرب، فكلها مترادفات تؤدي نفس المعنى، ولقد حرصوا على أن يكون هذا التمييز تمييزا نهائيا يتضمن تأكيد سيادة الأقوى على الأضعف، كائنا ما كان موقعه وجغرافيته. المهم أن تتشكل المعرفة الأكاديمية المصطنعة مصحوبة بالقوة العسكرية والسياسية، لتؤبد وتؤكد حالة الخصاء الوجودي للآخر، ليقبل الضعيف باستعلاء القوي عليه واستعباده له.
هل أدركتم الآن سر دهشتي لأنكم لم تفهموا أن بلاد الأقوياء في الغرب والشمال والشرق على هذه الدرجة من العداء لكم؟
نعم إنهم هناك ينظرون إليكم بمنتهى الاحتقار والازدراء .. إلا أنني أتوقف هنا لأؤكد أن المنظومة الفكرية للمستكبرين وإن كانت في جملتها وتوجهها تقدم صورة خيالية إلا أنها في ذات الوقت تحتوي على الكثير من الوقائع الحقيقية والصادقة والتي تساعدهم في حبك منظومتهم الفكرية، إن أي منظومة للكذب تنهار على الفور إن لم يوجد بها بعض الحقيقة.
تنهار كما ينهار جدار رصت فيه الأحجار دون ملاط، الأحجار هي كتل الكذب، والملاط هو المادة اللاصقة التي تجعل من الأحجار المتناثرة المفككة جدارا صلبا، إن فساد الحكام والنخبة في بلادكم على سبيل المثال ليس خيالا، ولو أن أي واحد منكم كان هناك وعمل ما يعمله هنا لتكفل قانون الجنايات العادي بسجنه مدى حياته .. لكنهم هناك، حينما يتحدثون عن فساد حكمكم لا يفعلون ذلك كي تصلحوا الفساد أو لأجل أن تقللوا منه، على العكس، إنهم يذكّرونكم بأنهم يعرفون خبايا فسادكم، وأنهم رغم علمهم يصمتون، ولذلك مقابل: أن تعطوا لهم ما يريدون. تذكروا دائما ذلك .. وتذكروا أيضا أن هدفهم ليس فقط إقناع شعوبهم أنكم لا تستحقون المعاملة كبشر كي يقدموا لهم المبرر الأخلاقي لما يفعلونه بكم، إنهم يريدون أيضا أن تقتنعوا أنتم وشعوبكم بذلك، ولا أنكر – مع انبهاري- كم وكيف نجحوا في هذا الأمر، لدرجة أن الكثيرين جدا من رعاياكم يشعر بالخزي عندما يضطر لذكر جنسيته.
إن بعضا منكم يحاول أن يهرب من هذا المصير التعس بأن ينضم إليهم في احتقارهم وازدرائهم لرعاياه، لكن: لا تتخيلوا أبدا أن إيمانكم بأفكارهم ونظرياتهم وفلسفاتهم سترفع من قدركم في أعينهم .. قد يصفقون لكم أحيانا وقد يعجبون بكم إعجاب مدرب القرد بما وصل إليه القرد من مهارة .. ولعلكم تتساءلون الآن عن جوهر علاقتهم بكم .. عما يربطهم بكم ويربطكم بهم هذا الرباط المتين على الرغم من عداوتهم التي شرحتها لكم على الفور .. أنا أقول لكم .. ما يربطهم بكم ويربطكم بهم هو عدو مشترك .. هذا العدو المشترك هو شعوبكم .. نعم .. هو شعوبكم! .. فكلاكما ينظر إلى هؤلاء الرعاع بخوف ورعب .. لأن أولئك الدهماء هم بأنفسهم من هددوا حضاراتهم ذات يوم وما زالوا يتوهمون أنهم يملكون البديل الأفضل .. لم يهددوها فقط .. بل لقد انتصروا عليها وكادوا يسحقونها .. هذه الشعوب ما لم تسحق .. ما لم تروض .. ما لم تزور إرادتها ويزيف وعيها فإنها تستطيع أن تنهض لتناوئ من جديد .. ولقد كانت تكاليف هذا السحق على الغرب أكثر مما يطيق .. ثم إن عمليات السحق نفسها كانت تلهب مشاعر الرعاع فيزداد بغضهم للمستكبرين وتحفزهم لهم .. كانت عمليات السحق تلك غير مضمونة ويمكن أن يفلت عيارها في أي وقت ليحدث ما ليس في الحسبان حين يستقوي الغزال على الأسد فيمزقه إربا إربا.. ثم إنهم – من يسمونهم بغض النظر عن الأسماء: المستكبرين- كانوا قادرين دائما على قتل الأجساد .. لكن الأفكار استعصت عليهم .. إن قتل الأجساد لم يكن غاية.. على العكس .. فهذه الأجساد هي التي تمثل الأيدي العاملة الرخيصة كما تمثل أسواقهم التي يبيعون فيها بضائعهم .. كان قتل الأجساد يروى حقدا قديما لكنه كان يزيد الأمور سوءا .. وقد وجدوا أنفسهم في حلقة مفرغة.. كلما قتلوا الأجساد أكثر كلما ترسخت الأفكار عند الرعاع أكثر .. وكلما ازداد القتل كان ذلك باعثا على مزيد من الرغبة في الثأر والانتقام من ناحية .. ومن الناحية الأخرى فإن ذلك القتل يغذي وجهة نظر القائلين منهم بأن الوحشية والهمجية والإرهاب صفات المستكبر لا صفات الشعوب المسحوقة المسكينة.. وسماته لا سماتهم .. وكلما بالغ في القتل كان ذلك دليلا عند الرعاع على صواب رأيهم .. بل وكانت دليلا على أن هذا القوي الشرير الإرهابي المجرم الذي لا يعترف بغير الرصاص وسيلة للحوار يجب أن يواجه باللغة التي يفهمها .. بالرصاص .. وتدور الحلقة الجهنمية المفرغة حيث يكون القتل باعثا على مزيد من القتل .. والإرهاب يستدعي الإرهاب .. كان لابد من عامل قوي يكسر هذه الحلقة المفرغة ويمنع تداعياتها الخبيثة.. لذلك نبتت حاجة الغرب إلي وكلاء له يقومون عنه بما ينبغي أن يقوم به دون أن يثيروا الحساسيات والمضاعفات التي يثيرها وجوده المباشر .. وهكذا صنعوا آباءكم وأجدادكم وأسلافكم .. صنعوهم صنعا .. وليس هذا هو المجال الذي أقول لكم فيه كيف صنعوهم .. ثم صنعوكم أنتم .. كانت صناعتكم – بحكم اشتراك الوراثة في الصنع- أسهل .. كان عملا عبقريا .. لأنكم .. بحكم أنكم من نفس هذه الشعوب قادرون على قتل الأجساد والأفكار معا .. وبتكلفة أقل .. لذلك حملوكم على أعناق شعوبكم .. لكن لا تنسوا أبدا أن بداية وجودكم كانت مرتبطة بهذا المنهج .. وأن استمراركم رهين به ..
لشد ما أرثي لبعضكم .. الذين يتصورون أنهم بتسريع العملية وبالمبالغة في سحق شعوبهم ينالون حظوة عند الغرب أكثر .. إن الأمر ليس بهذه البساطة .. إنه معقد بدرجة لا يمكن أن يفهمها إلا داهية .. سوف أحاول تبسيط المسألة لكم لأن مستوى ذكائكم يتدهور بدرجة مقلقة.. سوف أحاول أن أبسط لكم الأمر ..
هبوا أنكم استأجرتم قاتلا ليقتل عدوا لكم .. إن علاقة هذا القاتل الأجير بكم يحددها أمران: الأول أنه يعلم أنكم أقوى منه وأنكم تملكون عقابه، والثاني أن يعلم أنكم تملكون القدرة على عطائه عطاء جزيلا .. فإذا اختلت هذه المعادلة فتذكروا أن القاتل الأجير يمكن أن ينقلب على صاحبه، وأن يكون مكمن خطر، إما بدافع الانتقام أو بدافع الطمع.
والآن لنعد إلى مَثَـلِ القاتل الأجير .. ستجزلون له العطاء .. لكن إن كان هذا العدو الذي استأجرتم القاتل لقتله صديقا للقاتل نفسه فلابد أن تجزلوا له العطاء أكثر لأن مهمة القاتل هنا ليست القتل فقط بل وخيانة الصديق أيضا .. فلنتقدم خطوة أخرى .. هبوا أن هذا العدو ليس صديقا للقاتل فقط .. إنه أبوه وأمه .. أبناؤه وزوجته .. أشقاؤه وعشيرته .. أهله .. لو كان الأمر كذلك فإن العطاء الجزيل وحده لا يكفى .. إذ لابد هنا من خداع القاتل .. من غسيل مخه .. من التزلف إليه وإيهامه بأنكم أنتم أهله وعشيرته الأقربون .. لابد من التزلف إليه والمبالغة في التظاهر باحترامه .. عليكم أن تقوموا بكل ذلك رغم كل ما يعتمل في أنفسكم من ازدراء واحتقار .. وعليكم أن تواصلوه حتى ينجز مهمته .. وفى اللحظة التي ينهى فيها القاتل الأجير مهمته .. في اللحظة التي تنتهي حاجتكم إليه .. فليس ثمة قوة في الدنيا بقادرة على منعكم من إظهار مشاعركم الحقيقية نحوه .. من ازدرائه واحتقاره بل ومن محاولة التخلص منه .. لأنه منذ اللحظة التي ينهى مهمته فيها سوف يكون عبئا ومصدر ابتزاز خطر .. وأخطر ما في موقفه أنه سيظن أنه بسبب ما أسداه لكم أصبح ندا لكم .. بل أصبح ذا فضل عليكم .. وأن الثمن الذي يتوقعه ليس ثمنا ماضيا .. تدفعونه له وينتهي الأمر .. بل هو ثمن مستمر في الحاضر والمستقبل .. ثمن استقراركم وسيطرتكم .. بل إن هذا القاتل الأجير يتحول إلى مبتز، وقد يقوم هو نفسه بالتحريض عليكم وإشعال الفتن ضدكم حتى يذكركم بما يجب أن تدفعوه له .. فما هو الحل في هذه المشكلة الخطرة .. ألا توافقونني في أنه ساعتها يجب عليكم أن تدبروا المؤامرات والقلاقل ضد هذا القاتل الأجير حتى تنتهوا منه .. إنني أرجو مخلصا أن تكونوا قد تخلصتم من الحساسية المرضية من استعمال الألفاظ والكلمات والصفات.. وأرجو ألا يخدش كبرياء جلالاتكم ومعاليكم وسموكم تشبيهي لكم بقاتل أجير .. إنني أعتذر لكل من يظن أنني قد خدشت كبرياءه .. لكنني في نفس الوقت أصر على تشبيهي .. بل وأزيد لأقرر أنه ليس مجرد تشبيه!.
هل فهمتم الآن ما أقصد .. إنكم مكلفون بمهمة معينة .. فإن أتممتم إنجازها فلا حاجة بهم إليكم .. ولقد كان عدم فهم هذه النقطة بالذات هو السبيل إلى المآسي الفاجعة التي انتهت بقتل رؤساء وتشريد ملوك ..
سوف نعود لهذه النقطة مرات ومرات .. لكن ما أحب أن أقوله الآن لكم .. أنهم لم يخفوا عنا كل ذلك .. ولقد قرأت عليكم منذ قليل اعترافهم بأنهم انتقوكم من بين الرعاع والدهماء .. كانوا حريصين على أن تكون صفاتكم صفات عبيد .. إنني أرجو ألا تؤلمكم هذه الصراحة .. ومرة أخرى فالكلمة ليس لها معنى إلا المعنى الذي نعطيه لها .. ولكيلا يهولكم الأمر .. فإن الوجود البشرى كله ينبني على وجود سيد وعبيده .. وحتى بين الأقوياء أنفسهم فإن الأقوى نسبيا يستعبد الأضعف نسبيا .. صحيح أنهم ارتقوا هناك بالمفهوم كي يمتعوا أنفسهم .. لم يكتفوا باستعباد بعضهم بعضا .. فجعلوا من التكنولوجيا عبدا من العبيد .. ثم إنهم نجحوا في أن يحولوا العبودية نفسها إلى نوع من المتعة .. ونجحوا بعبقرية أن يتبادلوا الأدوار .. فالعبد بالنهار سيد بالليل وسيد الليل عبد بالنهار .. والحاكم هذا العام يصبح محكوما في العام الذي يليه .. بينما يصبح المعارض حاكما دونما حاجة إلى الصراع الوحشي وسفك الدماء، ولقد استطاعوا بذلك أن يصلوا إلى درجة من الاستقرار أمّنت لهم سبل التقدم ونقلت صراعاتهم الداخلية إلى الخارج. إلى بلادكم أنتم. لذلك فإن مفهوم الانفصال الطبقي عندهم ليس ظاهرا كل الظهور .. ذلك كله صحيح .. وصحيح أيضا أنه لولا اختيارهم لكم ما كنتم في مناصبكم التي تتمتعون بها الآن .. وصحيح أن عصمتكم في أيديهم فمن شاءوا منعوه ومن شاءوا أطلقوه ومن شاءوا خلعوه ومن شاءوا قتلوه ومن شاءوا عزلوه ومن شاءوا أطلقوا له الحبل على غاربه .. وذلك كله يعنى أن مفهومهم عنكم كعبيد مفهوم صحيح .. لكن هذا هو المعنى الذي يستطيعون إعطاءه للكلمة .. أنتم تستطيعون أن تعطوا الكلمة معنى آخر .. لكنني قبل أن أتطرق إلى هذا المعنى أدلف لمفهوم كلمة العبيد عند رعاياكم .. نفس الشيء .. إن الوجود ينقسم عندهم إلى سيد وعبد .. ورغم أن الكلمتان تتكونان من ذات الحروف فشتان ما بين المعاني .. ذلك أن مفهوم الرعاع والإرهابيين أن الله هو السيد الواحد الأحد وأن جميع الخلائق بعد ذلك عبيد .. هذا المعنى الخطير يقتضى أن البشر كلهم عبيد .. وما داموا عبيدا فهم متساوون .. إذ لا يمكن أن يكون البشر متساوين إلا في حالة وجود إله .. إنهم يعترفون على أنفسهم بأنهم عبيد .. وأنتم أيضا من وجهة نظرهم عبيد .. ويرون حتى سادة الغرب عبيدا .. الكل عندهم عبد والعبودية مطلقة وذلك يعنى تساوي الرؤوس جميعا وليس لأحد العبيد أن يعتبر أنه أفضل من العبد الآخر إلا بمحض صفاته الشخصية .. هذه الفكرة هي ما تزعج الأقوياء هناك كما تزعجكم.. لأنها تهدد فلسفة القوي الأجنبي وحضارته كلها بالفناء .. وهى تهددكم أيضا بذات الفناء .. ولأن الأجنبي قد فشل في قمع هذه الفكرة .. حيث نجحتم أنتم.. فإن ذلك يعطيكم ميزة .. وهذه الميزة تجعلكم سادة وليس عبيدا .. أو على الأقل نصف سادة..على ألا تنسوا أبدا .. أن وجودكم مرتبط بوجود شعوبكم .. ولو تصورنا كارثة طبيعية أهلكت شعبَ واحدٍ منكم فلم يبق من الشعب إلا هو .. فإن الغرب ساعتها لن يواصل التظاهر بمعاملته كسيد بل سوف يتعامل معه كلص ومجرم ..
هل فهمتم ما قلت يا سادة ..
تلك هي لعبتكم الكبرى .. وهى ليست لعبة حظ ولا متعة وإنما لعبة حياة أو موت .. الأجنبي يتعامل معكم كسادة ولكنه يعتبركم عبيدا .. وأنتم تعاملون رعاياكم كعبيد لكنكم تتظاهرون بسياستهم كسادة .. وما بين الاثنين .. الأجنبي ورعاياكم تقبع فرصتكم .. وتذكروا دائما أن رعاياكم هؤلاء هم الفئة الوحيدة التي تعترف على أنفسها بالعبودية .. إنهم لا يتنافسون معكم على سيادة ولا حتى نصف سيادة وإلا لأمكن التفاهم معهم.. برشوتهم .. أو باصطفاء الأقوياء منهم ليكونوا معكم سادة .. ليسوا مثلكم .. وذلك مكمن خطرهم .. وصعوبة سياستهم .. إذ كيف تتمكنون من السيطرة على من لا يعترف بكم سادة .. من لا يعرف له سيدا سوى الله .. لكن ذكاءكم سيكمن في تقليدكم لما يفعله الأجنبي معكم وبكم .. اختاروا لهم وزراء ممن لهم ميول العبيد .. وشيخ أكبر ممن لهم ميول العبيد .. ومدع عام ممن لهم ميول العبيد .. وقضاة ممن لهم ميول العبيد.. ومحافظين ممن لهم ميول العبيد .. ورؤساء جامعات ممن لهم ميول العبيد .. واجعلوا الوزراء يختارون وكلاء ممن لهم ميول العبيد .. اختاروا أيضا رؤساء تحرير صحفكم ممن لهم ميول العبيد .. والمسئولين عن إعلامكم وثقافتكم وتعليمكم وصناعتكم وتجارتكم وزراعتكم وكل شئون الحياة في ممالككم وإماراتكم .. اجعلوا كل مرؤوس عبدا لرئيسه سيدا لمرءوسه .. لأنكم بذلك تجعلونه يتخلص من توتر قهر رئيسه له بقهر مرءوسه .. وليظل الصراع مستعرا بين طوائف أممكم .. صراع كصراع العبيد في روما القديمة .. حين كان العبدان يقتتلان حتى الموت.. يموت أحدهما في المبارزة .. فيتقدم جنود الرومان لقتل الآخر على الفور.. كان الفارق بين حياة القاتل والمقتول دقيقة .. بين النصر والهزيمة دقيقة .. ولقد تجلت عبقرية الرومان في أنهم لم يتركوا للعبيد أي فرصة ليدركوا معنى هذه الدقيقة ومغزاها .. ولو أنهم أدركوها لاتحدوا وقتلوا قاتليهم .. هذه العبقرية هي بالضبط ما أريدكم أن تتزودوا بقبس منها .. عبقرية الحكم .. لكن لا تنسوا أبدا أن أعداءكم الآخرين هناك يمارسون نفس السياسة العبقرية معكم .. لكن مهمتكم أصعب من مهمتهم.. إنهم يعاملونكم ورعاياكم بنفس المنهج .. أما أنتم فإن عليكم أن تمارسوا الشيء وضده في نفس الوقت .. أن تتعاملوا معهم بطريقة ثم تتعاملون مع رعاياكم بطريقة مضادة على طول الخط .. إن الجهاز العصبي للكائن البشرى غير ممهد لفعل الشيء ونقيضه في نفس الوقت ..
والآن ..
دعوني أرفه عنكم .. سأقطع هذا الحديث القاسي المتجهم .. سأرفه عنكم بلعبة طريفة ..
فليضع كل واحد منكم يديه على صدره .. اقبضوا أصابعكم .. ودعوا السبابة وحدها منتصبة .. والآن هيا .. لنبدأ اللعبة .. اجعل السبابة اليمنى تتحرك على النصف الأيمن من صدرك صعودا وهبوطا .. هيا .. بسرعة .. والآن .. دون أن تتوقف سبابتك اليمنى .. اجعل سبابتك اليسرى ترسم دائرة على نصف صدرك الأيسر .. هيا .. بسرعة .. اجعلوا الدائرة منتظمة .. لا توقفوا السبابة اليمنى عن حركتها الرأسية .. السبابتان معا .. في نفس الوقت والحركة المختلفة ..
والآن .. انتهت اللعبة .. أطلقوا أيديكم كما شئتم ..
هل أدركتم صعوبة – وربما استحالة- تلك اللعبة؟ .. أن يتحرك نصفك الأيمن عكس حركة نصفك الأيسر ..
هذا بالضبط ما يحدث لكم في الحكم .. وعليكم أن تكتسبوا تلك المهارة الصعبة .. فباكتسابها تستطيعون قلب المعادلة كيفما شئتم .. تستطيعون مواجهة عدوكم ليس بأنفسكم وإنما بعدوكم الآخر ..
من أصغر مستوى إلى أكبر مستوى .. من خلافات بين قريتين ومرورا بالصراعات المصنوعة بين الأحزاب والهيئات والمؤسسات والدول ووصولا حتى الحرب العالمية .. وبهذه الطريقة تنتصرون وتبقون ويبيد أعداؤكم في الداخل والخارج .. يستهلك كل منهما قواه ويفرغ توتره مع الآخر .. لتبقى الساحة بعد ذلك بأقل قدر من التوتر .. فتحكمون كما تشاءون .. وإلى أبد الآبدين..
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق