من أعطى إشارة الذبح؟
وائل قنديل
من ينقذ البلاد من شلة الأشرار التي خطفت مصر، وصعدت بها إلى أعلى بناية، وطوقتها بحزام من البراميل المعبأة بمواد شديدة الانفجار، مهددين بتدميرها، إذا اقترب منهم أحد؟
من يعفي المنطقة كلها من "لحظة نيرونية"، إن اشتعلت فيها القاهرة، ستطال ألسنة الحريق كل شبر في محيطها العربي؟
قبل أن يدفنوا النائب العام، كانت خارجية عبد الفتاح السيسي قد كلفت سفراءها بسرعة الاستثمار الأمثل للحادث، وتوظيفه في ابتزاز مشاعر العالم كله، من أجل تأييد السلطة الحاكمة في مصر.
وحمل توجيه "توضيح الأبعاد" الذي أصدره سامح شكري، وزير خارجية السيسي، للبعثات الدبلوماسية في الخارج أمراً بسرعة التحرك لدى السلطات الرسمية ووسائل الإعلام، لبيان أن الحوادث التي وقعت في كل من السعودية وتونس والكويت وفرنسا، أخيراً، تثبت أن التنظيمات الإرهابية كافة تتبنى الفكر المتطرف نفسه.
في الداخل، كما في الخارج، يبدو رد الفعل السلطوي، خطاباً وإجراء، ممتناً للغاية لجريمة اغتيال النائب العام، في هذا التوقيت العصيب، إذ تلقف النظام الحاكم الهدية وانطلق، داخلياً، لإعادة شحن "بطارية 30 يونيو"، وغلق الأبواب والنوافذ بوجه قطاعاتٍ، بدأت تتسلل، خفية وفي العلن، من ذلك العار الذي صنعه جنرال الإبادة في صيف الجنون 2013.
وفي الخارج، تنشط كل عناصر النظام في حلب بقرة "الحرب على الإرهاب"، للحصول على ما يكفي لمواجهة سيول من تقارير المنظمات والهيئات الدولية، المعنية بالعدالة والحقوق والحريات، تتحدث عن مصر السيسية، باعتبارها تجاوزت، من حيث القدرة على تغييب القانون وإهدار أبسط قيم العدالة، حدود ما عرفت بجمهوريات الموز، وقدمت مستوى من الاستبداد والابتعاد عن "حالة الدولة"، ما يجعلها نموذجاً متفرداً في الدكتاتورية.
تطورات الساعات الأخيرة منذ اغتيال النائب العام تؤشر، بوضوح، إلى أن استمرار عبد الفتاح السيسي، ومجموعة الأنفار التي تحركه، وتستخدمه في قيادة البلاد إلى جحيمها، لم يعد خطراً على مصر فقط، بل بات يشكل مخاطر حقيقية على الإقليم كله، فبعد ما رأيناه منذ الإعلان عن استهداف موكب النائب العام، ومضخات الجنون تشتغل بكل طاقتها، لإحراق الوطن كله.
مصر الآن تدار بواسطة شلة من مجانين الثورة المضادة، تشمل قضاة وإعلاميين، تضع برنامج عمل عبد الفتاح السيسي، وتحدد له خطواته، وتضبط إيقاعه، وتحركه بالريموت كونترول.
أول من تحدث عن أحكام عرفية وطوارئ كان مصطفى بكري، وأول من قال أعدموهم بلا محاكمة كان موسى، كان ذلك بعد لحظات من الاغتيال.
وفي صباح اليوم التالي، كان أحمد الزند وزير العدل الحالي، وأحد مهندسي الثورة المضادة، يعلن في مداخلة تلفزيونية، أنه سيتقدم بحزمة قوانين وتشريعات جديدة لمجلس الوزراء، تسمح بالسجن والإعدام للمعارضين، من دون محاكمات حقيقية.
كان الزند واضحاً وعلنياً ومكشوف الوجه، وليس في الأمر أسرار أو تسريبات أو "معلومات خطيرة"، انفرد بها متحذلق، يستعرض مهاراته المعلوماتية. قالها مصطفي بكري نصاً "دم النائب العام في رقبة كل مصري"، فحفظها السيسي ورددها نصاً، بلا أية إضافات في جنازة هشام بركات. أعلنها الزند في الصباح: حزمة قوانين ناجزة توفر خدمة الإعدامات السريعة، من دون شهود أو تحقيقات، فرددها السيسي في الظهيرة، في أثناء الجنازة، بأداء تمثيلي ركيك وواضح التصنع، حد الابتذال. يقول الزند إن مصير الإرهابيين (المعارضين يقصد) في مصر سيكون مثل مصير اليهود، النفي في الأرض والإبادة.
وزير عدل يهدد، على الهواء مباشرة، بهولوكوست يقصي نصف الشعب، لكي ينعم النصف الباقي بالرفاهية والتسلط. يوزعون خبراً مصوراً على كل الصحف، اعتبرناه نكتة بذيئة، عن صدور إشارة من الدكتور محمد مرسي يفهم منها الذبح، في أثناء جلسة المحاكمة (الإثنين)، فيأتي عبد الفتاح السيسي في اليوم التالي (الثلاثاء) ليردد ما أملوه عليه "قرارات القتل تأتي من قفص المحكمة"، وتتحول النكتة البذيئة إلى واقع أكثر بذاءة، يظهر فيه "نصف الإله" الذي يبتزون به العالم، وهو يعطي إشارة الذبح والإعدام، من دون الحاجة لإعمال القوانين، حيث يراها ضد مصلحة الدولة.
يصدر قاضي الإعدامات في مداخلة تلفزيونية الحكم في قضية اغتيال النائب العام، قبل أن يجمعوا الشظايا من جسده، ويجهزونه للدفن، ويدين الإخوان والرئيس مرسي، مباشرة. كيف يمكن أن يتحدث أحد عن عدالة وقانون وحالة حقوقية في مصر، إذا كان القضاة في حالة عداء مع من يلتمس الحصول على حقوقه أمامهم، كيف يكون هؤلاء حكاماً عادلين، إذا كانوا طرفاً في الخصومة؟
يخطئ من يتصور أن عبد الفتاح السيسي يحكم مصر، إن هو إلا صنم، يتاجر به المستثمرون في الجهل والجاهلية، ويستنطقونه بما يريدون قوله، ويديرونه بما يضمن لهم البقاء والسيادة، حتى لو أحرقوا الجيش والشرطة والقضاء والمجتمع بأسره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق