موائد الإفطار المسيحية.. جدل مصري بعد تعاظم دور الكنيسة وحل الجمعيات الإسلامية
غُيب الإسلاميون في السجون وأُغلقت الجمعيات الخيرية فحضرت “موائد” الكنيسة
محمد جمال – التقرير
بحسب إحصائية أخيرة لمركز المعلومات بمجلس الوزراء عن أعداد “موائد الرحمن” في مصر، بلغت الموائد في أحد الأعوام قرابة 15 ألف مائدة، طبقًا لعدد التصاريح الرسمية لإقامة الموائد، بخلاف أكثر من نصف مليون أخرى غير حاصلة على تصاريح رسمية، كما يتراوح عدد المترددين على تلك الموائد في المدن فقط يوميًا ما بين 18 و19 مليون مواطن، و87% من موائد الرحمن ينظمها أفراد مقابل 13% للجمعيات الخيرية.ومن خلال جولة لمراسل “التقرير” في القاهرة، لوحظ انخفاضٌ ملحوظٌ في أعداد الموائد بشكل كبير هذا العام، على غرار العام الماضي أيضًا، ولكن هذا العام اختفت العديد من الموائد الشهيرة، والفرعية في الأحياء الفقيرة؛ بسبب تغييب الكثير من المسؤولين عنها من تيارات إسلامية في السجون وحل مئات الجمعيات الخيرية الإسلامية، فضلًا عن تدهور الأحوال الاقتصادية لمعظم المصريين؛ مما انعكس على قلة عدد الموائد أو ضعف ما تقدمه من طعام، فيما ظهرت “موائد” الكنيسة” بغزارة ومعها إشارات وعبارات “تبشيرية”.
موائد الكنيسة
انتشرت “موائد” مسيحية تقيمها عدة كنائس مصرية ويقف شبابها وهم يرتدون زيًا موحدًا مكتوبًا عليه اسم الكنيسة، ويتوسطهم قساوسة يشرفون بأنفسهم على الموائد، وهي ظاهرة مصرية فريدة كانت رمزية في الأعوام السابقة، ولكنها تحولت هذا العام لظاهرة ملحوظة يجري الترويج لها؛ ما أثار حفيظة بعض الشباب على مواقع التواصل، خصوصًا مع كتابة بعض العبارات الدينية المسيحية على الوجبات.وقد رصد نشطاء ومغردون تزايدًا في أعداد الموائد التي تقيمها بعض الكنائس المصرية وتحرص على إقامتها كل عام؛ إلا أن التوسع فيها زاد بشكل كبير خلال العام الجاري.
كما لوحظ حرص الكنائس المصرية على تصدير “أعمالها الخيرية” لوسائل الإعلام الخاصة والحكومية، وهو الأمر الذي أثار جدلًا واسعًا وتساؤلات كثيرة عن السر وراء ذلك، وحقيقة ما يتردد بشأن مساعي الكنائس المصرية للعب الدور الذي كانت تقوم به الجمعيات الخيرية الإسلامية.
شباب الكنيسة بدل الإخوان
لم يقتصر دور الكنيسة على إقامة الموائد الرمضانية، لكنه امتد إلى إعلان العديد من الشباب المسيحيين مشاركتهم في بعض الجمعيات الأهلية لإعداد شُنط رمضان، بجانب حملتهم لإفطار صائم، مثل توزيع الماء والتمر والعصير على المُسافرين على الطريق الزراعي ببنها، أو داخل المدينة في توقيت أذان المغرب؛ وهي الأمور التي كانت مقتصرة لفترة زمنية على شباب التيارات الإسلامية الذين غيبتهم أسوار السجون والمعتقلات عن القيام بالأدوار التي اعتادوا عليها.وفي منطقة شبرا الخيمة الفقيرة المكتظة بالسكان والتي كانت معقلًا للإخوان، أعلنت الكنيسة عن إقامة مائدة إفطار طوال شهر رمضان، وقال أسقف الكنيسة الأنبا مرقس: إن الكنيسة هذا العام ستُقيم موائدها بجميع كنائسها، بشبرا الخيمة والخصوص، وسيُعد أبناؤها الطعام، كما يُشارك بعض المسلمين في مساعدة الكنيسة بموائدها.
وفي الوقت الذي تحرص فيه الكنائس المصرية على إقامة موائد رمضانية لعوام الشعب المصري، لوحظ كذلك حرص الكنيسة على إقامة موائد خاصة للنخب السياسية وقيادات العمل الحزبي؛ وهو الأمر الذي يأتي بالتزامن مع الاستعدادات النهائية للانتخابات البرلمانية المزمع عقدها بعد شهر رمضان الكريم.
حيث أعلن “مجلس الحوار والعلاقات المسكونية” بالكنيسة الإنجيلية عزمه تنظيم إفطار رمضاني يوم 23 يونيو بأحد الفنادق الكبرى بالقاهرة، بحضور عدد من الشخصيات العامة بالمجتمع، ورجال الدولة، والدين الإسلامي والمسيحي، والفكر والفن والثقافة.
فيما أكدت الكنيسة الإنجيلية بقصر الدوبارة بالقاهرة أنها ستقيم “مائدة” بمناسبة حلول شهر رمضان تحت عنوان “مائدة إفطار المحبة الوطنية”، بميدان سيمون بوليفار وعند مسجد عمر مكرم، ومن المقرر أن تنظم الكنيسة هذه المائدة في الجمعة والسبت من كل أسبوع في شهر رمضان.
وقالت إن المائدة تسع 200 فرد، فيما سيتم إقامة مائدة إفطار للشخصيات العامة والسياسية والدينية، بحضور رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر، القس أندرية زكى.
دور سياسي متعاظم للكنيسة
ويطرح محللون تساؤلات عن مغزى ونتائج السماح للكنيسة المصرية بلعب دور سياسي وحزبي ومجتمعي بشكل كبير منذ انقلاب 3 يوليو 2013، الذي شاركت فيه قيادة الكنيسة رسميًا، في الوقت الذي تم حل وحظر أغلب الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، باستثناء حزب النور السلفي الموالي للسلطة، ويخشون من فهم شباب التيار الإسلامي الغاضب من الاعتقالات والإعدامات لها على أنه محاباة للمسيحيين؛ ما قد يضر العلاقة الطيبة بين المسلمين والمسيحيين في مصر على المدى البعيد.ويقول مراقبون إن ما تفعله الكنيسة من أدوار سياسية واجتماعية يتناقض مع خطابها الذي دعت إليه في دستور 2014 بحظر تأسيس أحزاب على أساس ديني، فيما يرى آخرون أن الكنيسة بقيادة “تواضروس الثاني” تسعى جاهدة لحصد أكبر مكاسب سياسية ومادية ومجتمعية جراء دعمها الشامل للرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي منذ انقلابه على الرئيس السابق مرسي والإخوان في أعقاب حشد كبير لمظاهرات 30 يونيو؛ إذ ذكرت تقارير أن الكنيسة شاركت في الحشد له بصورة غير معهودة عبر وثائق تم نشر بعضها تطالب القساوسة بقيادة المظاهرات ضد نظام مرسي.
وسبق أن وصف رئيس المكتب السياسي لحزب البديل الحضاري (الدكتور حسام عقل) “قيام الكنيسة الأرثوذكسية بإعداد قوائم للمرشحين الأقباط لتقديمها للأحزاب والتحالفات الانتخابية” بأنه “تدخل صريح في صميم اللعبة السياسية، ويعد تناقضًا على الأقل بالمقارنة بالشعارات المعلنة من قبل الكنيسة والتي دعت فيها لفصل الدين عن السياسية”.
وحذر عقل من خطورة ذلك؛ باعتباره يشكل نوعًا من الممارسة السياسية والطائفية أيضًا، بمعنى أنه زجّ وإدخال للعامل الديني مما يشعل المشهد في مصر.
تعليقات النشطاء على موائد الكنيسة
وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، تداول النشطاء والمغردون عشرات من صور لموائد طعام تقيمها بعض الكنائس، وسط تباين في ردود الأفعال والتغريدات، بين من يتهم الكنيسة بمحاولة استغلال غياب التيار الإسلامي ولعب دور يفترض ألا تقوم به، وبين من يرى أن ذلك في إطار الوحدة الوطنية التي ينبغي أن يرسخ لها في نفوس المصريين.حيث يقول حساب باسم “ضد الانقلاب”: “بعد ما قفل السيسي الجمعيات الإسلامية، الكنيسة يا مسلمين بتنظم إفطار الصائمين وبتعمل موائد رحمن في رمضان، فوقوا بقى“.
وقال المغرد “عبد الله القصادي”: “بعد سجن القائمين على موائد الإفطار، وتجريم كل عمل خيري، تولى المهمة أحبار الكنيسة. هذه مصر في عهد السيسي اللعين“.
وقال حساب “ثورة لا تبقي ولا تذر”: “الكنيسة بتعمل موائد إفطار للمسلمين بدل المسلمين، وأحب أعرفكم أغلب علماء مصر في السجن“.
وقال “أحمد مؤمن” ساخرًا: “الكنيسة توزع شنط رمضان، بتعمل موائد رحمن، وقريبًا الحج والعمرة بأسعار رمزية والفنادق أمام حرم مول دبي“.
وقال الدكتور محمد الجوادي على حسابه: “الناس اللي بتروح تفطر في موائد الكنيسة بتاكل لحم حمير ولا لحم خنزير؟“.
وكتب المغرد “شعب منزوع الغضبة”: “في رأيك من المستفيد؟ بعد إغلاق الجمعية الشرعية والمؤسسات الإسلامية؟ الكنيسة تقيم موائد إفطار المسلمين“.
وقال “عبد الواحد عاشور”: “موائد الرب التي تنظمها الكنيسة للمسلمين في رمضان روادها بشر بلا كرامة قد يتنازلون عن مقدساتهم مقابل وجبة مجانية“.
وكتب المغرد (خَالِدْ): “وفي عهد السيسي السفاح بقت (أصبحت) الكنيسة والرهبان يعملوا موائد إفطار لفقراء المسلمين علشان يبقى زي ما بيقول المثل حالتهم بقت تصعب ع الكافر“.
وكتب “سيد عبد الحميد”: “بعد إغلاق الجمعيات الخيرية في مصر موائد الإفطار برعاية الكنيسة. ولا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل“، فيما كتبت “UmmALmasat”: “موائد الرب. الله يرحم موائد الرحمن. قفل جمعيات إسلامية، وساب الكنيسة تبرطع، سنتك سودة ، الكنيسة هتفطرنا وتنصرنا“.
وقال آخر: “الكنيسة بتعمل موايد الرحمن وأي حد مسلم يعملها يكون إرهابي. زمن العجايب والله. الاحتلال سرق كل الجمعيات الخيرية إنما الكنيسة بقي لها صوت”.
وكتب “محمد الحسيني”: “بعد غلق الجمعيات الخيرية، الكنيسة تقوم بتوزيع شنط رمضان وتقيم موائد الرحمن وبكره نور الرب يشرق في بيوتكم“.
وقال “محمد الشاعر”: “بعد إغلاق الجمعيات الإسلامية ونهب أموالها، الكنيسة تقوم بعمل موائد اﻹفطار وتوزيع شنط رمضان. يسوع بيصبح“، وقال “محمد الفنان”: “موائد الرحمن بقيت إما من الكنيسة أو من الكباريهات“، في إشارة لموائد الراقصات.
غياب ملحوظ للموائد هذا العام
وغالبًا ما تنتشر موائد الرحمن في الشوارع، وخاصة في القاهرة التي تحظى بأكبر عدد موائد وتستقبل ضيوف الرحمن خلال شهر رمضان، ولكن هذا العام شهد انخفاضًا ملحوظًا في أعداد الموائد، وبعدما كان الشارع الواحد يضم مائدتين أو أكثر؛ أصبحت مناطق بالكامل تخلو من أي مائدة، وهو ما أرجعه مراقبون للتضييقات الأمنية والظروف والأزمات المالية الخانقة والتي دفعت كثيرين إلى استبدال موائد الرحمن بما يسمى “شنطة رمضان”، أو “وجبة ديليفري”، بسبب انخفاض كلفتها مقارنة بعمل مائدة طوال أيام الشهر الكريم.وحتى موائد الرحمن التي كان يقيمها بعض الفنانين المصريين اختلفت، رغم بقاء بعضها، وغالبيتها كانت تقيمها راقصات وتثير جدلًا فقهيًا كل عام (مثل موائد الراقصات فيفي عبده ودينا وروبي وبوسي سمير، والراقصة الأرمينية صافيناز). وأكد عدد من أصحاب محال الفراشة، التي تؤجر الخيام والموائد للراغبين في عمل موائد رمضانية، أن هناك انخفاضًا ملحوظًا في الطلب على الفراشة الخاصة بموائد الرحمن خلال هذا العام بنسبة لا تقل عن 50%.
تجميد وغلق الجمعيات الخيرية
وأرجع نشطاء أسباب هذا الانخفاض أيضًا إلى قيام حكومات ما بعد الانقلاب العسكري في مصر بمصادرة وإغلاق مئات الجمعيات الإسلامية والمؤسسات الخيرية التي كانت تشرف عليها تيارات إسلامية مختلفة، والتي بدورها كانت تشرف على إقامة تلك الموائد وتجهيز الشنط الرمضانية وغيرها من الأعمال الخيرية.وكانت حكومة أول رئيس وزراء عقب انقلاب 3 يوليو 2013 (حازم الببلاوي) قد أصدرت قرارًا بتجميد 1033 جمعية خيرية بتهمة انتمائها أو تبعيتها للإخوان المسلمين، وتبع هذا اعتقال آلاف الشباب من الإسلاميين الذين كانوا يقومون بأعمال البر والخير طوال هذا الشهر؛ ما أسهم أيضًا بشكل أو آخر في تجفيف منابع الأعمال الخيرية في العديد من محافظات مصر طوال هذا الشهر الكريم.
وفي فبراير الماضي، أصدرت وزيرة التضامن الاجتماعي (غادة والي) عدة قرارات بحل 169 جمعية أهلية منتشرة في تسع محافظات قالت إنها تابعة للإخوان، منها 39 في الإسكندرية و51 في دمياط و10 في القليوبية و7 في أسيوط و4 في سوهاج و2 في أسوان و2 في الوادي الجديد و52 في كفر الشيخ و2 في الإسماعيلية.
وجاءت قرارات حل هذه الجمعيات على خلفية حكم محكمة القاهرة للأمور المستعجلة بشأن حظر تنظيم جماعة الإخوان المسلمين.
كما سبق وأن أيدت “لجنة تقصي حقائق 30 يونيو”، التي عينها الرئيس السيسي، في تقريرها الرسمي في نوفمبر 2014، قرارات مصادرة شركات الإخوان وغلق جمعيات خيرية بدعوى “تجفيف منابع التمويل للأفراد والتنظيمات الإرهابية المتسترة بواجهات الجمعيات الخيرية والشركات التجارية“.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق