هل تتحقق أسوأ كوابيس تركيا؟
لاشك أن الخسارة المريرة التي نالها حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوجان في الانتخابات التشريعية الأخيرة في تركيا كان لها آثار سياسية وإستراتيجية بالغة الخطورة، فاللعبة الانتخابية التي اعتمدها أردوجان كانت بمثابة مغامرة سياسية خطرة، فأما أن تكسب كثيرا وأما أن تخسر كثيرا، فكانت الثانية، وأخطر ما فيها وأشد خسائرها كان أسوأ كوابيس الدولة التركية، وهو إذكاء الشعور القومي للأكراد، والشحنة المعنوية والسياسية العالية التي نالتها المشاريع الكردية نحو إقامة وطن قومي للأكراد، أو على الأقل إقليما للحكم الذاتي في خاصرة تركيا.
وهو ما يمثل عند الساسة والأمنيين الأتراك أسوأ الكوابيس والهواجس.ومع التطورات الميدانية المتلاحقة بالجارة سوريا أصبح الحديث عن هذا الكابوس واقعا يلوح بقوة في الأفق.
الأكراد هم شريك ملتزم وعملي في المعركة ضد الجماعات الإسلامية منذ البداية، وقوات البيشمركة الكردية خاضت حروبًا ضد الجماعات الإسلامية لسنوات طويلة، ولها تاريخ في عقد التحالفات السياسية النفعية لحماية مصالحها وأراضيها؛ فخلال الحرب الأهلية الكردية في أواخر التسعينيات، اشتبكت قوات البيشمركة التابعة لحزب العراق الكردي مع عناصر الحركة الإسلامية لكردستان، وفي عراق ما بعد صدام، قاتلت قوات البيشمركة إلى جانب القوات الأمريكية لطرد جماعة أنصار الإسلام من أراضيها، وخلال معارك تنظيم القاعدة ضد الاحتلال الأمريكي بالعراق، تفاوضت حكومة إقليم كردستان العراق لعقد اتفاقات أمنية ومخابراتية مع أنقرة وطهران وبغداد والقادة المحليين لتأمين حدودها، كما عقدت صفقات تجارية وسياسية لذات الغرض.
في الأسبوع الماضي، استعادت القوات الكردية، التي تحارب تحت لواء حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وهو أحد الأذرع العسكرية والسياسية لحزب العمال الكردستاني السيطرة على بلدة تل أبيض الحدودية من أيدي الدولة الإسلامية، بغطاء جوي مكثف من الطيران الأمريكي ، وبهذا تم قطع خط الإمداد الرئيسي إلى عاصمة الدولة الإسلامية الفعلية في الرقة، كما أن استعادة تل أبيض، سمحت بتوحيد أراضي الكانتونات التي يسيطر عليها الأكراد، كانتون كوباني، وكانتون الجزيرة، حيث تقع تل أبيض كنقطة وسط ما بين هاتين المنطقتين.
جاء هذا الانتصار بعد المعركة الشرسة التي خاضتها القوات الكردية في بلدة كوباني في أكتوبر الماضي، حيث كادت هذه القوات أن تتلقى هزيمة شنعاء على يد عناصر الدولة الإسلامية، لولا الزيادة الهائلة في الغارات الجوية لقوات التحالف التي ساعدت على تحويل دفة الأمور، وأثناء حصار الدولة الإسلامية لكوباني، قامت الولايات المتحدة أيضاً بفتح ممر للقوات الكردية التابعة للـPYD لتزويد غرفة العمليات العسكرية في أربيل بأهداف الدولة الإسلامية، والتي عمل طيران التحالف على قصفها فيما بعد، ومنذ ذلك الحين، اعتمدت قوات الـPYD بشدة على القوة الجوية الأمريكية لتساعدهم في تقدمهم، واستعادة السيطرة على المناطق من أيدي تنظيم الدولة.
كما يحفاظ هذا الحزب الكردي على اتفاق ضمني مع بشار الأسد يتضمن بسط سيطرته الفعلية على حقل نفط الرميلان الذي يوفر للحزب إيرادات عالية، في مقابل المساعدة الأمنية التي يقدمها الأكراد في كانتونات حكمهم الذاتي في شمال سورية.
الولايات المتحدة تجاهلت الخطوط الحمراء التركية تجاه التعامل مع كيان مصنف كإرهابي حتى داخل الولايات المتحدة الأمركية، مبررة دعمها المتواصل للجماعات الكردية، بنجاحاتها ضد الدولة الإسلامية، ونأيها بنفسها عن الجماعات الإسلامية الثورية، المدعومة بمعظمها من قِبل تركيا، وتمسكها بالخط العلماني الصريح، والقومي الانفصالي الواضح.
وقد ساعدت السياسة الأمريكية على خلق جيب يسيطر عليه الأكراد في سورية معادٍ للمصالح التركية، وأصبح الأكراد يشكلون خطراً على المصالح التركية سواء في الداخل التركي أو على الحدود في شمال شرق سورية وشمال غرب العراق، وإضافة إلى ذلك، أعلنت الولايات المتحدة بشكل غير مباشر أنها سوف تعمل على حماية المكاسب الكردية، خشية أن تجتاح الدولة الإسلامية المناطق التي حررتها القوات الكردية في هجوم مضاد منظم.
هذه التطورات الكبيرة في الصراع الإقليمي أجهضت الجهود المضنية التي بذلها حزب العدالة والتنمية في تركيا منذ سنوات من أجل حل أعقد مشكلات تركيا المعاصرة؛ وهي المشكلة الكردية، منذ بداية المفاوضات، كانت الحكومة التركية ممثلة بحزب العدالة والتنمية، تسعى لتحقيق هدفين متلازمين، أولاً إنهاء العنف الكردي، وثانياً تقويض قاعدة الدعم الشعبي لحزب العمال الكردستاني، حيث حرص حزب العدالة والتنمية على خلق توازن مع شعبية حزب العمال الكردستاني لدى القوميين الأكراد، وذلك عن طريق سعيه للظفر بالدعم السياسي للأكراد المتدينين في تركيا، ومن خلال القيام بذلك، كان يأمل حزب العدالة والتنمية أن يؤدي إنهاء العنف، وإعادة دمج الأكراد في المجتمع التركي، وتحسين الأوضاع الاقتصادية في المناطق الكردية الجنوبية الشرقية، إلى إنهاء عهد سيطرة وشعبية حزب العمال الكردستاني، وبذات الوقت إلى توفير دفعة كبيرة في القاعدة الانتخابية للحزب، حزب العدالة والتنمية.
استطاع حزب العدالة والتنمية تحقيق بعض النجاح في مسعاه لتهميش حزب العمال الكردستاني، حيث ساعد تخفيف القيود الثقافية، وتحسّن المناخ الاقتصادي في المناطق الجنوبية الشرقية ذات الأغلبية الكردية في تركيا، على تلميع صورة حزب العدالة والتنمية ما بين الأكراد المتدينين، ولكن خلال معركة كوباني، تبنى الحزب موقفا متشددا تجاه التدخل في المعركة ، ولم يستجب للضغوط الشديدة التي مورست عليه من أمريكا ودول التحالف من أجل استدراج الجيش التركي في المستنقع السوري، مما عمل على تقويض الدعم الذي حصل عليه في المناطق ذات الأغلبية الكردية، حيث تم تفسير الموقف التركي على أنه عداء قومي ضد الأكراد، ومع استمرار مناصبة العداء من قِبل أنقرة نحو الـPYD، استمر حزب العدالة والتنمية بخسارة الناخبين، وفي نهاية المطاف أدت سياساته المعادية للمصالح الكردية في سورية، إلى تحول القاعدة الانتخابية بشكل جماعي من دعم حزب العدالة والتنمية، إلى دعم حزب الأكراد، حزب الشعوب الديمقراطي، المرتبط بحزب العمال الكردستاني، وجاءت نتيجة الانتخابات الأخيرة لتكشف عن هذا التدهور الكبير في الملف الكردي.
هذه التحركات الكردية على الجانب السوري تأتي متكاملة في سياق جيوسياسي حثيث مع ما تبذله الأحزاب والقوات الكردية في كردستان العراق.
فالأكراد يتخذون تدابير وإجراءات ضد جيرانهم من العرب السنة تتجاوز حدود المهام القتالية المرتبطة بمحاربة داعش، حيث اكتسبت جهود حكومة إقليم كردستان لإعادة رسم حدود العراق الداخلية زخمًا في الفترة الماضية، إثر الضربات الجوية لقوات التحالف التي عملت عن غير قصد على بسط سيطرة البيشمركة على الأراضي التي كان يسيطر عليها تنظيم داعش وضمها كجزء من إقليم كردستان، وجرى ذلك طبعًا على حساب العرب السنة، ووفقًا لتقرير صدر مؤخرًا عن منظمة هيومن رايتس ووتش، فإن البيشمركة الكردية العراقية تمنع المجتمعات العربية السنية من العودة إلى الأراضي التي تم دحر داعش منها، حيث تستولي هذه الجماعات على منازل العرب السنة ويجمعون الآلاف من العرب داخل "مناطق أمنية" ضمن المناطق المتنازع عليها.
والعربي يعاني من صعوبات جمة للدخول إلى إقليم كردستان العراق، حيث تتميز سياسات الأكراد تجاه العرب الراغبين بدخول كردستان بالتمييز الذي يعزز الانقسامات داخل الطوائف والإثنيات؛ فالكردي يمكنه التنقل والسفر في جميع أنحاء العراق بدون قيود، أما العربي العراقي فهو بحاجة لكفيل للعيش والعمل في إقليم كردستان، ولا يسمح للعرب بتملك الأراضي ولا يتمتعون بحقوق متساوية مع المواطنين الأكراد، والعربي لا يمكنه السفر إلى إقليم كردستان دون أن الحصول على تأشيرة دخول (فيزا)، وحتى في حال حصل عليها سيتم استجوابه لساعات عند نقاط التفتيش، أو قد يتم رفض دخوله أساسًا، وداخل إقليم كردستان لا يمكن للعرب التنقل بحرية من وإلى المحافظات دون إثارة الشك لدى مسؤولي الأمن الكردي لا لسبب إلا لأنهم عرب.
وبعد السيطرة على كركوك في العام الماضي، أكد بعض مسؤولي حكومة إقليم كردستان أنهم لن يسمحوا للعرب بالسيطرة على هذه الأراضي مرة أخرى، ووقعت حكومة الإقليم عقودًا مع شركات النفط العالمية الأمريكية الكبرى في محافظة نينوى في الموصل وهي من المناطق المتنازع عليها ، لذا من غير المرجح أن يتخلى الأكراد بطيب خاطر عن السيطرة على هذه الموارد،على اعتبار أنها الثروة القومية لدولة كردستان الكبرى القادمة.
إنّ اعتماد أمريكا على الأكراد كشركاء محليين في محاربة داعش، عزز القومية الكردية العابرة للحدود، كون هذا التعويل أعطى شرعية لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وحزب العمال الكردستاني، مما عمّق من التناقضات في أولويات الأمن التركي، فمع اكتساب حزب الاتحاد الديمقراطي شبه اعتراف رسمي ودعمه تحت شعار محاربة داعش، ومع ترسيخ سيطرة حزب العمال الكردستاني على مناطقه في جنوب شرق تركيا، ترى أنقرة تحول أسوأ كوابيسها إلى حقيقة واقعة: منطقة حكم ذاتي كردية أخرى قائمة على حدودها الجنوبية تعمل على تقويض سلامة الأراضي التركية، من هذا السياق نفهم تصريحات الرئيس التركي أردوجان عن تطورات الصراع الإقليمي بأنه سايكس بيكو جديدة ، كأنه يمهد الساحة التركية لمواجهة أسوأ السيناريوهات القادمة.
فإن أنقرة يجب الآن أن تتعامل مع ما لا يمكن تصوره، وهو دويلة حزب العمال الكردستاني المدعومة أمريكياً والقائمة على امتداد أطول حدود برية تمتلكها، وبشكل طبيعي، فإن تركيا وهذه الدويلة ستناصبان العداء لبعضهما البعض، وهنا على أنقرة أن تختار، إما تنشيط عملية السلام ومحاولة عقد السلام مع حزب العمال الكردستاني، أو محاولة القضاء على هذا التهديد، وهذا الخيار الأخير، في حال اختياره، سيضمن استمرار الاضطرابات في سورية، وهي إحدى النتائج المقصودة للقرار الأميركي بالتدخل في النزاع السوري منذ البداية.
تركيا ستحاول بكل ما أوتيت من قوة ونفوذ إقليمي أن تمنع ظهور هذه الدويلة في خاصرتها الجنوية، وستكون كل الخيارات متاحة أمامها لإجهاض الحلف الكردي الأمريكي في سوريا وجنوب تركيا، بما في ذلك تقديم الخدمات اللوجستية والمخابراتية لخصوم حزب الاتحاد الديمقراطي PYK ، وهو ما بدأت ثمراته في الظهور بالهجوم الخاطف لقوات تنظيم الدولة على عين العرب ومعاقل الحزب في الجزيرة وسائر كانتونات الأكراد في شمال سوريا.
أمريكا تخطط منذ زمن بعيد لإعادة رسم خرائط الشرق الأوسط، وتفادي أخطاء سايكس ــ بيكو الأولى ، بحيث التمكين في سايكس ـ بيكو الجديدة للأقليات العرقية والطائفية، مما يحيل منطقة الشرق الأوسط لبحر من التوترات المشتعلة من المحيط إلى الخليج.
وكل ذلك يحدث تحت سمع وبصر الجميع، ولا أحد يملك القدرة اليوم على إيقافه، فالفرس قائمة، والكورد قادمة، والعرب نائمة. فلتهنأ أمريكا إذا بصيودها الثمينة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق