هل حقا مصر تنزلق نحو حرب أهلية؟
في مصر أصبح التفاؤل جريمة ، والأمل في الأفضل خطئية ، فالتشاؤم هو سيد الموقف، واليأس هو منظار الجميع ، بعد أن آلت الأوضاع في مصر إلى أسوأ دركاتها ، منذ الاطاحة بأول رئيس مدني منتخب ديمقراطيا من الشعب في 3 يوليو، واليوم يمر عامان على هذه الاطاحة ومصر غارقة في دوامة من الفوضى والاضطرابات والتدهور الأمني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي ، لم تعرفها مصر من قبل حتى في أحلك فتراتها وأشد أزماتها . فما كان محتملا قد أصبح واقعا مخيفا ، وما كان متوجسا منه ، والذي تحرك منظمو 30 يونيه، ومدبرو 3 يوليو لوقفه ومنعه قبل وقوعه حسب زعمهم ، أصبح اليوم كابوسا يؤرق مضاجع الجميع ؛ مؤيدون ومعارضون.
أسبوع حافل بالدماء والأعمال الانتقامية. بدأ باغتيال النائب العام المصري هشام بركات يوم الاثنين في أكبر ضربة توجه إلى نظام يوليو ، بل هي أكبر عملية اغتيال سياسي شهدتها مصر منذ قتل رئيس مجلس الشعب المصري رفعت المحجوب قبل أكثر من 23 عاما ، ضربة أفقدت النظام صوابه ،فراح يهدد بمجازر جديدة على غرار مجازر رابعة والنهضة ، ولكن بحق المعتقلين السياسيين ، وهو ما شرع فيه فعليا بتغيير حزمة من القوانين القضائية بهدف سرعة إعدام أكثر من 500 معتقل سياسي على رأسهم الرئيس المنتخب محمد مرسي ومرشد الاخوان محمد بديع ومعظم قيادات جماعة الاخوان ، تغييرا وصفه المراقبون بأنه تفكيك كامل لمنظومة العدالة وإلغاء ضمني للقضاء المصري .
ولم يكد تمر 24 ساعة حتى كانت أكبر الضربات التي نالها الجيش المصري في سيناء منذ مجزرة كرم القواديس في أكتوبر الماضي ، شنت جماعة أنصار بيت المقدس المُبايعة لتنظيم الدولة الإسلامية والمعروفة باسم "ولاية سيناء" هجومًا مسلحًا على عدد من المناطق بشمال سيناء،حيث هاجموا كافة كمائن الجيش المتواجدة رفح والشيخ زويد ، كما قاموا بحصار قسم شرطة العريش.
الدماء لم تسل فقط في أقصى شمال شرقي مصر بسيناء ولكنها سالت أيضًا في مدينة السادس من أكتوبر التابعة لمحافظة الجيزة غرب العاصمة القاهرة، إذ اتهمت جماعة الإخوان المسلمين بمصر جهاز الأمن المصري بتصفية 13 قياديًا بالجماعة أثناء تواجدهم في اجتماع للجنة كفالة أسر الشهداء والمعتقلين التابعة للجماعة.
جاءت عدة روايات لمقتل هؤلاء القيادات أبرزها كانت وجود لقاء منعقد للجنة كفالة أسر الشهداء والمعتقلين التابعة للجماعة بدأ في الساعة الثامنة صباحًا، وما إن تم رصد الاجتماع حتى أتت كميات كبيرة من سيارات محملة بقوات شرطية اقتحمت المنزل الذي يتواجد به المجموعة، وبعد دقائق سُمع دوي إطلاق نار في الداخل تمت على إثره تصفية المجموعة بعدها أعلنت وزارة الداخلية المصرية تصفيتها لتسعة قيادات من جماعة الإخوان المسلمين ادعت أنهم قاموا بالاشتباك مع قوات من الداخلية. في المقابل حذرت الجماعة في بيان لها من أن هذا التحول سوف يؤدي إلى عدم السيطرة على غضب القطاعات التي وصفتها بـ "المظلومة المقهورة" التي لن تقبل أن تموت في بيوتها وسط أهلها، نافية وقوع أي اشتباكات بين القيادات التي قُتلت على يد الأمن وبين القوات التي قامت بتصفيتهم عمدًا.
كل هذه الأحداث المتسارعة جعلت الجميع يتشاءم من مسار الأيام القادمة في مصر، ويضع سيناريوهات بالغة القاتمة عن مستقبل البلاد ، فالبعض يؤكد على أن مصر تنزلق بسرعة نحو السيناريو الجزائري ، وعشرية الدماء التي سقط فيها مئات الآلاف بين قتيل وجريح ومفقود ، في حين ذهب البعض الآخر إلى السيناريو السوري خاصة بعد ظهور داعش على ساحة الأحداث بقوة ، وثالث يؤكد على السيناريو الليبي ، ورابع يشير إلى تكرار سيناريو التسعينيات في مصر ، في حين يبلغ السواد والتشاؤم مداه بالبعض فيختار سيناريو الحرب الأهلية البشع . فهل حقا مصر تنزلق نحو حرب أهلية أو أي من السيناريوهات السوادوية تلك؟
من أسوأ الأمور التي من الممكن أن يمر بها شعب أو أشقاء الوطن أن يجدوا أنفسهم في أتون حرب أهلية داخلية اجتمعت كل مسبباتها وتكاملت كل عناصرها، والشعب لا يدري ولا يشعر أنه قد أصبح في قلب مأساة درامية لا تبقي ولا تذر، أفنت شعوبًا، وأبادت أممًا، وأخرجت حضارات من ذاكرة التاريخ، إنها مأساة الحرب الأهلية، والتي أصبح المصريون في مرماها من حيث لا يشعرون.
الحرب الأهلية هي: الحرب الداخلية التي تندلع في بلد ما التي يكون أطرافها جماعات مختلفة من السكان، كل فرد فيها يرى فيمن يخالفه وفيمن يريد أن يبقى على الحياد خائنًا لا يمكن التعايش معه، ولا العمل معه في نفس التقسيم الترابي، يكون الهدف منها السيطرة على مقاليد الأمور وممارسة السيادة، أما أسباب الحرب فقد تكون سياسية أو طبقية أو دينية أو عرقية أو إقليمية أو مزيجًا من هذه العوامل، وتتصف الحروب الأهلية بالضراوة والعنف الشديد، وبالنتائج الاقتصادية والاجتماعية المدمرة على المدى القريب، والمؤثرة بعمق على المدى البعيد؛ لأنها تشمل مناطق آهلة بالسكان وتكون خاضعة لهجمات متقطعة وغير منتظرة، وتفرق بين الأهل والجيران فتشل الحياة الاقتصادية وتمزق النسيج الاجتماعي، وتحفر بعمق وألم في أساسات استقرار المجتمعات، ويحتاج المجتمع إلى عدة عقود من الزمن لإعادة البناء والتوازن والوئام، وقد تستغرق الأمر عدة أجيال لمداواة جراح الحروب الأهلية.
الحرب الأهلية عادة ما تندلع في البلاد التي تحمل إثنية عرقية أو دينية أو طائفية في تركيبة مجتمعاتها ونسيجها الوطني عادة ما يكون مليئًا بالثقوب المتوارثة عبر مشاهد مأساوية كثيرة عبر التاريخ، وكان لخلو مصر من هذه الإثنية المقيتة من أقوى مخدرات الوعي السياسي والنخبوي القائم حاليًا في مصر، فلا أحد يريد أن يصدق أن مصر تشهد فعلًا حربًا أهلية.
فمصر وإن كانت تخلو من عوامل الإثنية المثيرة للحروب الأهلية والاقتتال الداخلي إلا أنها تزخر بالعديد من العوامل التي تجعل من مبادرات القضاء عليها أمرًا في غاية الصعوبة، من أبرز هذه العوامل والمقبلات لاستمرار الاقتتال الداخلي: ارتفاع نسبة الشباب بين المصريين حيث تزيد عن 30 % من إجمالي السكان، ويمثل هذا العنصر أهمية كبيرة في الحروب الأهلية بحسب دراسة أعدتها مؤسسة أمريكية لدراسة السكان، وترى هذه الدراسة أن ارتفاع نسبة الشباب يوفر للأطراف المتصارعة عناصر مندفعة وقابلة للتعبئة، خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وارتفاع معدلات البطالة.
ومن العوامل أيضًا: الانقسام العمودي الحادث في المجتمع منذ 25 يناير، وهو يختلف عن الانقسام الطبقي، فالعمودي يشمل كل شرائح المجتمع من أعلاها لأدناها، ويعتبر الأكاديمي الأمريكي "آرندت ليبهارت" الذي أطلق نموذج الديمقراطية التوافقية أن الانقسام العمودي هو الأخطر بين الانقسامات المجتمعية، كما هو الحال في المثال اللبناني، فإن ليبهارت يعتقد أن الانقسامات الثلاثية والرباعية تقلل من خطر الحروب الأهلية؛ لأن التحالفات التي يمكن أن تنشأ في ظلها تحدُّ من الاندفاع إلى الاقتتال.
ومن العوامل أيضًا: طول المرحلة الانتقالية أو مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية، فهذه المرحلة هي أخطر مراحل التطور السياسي التي تمر بها الدول الثورة. فدول الثورة تمر بثلاث مراحل وهي مرحلة السلطة المطلقة، ومرحلة الانتقال إلى الديمقراطية، ومرحلة ترسيخ الديمقراطية.
وقد أثبتت التجربة التاريخية أن أعلى نسبة من الحروب الأهلية تحدث في الدول التي تمر في المرحلة الانتقالية، كما قال الزعيم الروسي الشهير " لينين " : " ما من ثورة عظيمة حدثت في التاريخ بدون حرب أهلية " ، وكلما طالت الفترات الانتقالية كلما تزايدت فرص اندلاع الحروب الأهلية.
فالمصالح متضاربة والقوى السياسية متصارعة والجميع يبحث عن موضع قدم في المشهد السياسي، ومن ثم تقوى أسباب الحروب الأهلية.
خطورة الوضع المصري اليوم أن المصريين لا يشعرون بأنهم قد أصبحوا في قلب حرب أهلية حقيقية ، وهذه من طبائع الحروب الأهلية الأساسية ، ولبنان خير مثال ، محاولة فاشلة لاغتيال بيير الجميل أعقبها حرب أهلية سقط فيها مئات الآلاف، كما جميع الحروب الأهلية تقريبًا كانت لها أسباب سياسية واقتصادية حقيقية، لكنَّها تخفَّت وراء مشكلات طائفيَّة أو عرقية ، مثل الحرب الأهلية في السودان ، التي تلونت بصبغة طائفية ودينية معًا.
المسلمون في الشَّمال والمسيحيون وغيرهم في الجنوب، حاول الشمال دومًا صبغ الجنوب بصبغة «الإسلام» باعتباره إطارًا ثقافيًّا جامعًا؛ لكنّ الجنوب رفض. هذا أحد الأسباب التي تتذرَّع بها السلطات دومًا، لكنّ الأسباب الحقيقية سياسية واقتصادية.
الشَّمال دومًا همَّش الجنوب من حيث توزيع السلطات ومن حيث توزيع الاهتمام الاقتصادي والصِّحي وغيره من الاهتمامات التي تضطلع بها الدولة. قامت الحرب الأهلية السُّودانية الأولى (1955 – 1977) وراح ضحيَّتها نصف مليون قتيل.
وبعد ذلك في عام 1983 بدأت الحرب الأهلية الثانية بعد أن تمَّ اكتشاف البترول في الجنوب. استمرت الحرب الأهلية الثانية حتى عام 2005 وراح ضحيتها 1,9 مليون قتيل وحوالي 4 مليون نازح!
ومن أبرز الأمور التي تدل على وقوع حرب أهلية بالفعل داخل مصر من حيث لا يشعر المصريون ، توافر أهم عنصري الحرب الأهلية في الصراع الدائر حاليا في مصر : الأول: عنصر وجود مجاميع منظمة متصارعة ، حيث تشهد البلاد انقسامًا بين فريقين أساسيين، أحدهما معارض للنظام الحالي، والثاني مؤّيد له، ولكل فريق تنظيم أساسي يمثل حالة الصراع :جماعة الإخوان المسلمين من جهة، والمؤسسة العسكرية من جهة أخرى.
ورغم تنوع التجمعات المنضوية تحت كل فريق في هذا الصراع، وقد تختلف مع التنظيم الأساسي الممثل لفريقها، أو حتى لا تعتبره ممثلًا لها، يبقى بفرض الواقع أن الممثلين الأساسيين لفريقي الصراع الدائر في مصر هما التنظيمان المذكوران.
أما العنصر الثاني: فعنصر الصراع العنيف أو المسلح بين الفريقين، لأسباب غالبًا ما تكون سياسية، مثل الصراع على السلطة ، وهو ما انتهت إليه الأوضاع في مصر اليوم ، والأسبوع الدامي خير دليل على عنف هذا الصراع وشدته.
مصر في مفترق طرق خطير جدا ، وهي تمر بظرف تاريخي لم تشهده من قبل، فمقدرات الدولة المصرية ومؤسساتها وسلطاتها كلها اليوم مسخرة نحو تأجيج هذه الحرب الأهلية وصيحات الانتقام وطبول الحرب على "الارهاب" تتعالى كل يوم لتغطي على صوت العقل والحكمة والتأني في أمثال هذه النوازل، والمكايدة السياسية في التعامل مع هذه الوقائع الخطرة لن يجلب على البلاد إلا مزيدا من الفوضى والخراب والاضطراب ، فالقتل اليوم قد أصبح على الهوية ، والتصفية الجسدية أصبحت مكان المحاكمات القضائية، ولعنة الدماء التي ضربت مصر منذ 25 يناير وما بعدها لن ترفع عنها إلا بقصاص عادل، أو فناء هذا الجيل بكل من فيه في تيه الخراب والفوضى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق