السبت، 4 يوليو 2015

بروتوكولات حكماء العرب -11-

بروتوكولات حكماء العرب
-11-
في جوار الرسول صلى الله عليه وسلم

دكتور محمد عباس

المدينة المنورة..

السلام عليك يا حبيبي..

السلام عليك..

السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، صلى الله وسلم عليك وعلى آلك وأصحابك، وجزاك الله عن أمتك خيراً، اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته.

السلام عليك..

أشهد أنك رسول الله صلى الله عليك وسلم..

يا حبيبي .. يا سيدي.. يا مولاي..

السلام عليك يا سيدنا أبا بكر ورحمة الله وبركاته رضي الله عنك، وجزاك عن أمة محمد خيراً.

السلام عليك يا سيدنا عمر الفاروق ورحمة الله وبركاته رضي الله عنك، وجزاك عن أمة محمد خيراً.

السلام عليك يا حبيبي..

جئتك جريحا يا حبيبي.. بل مذبوحا..

ذبحني عشيرتي وإخوتي وأهلي..

لم يفت في عضدي هجوم عدوي لكن انقلاب أخي عليّ هد كياني..

هل يمكن أن يكون الإنسان عدو نفسه؟

هل يمكن أن تتواطأ الفريسة مع الصياد كي يذبحها..

صرخت فيهم يا حبيبي: نحن قطيع يساق نحو المجزرة وهو فرح بها نشوان.. فاتهموني.. وطاردوني..

يطاردني من كان يجب أن يحميني..

وهم يحاربون الرسالة التي أرسلك الله بها إلينا.. بل إلى البشرية جمعاء..



كنت أزور حبيبي صلى الله عليه وسلم.. وصلت عند الفجر لكنني لم أذهب إلى الحرم المدني إلا في صلاة المغرب..

ولم تكن وعثاء السفر هي التي منعتني من الذهاب فورا إلى حضرته..

ما منعني كان الرعب والهيبة..

كنت مرعوبا وخائفا..

كانت الهيبة كاملة.. لكن الخوف كان مني.. من ذنوبي.. من تقصيري.. من آثامي.. ذلك أنني فخور بأنه نبيي.. فهل يفخر هو بي.. هل يباهي بي الأمم يوم القيامة أم يعرض عني فيتساقط لحم وجهي خجلا منه.. وهل يرويني يوم العطش عند الحوض أم يتركني وقد تشقق حلقي..

فقدت السيطرة على نفسي فرحت أبكي وأنتحب..

استخفيت كي لا يراني أحد وكتمت صوتي كي لا يسمعني الناس..

أشتاق إليك.. أشتاق إليك.. يا حبيبي..

حتى قبل وصول المخطوط إليّ عن طريق المرسل المجهول كنت أشتاق إليك.. لكن شوقي بعده ازداد عندما أضيف إلى شوق الحب شوق الحاجة وشوق النجاة..

ليس شوق عام ولا شوق عامين ولا شوق عشرة أعوام ولا شوق مائة عام ولا حتى شوق ألف عام..

أكثر أكثرأكثر أكثر..

أشتاق إليك منذ قبل مولدي.. وأشتاق إليك بعد أن أموت.. ذات مرة خطر لي أنني قد أمكث في البرزخ مليار عام لا أراك فيها فبكيت حتى انصدع كبدي..

في زياراتي السابقة كنت أقول لنفسي لو بكيت نجوت.. كنت أعد البكاء دليلا على وجود بقايا خشوع وعلى أن القلب لم يصدأ كله بعد.. ولكنني الآن أقل أملا في النجاة رغم أنني لا أكاد أستطيع السيطرة على نفسي وبكائي ونحيبي ونشيجي.. لا أكف عن البكاء.. والنجاة تبتعد.. وأنا أرتعد..

وقفت بعيدا عن المسجد..

يا للرعب يا للرعب يا للرعب.. ليت أمي لم تلدني.. أو ليتني كنت حجرا مجبورا على الطاعة لا يحمل أمانة ولا يختار.. حجر يحن إليك كجذع النخلة فيبكي..

زاد الأمر عليّ.. أحسست أنني سأتفتت وأتلاشى أو سأجن.. أو سأنطلق نحو الجبال والصحراء صارخا في البرية مجنونا لا يلوي على شيء.. كي أهرب فيها وأتوه وأضيع وأتلاشى..

صرخت في نفسي مثبتا لها:

- لماذا الخوف لماذا الفزع لماذا الجزع.. إنس كل شيء.. أليس يكفيك أن الله ربك وأنك عبده وأن محمدا صلى الله عليه وسلم نبيك ورسولك.. ماذا تريد أكثر من ذلك.. ماذا تريد من الوجود أكثر..ألا يكفيك هذا.. ألا يكفيك..

ورحت أصرخ دون صوت:

- الله ربك وأنت عبده ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيك ورسولك....ماذا تريد أكثر.. تهون الدنيا بعد ذلك.. تهون الدنيا.. كل ما عدا هذا لا يهم..

قسرت نفسي واستجمعت شجاعتي وقهرت جبني فدخلت..

كان الزحام شديدا شديدا شديدا..

في ساحات المسجد الخارجية كان الزحام شديدا.. لكن بعد دخول المسجد ستدرك معنى الزحام حقا وأن ما خارج المسجد لم يكن زحاما..

في جزء ما.. لا أدركه فوجئت بمن يمسك يدي.. كاد قلبي يقفز خارج صدري.. هل هو المرسل المجهول.. نظرت في وجه الرجل.. بدا أنه يتوسل إليّ من أجل شيء ما.. لم أفهمه وبسبب الزحام لم أسمع ما يقول.. بدا عليه الرعب من ألا أجيب طلبه..ترى.. هل يطلب مالا.. هل يطلب صدقة.. هل يطلب مساعدة.. بدا لي أنه سيعاني خذلانا فظيعا لو لم أستجب له.. ربما سقط من هول الصدمة.. وهو يلح وأنا لا أسمع ولا أستطيع أن أحدس ما يريد.. أدرك أنني لا أسمع ولا أفهم فأشار.. كان بجانب الجدار ثمة مائدة على الأرض تمتد -كما عرفت في الأيام التالية- بمحيط المسجد وبممراته ..وجبة الإفطار للصائمين.. وكان يتوسل إليّ أن أكون ضيفه وبدا مرعوبا من رفضي كأن رفضي سيكون دليلا على غضب الله عليه وأنه سيدخله النار.. كانت عيناه تنضحان بالتوسل بل تطفحان بتسول رضائي..

بكيت بكيت بكيت بكيت..

أباهي الدنيا والعالم والتاريخ بديني..

باه بنا الأمم يوم القيامة يا رسول الله..

باه بنا الأمم..

نحن خير أمة أخرجت للناس..

يا رب.. اشهد لأمة محمد أنه ما من مكان في الأرض عُبدت فيه كهذا المكان.. والمسجد الحرام.. إشهد ..

مليون مصل في الحرم يفطرون بهذه الطريقة..

بكيت يا حبيبي..

مليون من البشر يفطرون على مائدتك في يوم واحد وأنت كنت تجوع..

كنت فقيرا..

خيرك الله أن يجعل لك الجبال ذهبا فآثرت هداية أمتك..

وخيرك المشركون أن يجمعوا لك حتى تكون أغناهم فأبيت وآثرت هدايتهم..

كان يجوع..

نعم.. كان حبيبي وحبيبكم صلى الله عليه وسلم يجوع فيربط الحجر على بطنه.

وما شبع سيدي وحبيبي ومولاي صلى الله عليه وسلم من خبز القمح ثلاثة أيام متتالية حتى فارق الدنيا، ويمر عليه الشهر والشهران فلا يوقد في بيته نار .. وكان يحب أكل اللحم لكنه لم يكن يأكله إلا ثلاث أو أربع مرات.... كل... عام..!! ..

لو أنه شاء لكان..

لو أنه شاء لبزّ الأكاسرة والقياصرة..

لكنه أبى..

***

أذوب في الزحام..

يشتبك ثوبي بثوب أحدهم فيتمزق ثوبي.. لكنني لا أستطيع الآن العودة لاستبداله بثوب آخر..

لم يكن لحبيبي صلى الله عليه وسلم قط قميصان معاً ، ولا رداءان معاً ، ولا إزاران ولا نعلان وكان يلبس الصوف حيث الصوف أرخص نسيج آنذاك ، ويرتق ثوبه ، ويرقع قميصه ، ويخصف نعله ، ويركب الحمارة ويحلب شاته ولم يستمتع بدنياه وكان طعامه الشعير ومات ودرعه مرهونة عند يهودي ولا ميراث لأهله مما ترك عقار وهو قليل .

***

أمس.. أو اليوم.. فلم أعد أدري أمسي من غدي.. كان أحد رفاق الرحلة يشكو من خشونة الفراش.. قال لي أنه لم يستطع النوم.. ثم واصل:

- أنت أيضا لم تكن مستقرا في نومك.. كان نومك أشبه بالكوابيس وأنت تشكو من المطاردة وتتحدث عن شيء اسمه البروتوكولات..

- سألني: ما هذه البروتوكولات؟

- أجبته:

- أضغاث أحلام..

***

كان الفراش خشنا

اضطجع حبيبي وسيدي ومولاي رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فأثر في جنبه فلما استيقظ عرضوا عليه أن يبسطوا له على الحصير شيئا فقال: ما لي وللدنيا.. وما أنا والدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظل تحت شجرة ثم راح وتركها ..

***

أذوب في الزحام..

مئات وربما آلاف من الجند يحاولون تنظيم الناس..

في حياته لم يكن له حرس..

صرفهم

هل كان يمكن أن يحدث ذلك يا حبيبي ما لم يكن ذلك وحياً من الله الذي يعلم الغيب وبيده الموت والحياة .قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).

آمنت مبشرة ونطقت الشهادتين عندما قرأت هذه الآية فالإنسان لا يتآمر على نفسه ولا يقامر بحياته.. ولو لا قدر الله قتل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية لضاعت حياته وضاعت رسالته.

***

آمن آخر عندما رفض أن يكون كسوف الشمس حزنا لموت ابنه إبراهيم..

طواني الموج..مئات بل آلاف بل ملايين..ذبت وسط الملايين.. انعدمت القدرة على الحركة المستقلة.. أصبحت والناس جسدا هائلا يتحرك جملة.. كجسد واحد.. فقدت القدرة على الحركة المستقلة.. تماما كما يعجز قلبك أو كبدك أو مخك عن التجول بحرية داخل جسدك.. طواني الموج.. الكتلة الهائلة تتحرك كجسد واحد..لم أعد أسمع شيئا مستقلا ولا أرى شيئا.. كيف يمكن أن أقابل المرسل المجهول في وضع كهذا؟ كيف؟.. لو أنه كان لصيقا لما سمعته ولو سمعته ما استطعت الالتفات إليه.. لا شيء إلا الزحام.. يهولني الأمر.. إن كان هذا زحام الدنيا فكيف يكون يوم الحشر.. أريد أن أنفصل.. أريد أن أقترب من الروضة الشريفة.. وكل ذلك مستحيل.. لم أكن أعرف حتى في أي مكان من المسجد أنا.. رأيت ضوءا.. أدركت أننا نقترب من باب يؤدي إلى الخارج.. انخلع بالرعب قلبي.. هل يلفظني المسجد النبوي.. المدينة كالكير يخرج الخبيث .. حبيبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد.. يا رب.. ليس لي سواك ولا أحتمل أن أطرد من مسجد رسولك.. يا رب.. يا رب.. وحق جلال وجهك الكريم أنت تعلم أن بي ضعفا لكنني غير منافق ولست خبثا .. يقول حبيبي صلى الله عليه وسلم : ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فيخرج الله إليه كل كافر ومنافق .. سأموت لو خرجت.. جد لي مكانا يا رب.. جد لي مكانا.. بكل ما أستطيع من خضوع وتوسل وزلة كنت أدعو.. والزحام أمواج كالجبال.. وفجأة وجدت نفسي على حافة الموج.. وفي ثانية وربما أقل..كان أحدهم في الصف الثالث أمامي قد قام كي يضع المصحف الذي كان يتلو منه في مكانه فقفز من خلفه واحتل مكانه.. ربما ظنه سيغادر.. وكان المكان الذي خلا إلى جواري مباشرة.. لم أهرع إليه بل دعّني الزحام فيه.. لا أنا ولا من أمامي ولا رجل الصف الثالث كنا نستطيع تبديل ما حدث أو النكوص عنه .. وعلى الفور نويت الصلاة ورحت أبكي.. هل قلت رحت أبكي؟ .. لكنني قبلها كنت أيضا أبكي.. لكن البكاء عن البكاء يختلف..رحت أصلي.. وأصلي.. وأصلي.. وأدعو.. وأدعو..وأدعو.. أذن للمغرب فصلينا.. ثم العشاء.. ومضى وقت طويل فخف الزحام قليلا.. وتلفت حولي لأعلم أين أنا..

يا اللـــــــــــــــه..

يا اللـــــــــــــــه..

ما أرحمك ما أكرمك..

فوجئت أنني أمام المقصورة النبوية مباشرة.. بيني وبينها مترين أو ثلاثة.. وبجوارها مباشرة الروضة الشريفة..

أقف مشدوها عاجزا عن النطق زمنا لا أدريه..

خامرني إحساسان متناقضان.. أولاهما أن أهرب.. والثاني أن أخترق الوجود والزمن فأصل إلى الجنة أراه وألمسه وأشمه وأغسل بدمعي يديه وقدميه..

ثم كمن يفيق فجأة بعد إغماءة رحت أصرخ:

- السلام عليك يا حبيبي وسيدي ومولاي.. السلام عليك..

كنت قد أنسيت الصيغة التي حفظتها.. فرحت أكرر: يا حبيبي يا حبيبي يا حبيبي..... وبعد أن استدركت رحت أقول:

- السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، صلى الله وسلم عليك وعلى آلك وأصحابك، وجزاك الله عن أمتك خيراً، اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته.

السلام عليك يا أبا بكر ورحمة الله وبركاته رضي الله عنك، وجزاك عن أمة محمد خيراً.

السلام عليك يا سيدنا عمر الفاروق ورحمة الله وبركاته رضي الله عنك، وجزاك عن أمة محمد خيراً.

السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته..

يرتج كياني..

أصرخ فيمن حولي.. فيمن لا أعرف..لكنهم أعز عليّ من أعز أهلي..يربطني بهم نسبتنا لرسول الله..

أصرخ:

- لقد رد عليّ السلام.. لقد رد عليّ السلام.. لقد رد عليّ السلام..

وراح من حولي يتبادلون النظرات كما لو كانوا يشكون في عقلي.. فرحت أصرخ مرة أخرى أنني أقسم لهم أنه رد السلام عليّ وسألني أحدهم في دهشة:

- هل سمعته بأذنيك..

فأجبته:

- بل سمعته بقلبي.. فجأة ارتج قلبي وامتلأ نورا وسرت الكهرباء فيه فعرفت أنه رد عليّ.

وكان ثمة جندي واقف في الممر المجاور للحجرة النبوية مباشرة والمخصص للجند.. لمحته ينظر إلىّ بحب وإشفاق.. صرخت فيه:

- أنت سمعت؟!

فلم يرد وإن اختفت نظرته الحانية بسرعة.. فصرخت فيه:

- هل أرسلك المرسل المجهول لي؟..

مع صرختي تجمع الجنود حوله.. بدا لي أنه رئيسهم.. وربما بدا لهم أنني سأعتدي عليه.. بل أريد أن أقبل قدميه.. حاولت الوصول إليه..

ولكن موجة من البشر دفعتني أمامها كقشة يدفعها طوفان..

بعد ذلك عدت مرارا محاولا لقاءه مرة أخرى.. ولم أجده أبدا..

حاولت أن أسأل عنه زملاءه.. فأبكروا وجوده أصلا.. وقلت لنفسي ربما يخشون عليه مني..

***

كنت أحب لقاء حبيبي قبل الفجر..

في تلك اللحظات يكون الزحام أقل وأستطيع أن أحادثه وأشكو له .. وأبكي..

في تلك اللحظات يكون رواد المغرب والعشاء قد ذهبوا ليناموا قليلا تأهبا للفجر.. لم أكن أنام.. كنت أذهب لأبكي..

ذات فجر رحت أبكي..

كنت مرعوبا وحزينا وخجلا وخائفا..

رحت أناجيه بلا صوت.. كانت العبرات حروفي..

سيدي ومولاي وحبيبي أنا خجل من نفسي، فنحن لم نطعك.. لم نأتمر بأمرك.. ولهذا ذللنا وانهزمنا.. ونحن من جنس أولئك الذين قالوا: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون.

أنا خجل من كل شيء..

لكن أقسى الخجل كان من الله.. ومنك يا رسول الله صلى الله عليك وسلم

أخجل حتى من أن أدعوه ليغفر لي خطيئتي وتقصيري.

أخجل .. و أنا أفكر كم مرة سأعاني ما هو أشد من الموت و أقسى عندما يسألني الله يوم القيامة: ماذا فعلت.. ولماذا لم تستشهد مع الشهداء.. لماذا لم تجاهد أعداء الله..

خجلت.. حتى طغى الخزي و الخجل على الرعب والفزع والخوف والجزع..

خجلت وقلت لنفسي:

- حتى لو غفر لي الله يوم القيامة فلن ينقطع خجلي بل لعله يزيد.. ولعلي قبلها وحينها وبعدها أصرخ واسوأتاه ..وا سوأتاه و إن غفرت..

خجلت.. أغرقني الخزي وشلني الخجل .. تمزق قلبي، وانجرح، وكان الجرح طويلا وكان الطول طويلا: كطول المسافة بين مؤتة وبغداد، وكان الجرح عميقا وكان العمق عميقا ، عمق المسافة ما بين المسجد الأقصى وما بين الكعبة، وكان الجرح عريضا وكان العرض عريضا عرض الهوة التي صنعها – عليهم اللعنة – ملوك ورؤساء يتبعون بروتوكولات ما أدري من وضعها لهم..

سيدي.. حبيبي .. مولاي من أجل مواجهة هذه البروتوكولات جئت.. لأن ما تطرحه البروتوكولات الآن واحد من ثلاثة:

إما أن يبيدونا كعاد وثمود وكالهنود الحمر..

و إما أن يروضونا كما روضوا العبيد بعد أن يخرجونا من الملة..

و إما أن نجاهدهم..

والمخطوط الذي لم يكتمل قد يرسم لنا الطريق.. وهو لن يخرج عن القرآن وسنتك.. لكن القرآن وسنتك معنا منذ انتقلت إلى الرفيق الأعلى.. ونحن على أبصارنا غشاوة..المرسل المجهول ربما يعطينا مفتاح البداية وما يزيل الغشاوة.. ربما يعطينا دعاء أو سرا يقصر الطريق علينا به.

***

ليس أمامنا سبيل آخر..

فإذا أردنا الدنيا فإن علينا أن نهزم هذه البروتوكولات..

و إذا أردنا الآخرة فإن علينا أن نهزمها..

و إذا أردنا الدنيا و الآخرة فإن علينا أن نهزمها..

***

سيدي وحبيبي ومولاي:

وا إسلاماه..

أصرخ بها دون صوت ودونما أمل في الاستجابة والغوث من المخلوق فتتمزق نياط قلبي.. وأتوجه للخالق..

وا إسلاماه..

سيدي وحبيبي ومولاي:

إنني أشكو لرب السماوات والأرض الذي لم أعرف أسماءه وصفاته إلا منك.. أشكو وأصرخ وأستغيث: أينما توجهت رأيت مسلمين يذبحون وإسلاما يعتدي عليه وبلادا تتفكك وأمة تتآكل..

كي يرضى العالم القاسي المجرم المتوحش عنا لا بد أن نترك ملتنا ونتبع ملته وأن نوالي عدونا ونبرأ من أخينا وأن يكون عدونا الاستراتيجي هو حليفنا الاستراتيجي..

فوا إسلاماه..

أقولها دونما صوت.. أو أن صوتي يصم البرية .. لكن البرية بآذانها صمم..

أقولها بين الواقع والخيال.. وبين الحلم والكابوس

وا إسلاماه..

أقولها مذهولا وأنا أتأمل أتباعك -يا سيدي وحبيبي ومولاي صلى الله عليك وسلم كالمصعوق- متسائلا: هل ماتت قلوبكم؟.. إلى هذا الحد هان عليكم دينكم؟ هل يئستم من الخلد في الجنة؟ أم أنكم لم تؤمنوا بها أبدا؟!..

في بلادي كنت أحمل نسخا من مخطوط المرسل المجهول وأسير في الشوارع كالمجنون وأنا أتمنى أن أحمل درة أهوي بها على الناس صارخا أفيقوا.. أنهم يذبحون الإسلام بعد أن ذبحوا المسلمين..

أصرخ في كل من ركع لله ركعة أو صام يوما أو نطق بالشهادتين:

قم واجه معي بروتوكولات حكام العرب..

أقولها معذبا ممزقا نازفا لكنني لا أفقد الأمل في النصر الموعود أبدا..

قم واجه معي بروتوكولات حكام العرب..

تصرخ بها كل نبضة من نبضات قلبي.. كل شهقة وكل زفرة.. مع كل صحيفة أو مجلة.. كل مشهد.. كل خبر أطالعه..أو تعليق أسمعه.. أو واقع في الشارع أراه..

قم واجه معي بروتوكولات حكام العرب..

أقولها وأنا أرى الدين يستباح.. والحرمات تنتهك.. والأمة تمزق.. وولاة الأمر يخونون.. والنخبة المجرمة المنحطة تنافق..

أقولها وأنا أنظر في عيون الأبناء والأحفاد فأرى فيها حيرة من غسلوا مخه فأضلوه السبيل..

أقولها وأنا أنظر في عيون من حولي فأكاد أسمع صراخهم في يوم سيكون عليهم عَسِيراً ..

وَيَوْمَ يعض أصحاب البروتوكولات عَلَى أيديهم يَقُولُ الواحد منهم يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ..

يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ الشيطان خَلِيلاً ..

يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ الرئيس خَلِيلاً ..

يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ الملك خَلِيلاً ..

يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ الأمير خَلِيلاً ..

لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ..

يا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا.. يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا..

***

يدوخني الألم فأقولها..

يذهلني الألم فأقولها..

يدميني الألم فأقولها..

وها أنذا أعيدها أمامك يا سيدي وحبيبي ومولاي..

ويدوخني ويذهلني ويدميني يا حبيبي أنني أقولها فلا يستجيبون ولا يتحركون..

أسمع صمت صوتهم وصوت صمتهم إذ يسمعون أوامرك بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :

اذهب أنت وربك فقاتلا.. إنا خائفون..

اذهب أنت وربك فقاتلا.. إنا جبناء منافقون..

اذهب أنت وربك فقاتلا.. إنا لصوص سارقون..

اذهب أنت وربك فقاتلا.. إنا سفلة منحطون..

اذهب أنت وربك فقاتلا.. إنا في الأسواق والمعيشة مشغولون..

أقولها فتختلط الأمور فلا أكاد أعلم هل ما أراه ورأيته وما أحسسته وأحسه كان حلما أم كابوسا أم خيالا أم حلم يقظة أم واقعا مريرا موازيا

أراه في المنام كما أراه في اليقظة:

أراني في صحراء واسعة شاسعة مترامية هائلة وثمة خطر هائل محدق لكنني لا أصرخ ولا أستغيث لأنني أعلم أن لا يوجد أحد يستطيع إنقاذي إلا هو.. هو الباقي.. وأنه يسمع صمتي كما يسمع صوتي فلذلك أفقد الرغبة في الصراخ رغم الكارثة المحدقة..

هل يئست ممن حولي..

لكنني لن أكف أبدا عن الصراخ فيهم:

قوموا واجهوا معي بروتوكولات حكام العرب..

أقولها دونما صدى..

أقولها وليس ثمة أمل إلا أن يكشف الله البلاء عنا..

ولكنني-حتى – لا أعلم إن كان الإذن الإلهي برفع الضر قد حان أوانه

***

قوموا واجهوا معي بروتوكولات حكام العرب..

أقولها وقد استنسر البغاث علينا..

أقولها وقد باض الحمام على الوتد وبال الحمار على الأسد..

***

كنت ما أزال أبكي..

وكنت أسأل نفسي في دهشة:

من أين أتت كل هذه الدموع..أم هي مخزونة منذ ألف وأربعمائة عام!

كان لابد- تحت وطأة الزحام- أن أبتعد خارجا من المسجد مرغما مع الموج كي أعود من باب آخر لأعود إلى المسجد..

المسجد الذي تشد الرحال إليه

كنت لم أعد أنا.. كنت أطوف في الزمان والمكان.. جاهدت للوصول للروضة الشريفة.. مَا بَيْنَ بَيْتِى وَمِنْبَرِى رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ..تختلف التفاسير.. هل هو بيت السيدة عائشة وحدها –رضي الله عنها- فتكون أضيق بكثير من المساحة المعروفة الآن أم بيوت نسائه جميعا فتكون هي المساحة المعروفة.. واختلفوا في فضلها.. تقول بعض التفاسير أن هذا المكان يشبه روضات الجنات في حصول السعادة والطمأنينة لمن يجلس فيه .وتقول أخرى أن العبادة في هذا المكان سبب لدخول الجنة وتقول تفسيرات أخرى-ويالعظمة هذا الدين- أن ليس لها فضل على بقية المسجد.. الحرية وتعدد الآراء والجهر بها أمر عظيم جدا لكنني لم أستسغ هذا الرأي.. الروضة؟ إنها سويداء قلبي. . أحشر جسدي بين الناس..أتسلل وسط الزحام.. تمنيت أن ينحف جسدي حتى يصبح في سمك الشعرة فأستطيع المرور وسط الزحام كي أصل لروضة حبيبي.. تمنيت أن أكون روحا فقط حتى أجول كما أشاء.. وتمنيت أن أكون عصفورا أو حمامة أطير و أحط أني شئت دون أن يمنعني مانع.. اقتربت.. اقتربت.. اقتربت..تذكرت كابوسي القديم عندما تجمد الشمع حولي فجمدني.. الآن أعوم وسط بحر ذراته بشر.. بحر انضغط حتى أصبح في كثافة الحديد.. لو كنت في سمك حد الموسى ربما استطعت المرور..أقول ربما.. كنت حيث لا أتحرك إنما يحركني الموج.. موجة وراء موجة.. بعد دهور استطعت رؤية البساط الأخضر الذي يغطي الروضة الشريفة.. حذرني البعض من أن الروضة الحقيقية لا تتطابق مع البساط.. وكنت قد أعددت الخرائط في قلبي واثقا أن ما لن تدركه عيني سيراه قلبي.. اقتربت.. اقتربت..أخيرا..أخيرا.. دسست قدمي بين الناس وكان إصبعا قدمي الصغيرين على البساط الأخضر.. يا الله.. يا للسعادة والسكون والطمأنينة.. نظر إلىّ من كانت قدمي بجواره بل تلامسه بعنف .. خفت أن ينهرني.. كانت عيناي خلف طوفان الدموع تتوسل إليه: لم يعد بقلبي متسع لجرح فسامحني..تحملني.. ألا يكفي أنك نلت مجد الجلوس فيها فصدق عليّ ببعضها.. كنت أتوسل.. وكان أقصى ما أتمناه أن يسمح لإصبعي قدمي أن يبقيا إلى جواره.. فجأة رأيته ينهض ويدفعني إلى مكانه..بكيت بكيت بكيت بكيت..أشرقت الأرض بنور ربها.. لا تيأس إذن يا مسكين.. إن كانت هذه رحمة العبد بالعبد فكيف تكون رحمة الرب.. طفقت أصلي وأدعو..كنت أصلي واقفا وأركع واقفا وأسجد على كتف من أمامي..

و..

و..

و..

وفي الأيام التالية وبنصائح إخواني كنت قد استطعت معرفة الأوقات التي تكون فيها الروضة أقل ازدحاما.. فاستطعت أن أنال مجد تعفير وجهي بالسجود وأنفي في البساط الأخضر.. هل يمكن للإنسان أن يتذكر الزمن التي كان فيه جنينا في بطن أمه؟.. ولو أن الجنين خير فهل كان يختار أن يغادر رحابة رحم أمه إلى ضيق الدنيا؟؟ هكذا كنت.

رحت أدعو.. لو أمكن تلخيص الزمن في دقيقة والعمر في لحظة لاستطعت أن أسرد ما دعوت به.. قلت كل شيء كل شيء كل شيء عن الماضي والحاضر والمستقبل وعن الألم والأمل والرجاء.. قلت كل شيء.. لكن شفتي لم تتحركا.. كان قلبي هو الذي يدعو.. وكان آخر دعائه أن يقبضني الله وأنا ساجد في الروضة.. كنت كجندي خارت قواه يطلب من سيده ويرجوه أن يسحبه من المعركة لعجزه عن المواصلة.

***

في يوم آخر.. كنت في الروضة الشريفة.. وازداد الزحام وحانت الصلاة فوجدت نفسي خارج الصفوف.. وبدءوا يدفعونني للخروج من الروضة.. لو كنت أستطيع تحويل كل خلية من خلاياي إلى نظرة توسل لفعلت.. لكنني لا أستطيع.. شملني دوار وشمل ساقي خدر فكدت أتعثر.. كان يمكنني التحامل على نفسي.. وكان يمكنني أن أخفي ما حدث عن الناس.. لكنني تركتهم يرونه كاملا.. بل ربما بالغت فيه قليلا.. ربما تصنعت أن ركبتي عاجزة عن حملي وأنها تؤلمني.. استغرق الأمر ثانية أو أقل فلم ألم بالتفاصيل.. لكن الحركة آتت أكلها فأشفقوا عليّ.. أشاروا إلى فتى صغير فخرج ووقفت مكانه..

هل كذبت؟

كم ألف عام يمكن أن أهوي بها في النار من أجل ذلك..

لن أنسى أبدا ملامح وجه الفتى.. كان كمن يطرد من الجنة.. كمن ظن أنه حصل على جائزة بالمليارات ثم اكتشف في اللحظة الأخيرة أنها لم تكن له.

***

في الليل..رأيت المرسل المجهول.. لست واثقا إن كنت قد رأيته في الحقيقة أو المنام.. لكنه كان ينظر معاتبا نحوي ويشير إلى ركبتي ويحرك وجهه يمنة ويسرة بما يعني الرفض أو التحذير أو العتاب أو الغضب.. حاولت أن أكلمه فانحبس صوتي.. ومضى.. حاولت أن أجري خلفه.. لكنني فوجئت بنفسي عاجزا عن الحركة.. وكان ثمة ألم كالنار في ركبتي..

بكيت بكيت بكيت بكيت بكيت...

ونمت..

فرحت.. وجدت نفسي قد تحولت إلى عصفور.. طرت بأقصى سرعة.. قلت لنفسي الآن سأستمتع بالروضة كيف أشاء.. طرت فوق رؤوس الناس.. ها هي.. ها هي.. وها أنذا على وشك الوصول.. لكن جدارا غير مرئي منعني.. اصطدمت به صدمة كادت تهلكني.. فانكسر جناحي واشتعل فيه الألم كالنار.. هل أدركت يا مسكين.. كانت المشكلة في الدعاء لا في الإجابة .. لكنك لم تتخيل –يا مسكين- أن الاستجابة لدعاء العقول لا يعني القبول ثم أن القبول لا يعني المثول..

بكيت بكيت بكيت بكيت بكيت...

في المنام بكيت.. وعندما استيقظت بكيت ونمت فرأيت أنني أركب سفينة تغرق.. تعلقت فيها بيديّ.. كنا وسط الماء.. مئات وآلاف يتصارعون على النجاة.. وكان البحر غريبا.. كان الماء يتجمد حول بعضنا يغلي حول بعضنا الآخر.. أفلتت يدي السفينة الغارقة.. انقلبت في الماء فتعلقت بحرف السفينة بإصبعي قدمي الصغيرين..

وبكيت بكيت بكيت بكيت بكيت...

في المنام بكيت.. وعندما استيقظت بكيت ونمت فرأيت أننا يوم القيامة.. كنت أسير على الصراط في أمان لكن ثقبا انفتح فيه فجأة بطريقة لم أدرك كنهها أبدا.. انقلبت على وجهي وسقطت رأسي نحو الأسفل تحتها جبال من النار لا آخر لها.. في آخر لحظة تعلقت في حرف الصراط بإصبع قدمي الصغيرين.

***

الغريب.. أنني في الأيام التالية.. كنت أذهب إلى الروضة الشريفة محمولا أو مسنودا.. لأن النار التي اشتعلت في ركبتي لم تنطفئ. والحركة التي بالغت فيها أصبحت أفعل أضعافها مجبورا..

***

مع الرحيل انخلع قلبي..

لم أجرؤ على وداع حبيبي..

لعل الزمن فتق يرتق فأجدني معك في الجنة..

لم أجرؤ على وداعه..

فالوداع يا أحب بلاد الله إليه..

الوداع..

فلكل بداية نهاية ولكل أول آخر..إلا الأول والآخر..

حتى أنت.. يا أحب بلاد حبيبي تخربين وتهجرين حتى تدخل وحوش الفلاة إلى الحرم..

لا يعزيني إلا أنك آخر مدن الإسلام خرابا قبل الساعة

لا يعزيني إلا أنني أموت إن شاء الله قبلك..

لا يعزيني إلا أن خراب المدينة يكون بعد موت من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق