تَّتْفِيه الجماهير
“آهٍ أيتها التفاهة المنتنة: الشعر النفعي، أدب البيادق، الثرثرة الجمالية، القيء الاقتصادي، المنتَج المقزِّز لأمّة مستهلِكة؛ إنّني أكرهك بجميع قواي الروحية، إنك لست بالغرغرينا، بل أنت ضمورٌ عضويّ، إنك لست بالالتهاب الساخن الأحمر للأزمنة المحمومة، بل أنت الخُرَّاج البارد ذو الأطراف الباهتة، الذي يقطُرُ كما النبع الذي يَجِدُ مصدرَهُ من تجويف تسوس عميق” ..
كلمات سطَّرها بقلمٍ يقطر مرارة وحسرة “جوستاف فلوبير”؛ لما رآه من إصرار عنيد على تتفيه وتسفيه الجماهير، وذلك في الغرب الذي صار بما أحرزه من تقدم ومدنية مستعصيًا على السقوط السريع المفاجئ؛ فما الذي يمكن أن يُقال عن الذين يرسمون طريق المجد والملك لأنفسهم في بلادنا المنكوبة عبر خطة تعتمد على إغراق الشعوب في مستنقع التفاهة؟ ماذا نقول عن مجتمعات تولجت فيها التفاهة بين تلال الأهوال؟!
كيف ترقص أمّة منكوبة؟
كيف يرقص أولئك الرجال في حفلات مجون جماعية؟ كيف راق لهم أن يمارسوا هذا الرقص وأن ينغمسوا في هذا الوحل من الخلاعة والمجون؟ كيف وهم يشهدون المآسي تتبارى وتتسابق إلى رؤوس المسلمين؟ ألم يبلغهم نبأ استشهاد أكثر من أربعين ألفًا من المسلمين في غزة على أيدي الصهاينة أكثرهم من النساء والأطفال؟ ألم يعلموا بمصاب السودان الكبير الذي أدى إلى تهجير الملايين من أخصب أرض وأيسرها إلى أنضب وأعسرها، ألم يأتهم نبأ آلاف المسلمات العفيفات اللاتي يغتصبن هناك ويمارس بحقهن عنف جنسيّ بنكهة التمييز العنصريّ؟ أم إنّهم ليسوا من هذه الأمة؟
لا ريب أنّ ما أصابهم كان نتيجة لخطة من التتفيه المتعمد والتسفيه المقصود والتبليه الذي وضعت ملامحه ورسمت معالمه بليل شديد السواد، ماذا نقول لأشباه الرجال هؤلاء؟ بماذا نصف ذكورًا من الآدميين، كأنّهم دجاج أبيض برؤوس حمراء، يرقصون كما العاهرات من النساء، بلا خجل ولا وجل ولا حياء؟ أسعفونا بربّ السماء!
قنواتٌ هذه أم مستنقعات
لم يكن مهولًا – بالنسبة لنا – ما جاء في كتاب “ديالكتيك التنوير” عن الاستهجان لأداء وسائل الإعلام ومؤسسات الترفيه في العالم بهذه الطريقة من التحقير: “لا حاجة لكل من السينما والإذاعة لأن تتظاهرا بعد الآن بكونهما فنًّا؛ فما صار واضحًا أنهما لا تعدوان أن تكونا أعمالا تجاريّة، تمت أدلجتها، بهدف تبرير الهراء الذي تنتجانه عن عمد، إنّهما تسميان إنتاجهما بالصناعات، ولكن عندما يُعلن مكافآت المخرجين العاملين في أيٍّ منهما فإنّ أيّ شك حول انتفاء الفائدة الاجتماعية للمنتج النهائي سوف يزول”؛ ذلك لأنّ ما نراه في فضائياتنا قد فاق تصورات “ديالكتيك التنوير” وربما لو اطلع المؤلفان على ما تشاهده وتتابعه الشعوب “العربية” لراق لهما تسمية ما يجري “ديالكتيك التتفيه”، ما هؤلاء الذين يطلون علينا من شاشات الفضائيات فيأتون بالعجائب والمتناقضات التي لا يتسع لاستيعابها وديان من البلاهة بعيدة الأغوار؟! ما هذا الكمّ المهول من الكذب والدجل؟ ما هذه الصور الهابطة من الاتجار بمصائب الشعوب ونكبات الأمم؟ لم يعد لدينا رفاهية السؤال عن مستوى الفنّ والإبداع؛ لأنّنا نسيناه من زمن بعيد، ونسينا معه الطمع في شيء جديد مفيد، لم يعد لنا مطمع إلا في خفض مستوى التفاهة!
تجفيف منابع الفضيلة
عندما ألف كتابه “إنسانية الإسلام”، وقال فيه:
“والمؤمن ملزم في حياته الخلقية بالتقيد بوصايا الشريعة الإلهية، وليس هذا التقيد مجرد عمل يصدر عنه بطريقة آلية؛ إنّ عليه بالعكس أن يشعر أنّه ملتزم به التزامًا عميقًا، إذْ ينبغي في الواقع ألا يكتفي بصنع المعروف، بل أن يأمر كذلك به، وألا يكتفي بأن يتجنب المنكر، بل أن ينهى عنه أيضًا، وهذا المظهر المتميز يكسب المجتمع الإسلاميّ – حتى في أيامنا هذه – تلك الخلفية من التقليد والمحافظة، فالإسلام بجمعه المحكم بين الروحيّ والزمنيّ يجعل حتمًا من معتنقه كائنًا ملتزمًا من الناحية الخلقية، وهكذا تبدو الفضيلة فعالة وطوعية بشكل أساسيّ”؛
هل كان “مارسيليو بوازار” وهو يسطر هذه الكلمات يتحدث عن حالة المجتمع المسلم اليوم؟
لا ريب أنّ الحديث لم يكن عمّا نراه اليوم، إنّما كان عن المجتمع الذي كان، المجتمع الذي قال الله تعالى في وصفه: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، المجتمع الذي لم يكن يعلو فيه صوت الفاسدين المفسدين، وهو – للتذكير – لم يكن مجتمع الصحابة وأهل القرون المفضلة الأولى فقط، وإنّما كان المجتمع المسلم طوال التاريخ وإلى عهد قريب جدًا، عهد كان في الفاسدون وكان فيه العابثون المعربدون، وكان فيه أهل الخلاعة والمجون، ولكن ما كانوا في المجتمع أصحاب الصوت العالي، فمن الذي رفع من قدرهم وأعطاهم المساحة لينفردوا – ليس فقط بما يسمونه الترفيه – وإنّما بالتثقيف والأدلجة والتوجيه، من الذي استعملهم في التمهيد والتوطيد لعهد جديد وليد لا وجود فيه لصوت الإيمان وحداء “التوحيد”؟ (إنّ الذين يحبون أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).
الشعب هو الحلّ
على الرغم من تقليل الكثيرين من دور الشعوب فإنّ الحقيقة الواقعة أنّ دورها كبير وخطير، لماذا لا تستغني الشعوب المسلمة عن ترسيم الحسبة، وتقوم هي بدورها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ فإذا لم تستطع فلماذا لا تقاطع؟ وهي تملك أن تقاطع، ولا يملك أحد على أن يجبرها على ألا تقاطع، فلتقاطع الشعوب ولتستخدم سلاح المقاطعة لمواجهة كلّ ما يعزّ عليها مواجهته بصورة إيجابية فاعلة، ولو أنّ الإصلاح لا يمكن له أن يتمّ إلا بحراك إيجابيّ فعَّال، ولكنّها في النهاية خطوة لابدّ منها على طريق الإصلاح، ولقد وردت في القرآن لفظة كالشفرة فيها حلّ المشكلة، وهي قول الله تعالى: (وفيكم سمّاعون لهم)، فلولا أنّ فينا هؤلاء السمَّاعين الذين يعطون آذانهم لأهل الفتنة ما بلغ قول أحدهم أرنبة أنفه، والمعادلة هي: كلما قلّ عدد المتابعين لهم تقلص شرهم وانزوت فتنتهم؛ فلنجتهد في ذلك، ولن يضيع الله جهودنا وجهادنا؛ كيف وهو الذي قال في محكم التنزيل: (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وإنّ الله لمع المحسنين).
اقرأ أيضا:
كيف رتب القرآن قضايا الإيمان؟كتاب: الصراع العربي الإسرائيلي
جريمة الاغتصاب تزيد الحالة السودانية بشاعة
هل ستنجح “بريكس” في كسر هيمنة الدولار؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق