الخميس، 14 نوفمبر 2024

بابور اللوح.. ترانيم ضفاف الجنوب

بابور اللوح.. ترانيم ضفاف الجنوب




ثمة حقوق مشتركة حفظتها الأعراف والقوانين البشرية، لكونها مرتبطة بالحق الإنساني؛ فلا يمكن تجزئتها واختزالها ضمن "رؤية حضارية" تختص بجماعة مهيمنة.. أحد تلك الحقوق أن "الهجرة قيمة إنسانية"، ويندرج ضمن حرية البشر في محياهم؛ فأن تكون حرّاً متعلقٌ بقدرة الحضارة على تجاوز التصادم، واستجابتها الفاعلة للتعايش الذي يمنحها وجهاً إنسانيّاً.

لكن الحرية بوصفها حقّاً سرعان ما تلاشت تعريفاتها أمام سطوة النيوكولنيالية عليها، واعتبارها سلعة اقتصادية تداولتها عبر ماركات احتكارية. وبدل تنميتها في مجالاتها الطبيعية المتعلقة بالتمثيل الحضاري للإنسانية، استبدلت بعناوينها الكبرى -وفي مقدمتها "الحق في الهجرة"- الاعتراف القسري والمخيف بمنتجات نيوليبرالية زائفة.

لقد غدت قوارب الموت ظاهرة عالمية منتشرة في مجتمعات تعيش ويلات الحرب والأزمات، وفتحت طرقا بحرية جديدة نحو أوروبا من دول شمالي أفريقيا، وهي تعد من أهم أوراق الضغط السياسي على الغرب

الهوية المفقودة

تأتي الهجرة كحق إنساني ليس بالضرورة في سلم الترتيب الحضاري؛ فالحضارة على اقتراب حدودها الثقافية والاقتصادية تراهن على سلسلة من الممارسات الإقصائية والقمعية، بدعوى ملاحقة معاداة السامية والإرهاب. ومن جرْد إحصائيات القوارب غير النظامية المتجهة نحو أوروبا، ندرك المأساة التي تعيشها شعوب ضفاف الجنوب، بسبب أنظمتها التي فشلت في "توطين الوطنية"، وهي غير آبهة بأعداد القتلى والمفقودين في أعماق البحار.

سنحاول فهم الدوافع الحقيقية المساهِمة في تزايد موجة الهجرة غير النظامية، وفي مقدمتها الأسباب النفسية والاجتماعية التي تجعل من "الخيارات الذاتية" طريقا محفوفا بالمجازفة.

في جدلية ما يطلق عليه "البحري أو الحراق"، التي تغنت بترانيمه حناجر الألتراس الشبابية في مدرجات الملاعب، وعلى متن بابور اللوح الذي لم تتوقف رحلاته السريعة نحو أوروبا في ليالي الشتاء والصيف، ومع أصوات نخب شبابية ممن اختاروا البحر طريقا لخلاصهم الدنيوي، حيث حلمهم الأوروبي سيمنحهم حياة الرفاهية والاطمئنان والاعتراف بإنسانيتهم.. البحري الذي امتعض من واقعه المشتبك بذوات مضطربة وأزمات معيشة، ينظر إلى الهزيمة التاريخية التي منيت بها منظومة الأزمات والخيبات لدولة الاستقلال الوطني، وهي تتغنى بالوطنية والثورة والأخ الكبير.

ولعل الفشل الذي تناهضه ترانيم الحراق ضد بنية النظام المسيطر على الحياة العامة، والتي كانت الحلقة الأولى في تشكيل النهر الذي جاب شوارع عواصم الضفاف الجنوبية، ساهم بشكل مريع في خلق مجتمع ناقم على تمثلات الدولة الوطنية، وباتت أغاني الحرقة ودعوات ترك البلاد تجوب الملاعب وصفحات التواصل الاجتماعي، لتصنع "رأيا عاما محفزا" بضرورة الهجرة من الجغرافيا التي نهبتها البورجوازية الحاكمة.

يدرك البحري أنّ مسألة الهجرة غير النظامية قد تجاوزت طموحاته البسيطة، لتغدو سوقا مفتوحة على آفاق معقدة من التهريب المنظم ومافيا الملح، لكنه غير آبه بتكاليف الرحلة التي ستأخذه إلى شواطئ حلمه؛ فهو غير مؤمن بجدوى الإصلاحات والتنمية في بلاده، فمشكلته لم تعد مع نمط العيش الذي أرهق وجدانه، بل مع فكرة "شعور الانتماء"، وأهمية العلاقة الاجتماعية والفردية. فموسيقاه من على بابور اللوح بدل أن تحكي عن الثورة والحراك، أصبحت تروي كيف أنّ اغترابه ومظلوميته هي ما استدعاه طوعا للهجرة إلى أرض ليست بموطنه، قاطعا على نفسه وعدا بعدم العودة حيث ضفافه الجنوبية.

لقد غدت قوارب الموت ظاهرة عالمية منتشرة في مجتمعات تعيش ويلات الحرب والأزمات، وفتحت طرقا بحرية جديدة نحو أوروبا من دول شمالي أفريقيا، وهي تعد من أهم أوراق الضغط السياسي على الغرب. لكنّ ثمة سؤالاً متعلقاً بالتطورات الخطيرة لظاهرة الهجرة عير النظامية، إذ أصبحت الصور والفيديوهات المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي تُبرزها على أنّها طريق آمن وسهل للوصول إلى الحلم الاقتصادي، في حين تتضرع أمواج البحر إلى السماء عن أعداد الغرقى والمفقودين من الأطفال والنساء الذين غدرت بهم تقلباته.

ربما يكون تفسير الظاهرة متعلق بالذات المهاجرة بالضرورة، والتي أصبحت مستهدفة من نظام الاستهلاك الرقمي، مغيبة عن مسؤوليتها ووعيها بخطورة رهاناتها المستقبلية، كما أنّ لها علاقة وطيدة بفكرة التغيير والانتماء.

لن تتوقف قوارب الموت ما لم تنتهِ مآسي مجتمعاتنا، وتمنح لها حقوقها المسلوبة، ويرفع عنها القهر والخذلان. ولن تنعم النفس البشرية براحة مستدامة ما دامت آمالها متجددة، ومتنامية، وغير مستقرة

الخلاص من الثورة

من المفارقات الغريبة أنّه بإمكان البحري أن يبقى في وطنه، ويثور كما انتفض في سنوات الربيع العربي والحراك، لكنه اختار أن يركب الموج ليس هربا من المواجهة الحتمية ضد نظام الفشل، بل سعياً وراء خلاص أبديّ له من تراكمات تاريخية عشعشت في وجدان الجغرافيا التي نشأ بها، وخلقت معها بيئة مستعصية على الفهم والتغيير. والسبيل الوحيد للخلاص من تلك الذاكرة المعطوبة، وإكراهاتها المتنامية، منطلقُه الهجرة نحو عدو لا يتأخر في نهب ثروات ضفافه الجنوبية.

لا يهتم المهاجر غير النظامي بالخطابات التي تنفخ في الارتباط التاريخي بين فكرة المستعمَر والمستعمِر، كما أنّه غير آبه بتلك الدعوات الأيديولوجية التي تبرز الغرب كأرض تستعدي الإسلام، بل تجاوزها ذاتيا ليخلق له ترانيم تقول له إنّ بإمكانه إقامة شعائر دينه حيث الإسلاموفوبيا تأخذ تمظهراتها العنيفة، وغايته الوحيدة أن تطأ قدماه أوروبا، وينعم بأمنها ورفاهيتها.

من ضفاف الجنوب إلى حيث الشمال ينعم بالازدهار والرفاهية، تزداد قوارب الموت حاملة معها لا شبابا يحب المغامرة وتجربة الحياة، بل أفراد عوائل بأكملها شردتهم الحرب ومآسي أوطانهم، وقد انتهوا بقناعتهم أنّ الثورة لم تعد تجدي ليُستبدل بالنظام الفاشل آخرُ متخبط في غيابات التيه. وها هم يتركون أرضهم متحللين ليس من وطنيتهم ولا من انتمائهم التاريخي، بل من التزامهم بضرورة إسقاط الفساد والظلم!. تلك الرمال التي حملت مع حناجر البحري أغنية "يا الرايح وين مسافر تروح تعيا وتولي" منذ زمن، لم تعد بذلك الزخم الذي ساقته فخاخ المستعمَر والمستعمِر؛ فعدوّ الأمس هو من تغزوه الرمال المهاجرة عبر قوارب الموت، أملا في إقرار هوية بديلة.

لكلٍّ منّا أسبابه وتبريراته التي هي منطلق قناعاته في ركوب قوارب الموت، إلا أنّ الحق في الهجرة لا يمكن تجزئته ولا اختزاله ضمن قوانين وحدود، تتداعى كل يوم أمام ترسانة هائلة من التهجير والإبادة

لن تتوقف قوارب الموت ما لم تنتهِ مآسي مجتمعاتنا، وتمنح لها حقوقها المسلوبة، ويرفع عنها القهر والخذلان. ولن تنعم النفس البشرية براحة مستدامة ما دامت آمالها متجددة، ومتنامية، وغير مستقرة، تقارن ذاتها بغيرها، في وقت تتعدى مسؤولية الفرد حدود سطوته وقدرته، ليحمل عواقب ونتائج ما اتخذه من قرار بالهجرة، عبر بابور اللوح الذي لم يستوعب الحق الإنساني.

بالإمكان أن نلوم الحرّاق على فشله في تجاوز أزمات وطنه، لتحل محلها مخاطر أخرى هي ذاتها قلاقل مستقبلية، لكنها مترفة نوعا ما بشيء من استقامة الحضارة بقوانين العمالة والحقوق الاجتماعية.. لكن، أيحقّ لنا بالفعل أن نلوم الحراق على اختياره الهجرة غير النظامية في وقت أُغلقت فيه أمامه جميع منافد الحياة، أم إنّ الهروب عبر البحر ما هو إلا عدم اعتراف بما هو سائد؟

لكلٍّ منّا أسبابه وتبريراته التي هي منطلق قناعاته في ركوب قوارب الموت، إلا أنّ الحق في الهجرة لا يمكن تجزئته ولا اختزاله ضمن قوانين وحدود، تتداعى كل يوم أمام ترسانة هائلة من التهجير والإبادة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق