القرضاوي مثقفاً
عشت والقرضاوي في مدينة واحدة أكثر من إثني عشر عاما هي أيام شهرته الواسعة، وكانت أكثر شهرته في أواخر حياته، وقد ذاعت شهرته في السبعينيات والثمانينيات من عمره، إنما لم يكن لي به صلة، واللقاءان الوحيدان به اللذان حصلا كانا عارضين وكلاهما خارج الدوحة، ولعل من أسباب ذلك أني أبتعد عن السعي في لقاء المشاهير، إلا ما اضطررت إليه، أو كان مؤثرا جدا في تكويني الفكري، فقد تمنيت أني لقيت المودودي وتوفي رحمه الله وكنت صغيرا وغير قادر على السفر ولقائه، ومن أسباب حرصي على لقائه كانت كتاباته المؤثرة ثم حديث زملاء لي قابلوه أو زاروه وتحدثوا عنه. ثم حرصت على لقاء شخص آخر ولما لقيته ندمت وتمنيت أني لم ألقه وأني احتفظت بصورة جيدة بعيدة في ذهني عنه. وللأسف فإن كلمة أبي الدرداء تصدق على كثيرين إلى حد بعيد حين قال: “اخْبَر تَقْلَه” إذ أن خبرتك ببعضهم تبعدك عنهم.
أما القرضاوي فلقائي الأول به شخصيا في مؤتمر في بيروت عام 2006 والآخر في طائرة كانت متجهة إلى إسطنبول، حينما أقبل متجها لمقعده فكان من الواجب أن أنهض إليه وأسلم عليه، وقد عرفته حق المعرفة من كلامه وكتاباته، وأول نقاش حدث حوله وحول فكره أن زميلا في الثمانينيات وحينها كنت في أمريكا، كان يتحدث عنه ويشتمه بسبب تأييده للديمقراطية، واعترضت وقتها حين بدأت أفكر في الديموقراطية، ثم لما قدمت إلى الدوحة في صيف 2002 من أمريكا حضرت له في مسجد الشيوخ عدة ليال وكان يصلي أربعا من التراويح ثم يستريح ويقدم خاطرة بعد الركعات الأربع الأولى، وكنت أشهد في تلك الليالي موهبته المتدفقة، فقد كنا خلال ذلك الوقت القصير نشهد مسرحية ممتعة مفيدة، فمرة يقدم طفلا نابها ومرة يقدم ضيفا للمصلين وأخرى يتحدث فيها، وليت تلك اللقاءات كانت مسجلة، فقد كانت ممتعة.
أما ظهوره على الجزيرة فكان ظهورا جليلا ممتعا، علما وفصاحة ونباهة وإلماما بالشأن الإسلامي لا مثيل له؛ زمانها كنت ألتقي مع المذيع الشهير الذي كان يقدمه ماهر عبد الله، في برنامج: ” الشريعة والحياة”، وقد تعرفت على ماهر رحمه الله بعد قدومي الثاني للدوحة بقليل، بسبب كتاب كان لي أعجبه كان قد طلب صديق مشترك أن يراه ثم أعطاه وطلب كلانا لقاء الآخر، ثم كانت لنا لقاءات كثيرة جدا، فقال ماهر عن القرضاوي إني لست ملزما بتقديمه دائما في البرنامج، ولكن الشيخ متفرد بين الذين أقدمهم، فهو يلتقط الموضوع إجابة أو ابتداء قبل أن أفكر فيه، وهو جاهز دائما، ولا يشغلني بالبحث عن موضوع للحلقة، ثم قال: يا سيدي هو جاهز دائما”. أما في الفقه فقد نقل تلميذ للشيخ عبد الله المطلق كلمة طريفة عنه وكان يتحدث في قاعة الدرس في جامعة الإمام وقد سئل عنه، فقال: “القرضاوي فقيه فقيه فقيه، ولكن ربعنا ما يبونه” والشيخ المطلق يتحدث بالعامية أحيانا رغم فصاحته، ربعنا: أي قومنا أو جماعتنا، وقد يعني المشايخ أو السلطة، وما يبونه: لا يريدونه، أو لا يرغبون فيه. وكلامه هذا تجلى في زمن المقاطعة.
أما الجانب الفقهي الآخر فقد قرأت له كتابا تحدث فيه عن علماء قطر الذين أدركهم وجالسهم، وأهمهما الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، والشيخ عبد الله الأنصاري، فتحدث عن تمكن الشيخ الأنصاري في عدد من العلوم ومنها علم الفلك، وحين كتب عن الشيخ آل محمود فقد أثنى عليه كثيرا ولخص اجتهاداته الفقهية وهي فعلا مفيدة جدا.
ولعله ضم هذه البحوث إلى كتابه “عرفتهم”، وقد كان يكتب عن وفاة معاصريه وعلاقته بهم إلى أواخر حياته، وينشر ذلك في جريدة محلية ثم جمعها في كتاب بهذا العنوان، وهذا نهج درج عليه كثيرون قدماء وأغلبهم من المعاصرين، وهي طريقة مشكورة ومؤثرة.
وللشيخ جانب آخر وهو تمكنه الأدبي أسلوبا وكتابة، وقبل ذلك مشاركة في وجوه عديدة من صنوف الأدب فقد كتب عن الفن وكتب الشعر والمسرحية، وكنت قد شاركت حين كنت طالبا في الجامعة في تمثيل مسرحيته: “عالم وطاغية” وهي عن الحجاج وسعيد بن جبير.
وكتب مذكراته في أربعة مجلدات، وهي ممتعة وأحد صنوف الأدب لمن أحسن صياغتها.
أما الشعر فكتبه ومنه قصائد جميلة، وقد غلب علمه وفقهه على مزاجه الشعري والأدبي، فحرمه من الإخلاص للشعر، والشعر مثل العلم، لا يعطيك منه ما لم تعطه كلك.
وقد عرفت من معارف له ومن مقربين أنه رحمه الله كان يعين عددا من الدعاة والمثقفين المحرومين، وكانت تأتيه صلات فيوزع منها على معاصرين مشاهير محتاجين، لا داعي للحديث عن من أعرف منهم الآن، وأعرف عن رعايته المشكورة لمشاريع مهمة، فكانت يده مبسوطة بالعطاء لمحتاجيهم، ولا عجب فلم يغب عنه كرم الليث بن سعد العالم الشهير المعاصر لمالك وقد كان يهبه سنويا ألف دينار، وهو فقيه من بلده، ولا غاب عنه كرم كثيرين من السلف والخلف، ولا كرم ابن باز معاصره وصديقه.
أما عن تأثيره على الخاصة والعامة فلا يختلف فيه اثنان، والشيخ سلمان العودة بعد سجنه الأول حين خرج ذهب للقرضاوي، وأخبره وقد سمعت هذا من غيره قال للقرضاوي إنه شيخه وأنه سائر على منهجه.
وكان الشيخ سلمان قرأ في السجن تراث الشيخ وتراث الشيخ محمد عبده وتأثر بالمدرسة الإصلاحية وفكرها التي يمثل القرضاوي أبرز روادها المعاصرين، أما عموم الناس فيكفي أن تسمع ذكره واتباع فتاويه والإقبال على برنامجه في حياته وتقديره بعد وفاته.
وللحديث عن دور المثقف في شخصيته فذلك ما لا يغيب عن ملاحظ، فقد تجاوز دور الفقيه أو دور المفتي إلى دور المثقف المدرك لعصره والعامل المؤثر فيه وأيد وناصر كثيرين ممن لهم عمل مشهود مشكور فناصر كثيرا من المظلومين إن لم يكن ماليا فسياسيا وإعلاميا، وبالرغم من قربه من الشيخ حمد بن خليفة أمير قطر وقتها فكان يصرح على الإعلام بما لا يتفق معه عليه، ذلك بالرغم من كونه مصريا متجنسا، فقد حمته قطر، غير أن مروءته وأمانته لم تمنعه من أن يقول برأي يخالف رأي الأمير أو قراره، وكان من سمو وسعة أفق الأمير وتقديره للكبار أن لم يخط خطوة تضر بالشيخ، بل كان يبالغ في تقديره ويدعمه بشتى وجوه الدعم المالي والعلمي، ويعترف للشيخ بالفضل والنبوغ، وكما يختلف معه فإنه يقدره، وتلك مواقف لا يصبر عليها إلا الكبار الكبار، الذين يتعايشون مع مخالفيهم بسعة صدر، وتلك مواقف وقصص موثقة عند الناس اليوم.
أما عن بلاغته فما شهدت لها مثيلا، ذهب مرة لمصالحة مختلفين في ليبيا، ونقلت الجزيرة اللقاء، فما أدري أأعجب من فصاحته أم من مهارته السياسية أم من استحضاره للأدلة قرآنا وسنة، وبعض الناس يؤتى سرعة في البديهة والفطانة ما يشق على سواه، وما هزني موقف كهذا إلا موقفا شهدته في قاعة كلية الصيدلة في “جامعة الرياض”، الاسم القديم لجامعة الملك سعود، فقد قدم فيها الشيخ محمد قطب محاضرة، مؤثرة غالبها شفهيا، ثم قدم له عميد الكلية آنذاك هدية وشكرا إثر المحاضرة، فرد على العميد شاكرا بكلام موزون دقيق بليغ، وكان متجها للعميد فتوقعته يقرأ من ورقة معدة لهذا، ولكنه التفت إلينا وأكمل حديثه، مما زاد من عجبي وتقديري له.
ولا نستغرب وجود هذه القامات الخارقة بكفاءتها العصور، وما كان يذكر بين الناس إلا من يستحق الذكر، قبل ظهور جماعات الحمقى على وسائل التواصل المعاصرة.
وأذكر مرة أن والد الشيخ عائض القرني وكان رجلا فاضلا متدينا، قال مرة بعد أن سمع ثناء على الشيخ سعيد بن مسفر فعقب: “لا يذكر إلا شيء” وسيبقى ذكر القرضاوي مثقفا رائدا ومصلحا بارعا، وحق له وعليه أن يختلف الناس فيه ما بين مادح وقادح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق