كيف رتب القرآن قضايا الإيمان؟
ما لا يدركه كثيرٌ من أهل الإيمان أنّ قضايا الإيمان لها ترتيب، وإدراكُ هذا الترتيب مفيدٌ في تمتين البرهان وتقوية الاستدلال، وفي تحصين العقول والقلوب من التّشَتُّت والتمزق، وتَكْمُنُ الحكمةُ في هذا الترتيب الربّانيّ في أنّ العقل الإنسانيّ له طاقة محدودة ووظيفة مُحَدَّدة، فإذا تُرك هذا العقل ليسبح في فضاء سوفسطائيّ؛ فسوف يترتب على تجديفِهِ أمران غايةً في الخطورة، الأول: التبديدُ فيما لا يجدي ولا يفيدُ للطاقة العقلية المحدودة التي يجب أن تُسَخَّر في أدوار عظيمة لها تَعَلُّقٌ بوظيفة الإنسان، الثاني: ضياعُ الوظيفة التي خُلِقَ الإنسانُ وأُسكن الأرض لأجلها: العبادة والعمارة.
أمهات القضايا وجذور المسائل
ونستطيع أن نقول -ودليلنا على ذلك الاستقراء التام لآيات الكتاب- إنّ الإيمانَ بالله، وبربوبيته وألوهيته ووحدانيته وكماله، والإيمانَ باليوم الآخر إجمالًا، والإيمانَ بالوحي والرسالة، وبأنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم مرسلٌ من عند الله بشريعة عالمية، وبأنّ القرآن كلام الله ووحيه، نستطيع أنّ نقول -ونحن مطمئنون- إنّ هذه القضايا هي أمهات قضايا الإيمان، ومعها قضايا مفصلية تقع بين الاعتقاد والعمل، تتعلق بالإجابة على الأسئلة الكبرى الفطرية، كسؤال الغاية من خلق الإنسان، وتتعلق كذلك بترتيب المسؤولية على الإنسان، فالدين ضرورة، والإنسان لم يخلق عبثًا ولم يرك سدًى.
هذه القضايا يُبْنَى عليها بنيانُ الإيمان، لذلك فإنّ استدلال القرآن عليها بالأدلة المنهجية قويٌّ، فما أغْزَرَ الآيات القرآنية التي تسبح بالعقل الإنسانيّ في الآفاق والأنفس؛ على متن المنهج التجريبيّ القائم على أدوات الإدراك “السمع والبصر والفؤاد”؛ لإثبات الربوبية! وكذلك ما أكثر الآيات التي تستدل على الوحدانية بالأدلة القياسية والاستقرائية! وما أحكَمَ الاستدلال على اليوم الآخر في القرآن عن طريق البرهنة على حقيقتين متكاملتين: إمكان البعث وضرورته! وهكذا في كافّة المسائل.
عقلانية الإيمان بالغيب
فإذا استقرّ الإيمان بالقضايا الكبرى عن طريق البرهنة المحكمة؛ صارت هذه القضايا قاعدة يبنى عليها التسليم، الذي يتمّ ويكمل بتصديق الخبر والاستسلام للأمر، وبهذا يتبين لنا أنّ الإيمان بالغيب – بلا خوض في تفاصيله – أمرٌ عقلانيٌّ في النهاية، لأنّ العقلَ إذا قادَنا من خلال النظر في هذا الكون وفي القرآن، ومن خلال البرهنة العقلية المنهجية، إلى الإيمان بالله وبرسوله وبكتابه؛ فقد وصل بنا إلى المنبع الذي لا سبيل إلى عدم الوثوق به، ولا مناص من الوقوف عند ما أوقفنا عنده؛ لذلك كان الإيمان بالغيب صفة جوهرية في أهل الإيمان، لأنّها من جهة تُعَدُّ استسلامًا لله، الذي آمنوا به عن قناعة عقلية وبرهنة سليمة، ومن جهة أخرى تُعَدُّ استقامة على الجادة؛ إذْ تُهيئ الإنسان للانطلاق في وظيفتي العبادة والعمارة، والإيمان بالغيب هو الإيمان بكلّ ما أخبر به الوحي مما غاب عنَّا.
وقد تتفق نظرية المعرفة في الإسلام مع الحداثة في عدم جدوى إقحام العقل في تلك المساحات الغيبية المجهولة، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك الخوض البائس الذي يبدد الطاقة الذهنية ويشغل العباد عن دورهم في الحياة ويملأ قلوبهم شكًّا وارتيابا، من ذلك نهيه عن الخوض في القدر، فقد “خرج على أصحابه، وهم يختصمون في القدر، فكأنما تفقأ في وجهه، حب الرمان من الغضب، فقال: “أبهذا أمرتم؟! تضربون القرآن بعضه ببعض؟! بهذا هلكت الأمم قبلكم”، لكنّ الإسلام – إذْ أبى على العقل هذا الخوض الأخرق وهذه المغامرات الحمقاء – لم يتركه تجاه الأمور الغيبية حائرا تائهًا ضالا، وإنّما أرشده إلى الطريق الآمن للمعرفة المتعلقة بالغيب كله، وهو التسليم لخبر الوحي، بعد التأكد بطريق العقل من أنّه وحيٌ حقًّا وصدقًا، وإنَّ العقل الذي يقودنا عن طريق النظر في الكون إلى الإيمان بالله تعالى هو ذاته الذي يقودنا بالنظر في حال النبيّ، وفي مضمون رسالته، ومدى استعصاء هذا المضمون على وصم الافتراء، وفيما أيده الله به من معجزات؛ يقودنا إلى الإيمان بكلمة الله، فإذا آمنّا بها وجب التسليم لمضامينها، والتسليم يكون للخبر وللأمر، يكون للخبر بالتصديق وللأمر بالانقياد.
لا سبيل في الغيبيات إلّا الردّ إلى الوحي
وليس من العقل أن نزج بالعقل في بحر لجيّ، شديدِ الاتساع لا يتناهى، بعيدِ الأعماق لا يُسْبَر غورُهُ، غارقٍ في الظلمة يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب؛ فإنّ العقل لم يخلق لهذا، وإنّما خُلِقَ ليسبح راشدًا في فلكه تحت قُبّة هذا الكون كما تسبح سائر الأجرام، ولَئِنْ كان فلكُه أوسع ومدارُه أرحب؛ فإنّه مع ذلك محدود بحدود هذا الكون، وهذا أمر فطريّ طبيعيّ؛ وقد سَلَّم بهذا فحول الفلاسفة المعاصرين من لدن بيكون الذي أقام المنهج التجريبيّ على أنقاض المنطق الأرسطي.
فقد شهد “إيمانويل كانْط” في كتابه “نقد العقل الخالص” بأنّ قدرات الإنسان العقلية محدودة؛ فلا يمكن لمجهوداتنا الذهنية الخوض في أمور لا قبل لها بها، و قرر أنّ العقل غير قادر على ولوج هذه الفيافي المجهولة والأدغال الموحشة، وبرغم تأسيسه للإلحاد أكّدَ “ديفيد هيوم” في كتابه “مبحث في الفاهمة البشرية” أنّ على العقل الإنسانيّ أن يتواضع، ومِنْ قَبْلُ رأينا “فرنسيس بيكون” في كتابه “الأورجانون الجديد” يحمل حملته على الذين يريدون أن يقفزوا وراء الطبيعة بجدلهم الكلاميّ.
لا جدوى – إذن – من الخوض فيما لا قِبَلَ للعقل به وما لا مدخل له في اختصاصه، ولا قيمة لإنهاك العقل وإرباك الفكر بالبحث في تفاصيل القضاء والقدر والخير والشرّ، ولا سبيل إلا بالوقوف عند ما أوقفنا الوحي عنده، وهذا أمر عقلانيٌّ إلى أبعد مدى؛ لأنّ ترتيب القرآن لقضايا الإيمان على النحو الذي بيّنّاه يجعل إحالة ما لا علم لنا به من القضايا المعقدة على ما نعلمه ونستيقنه سبيلًا قويمًا للمعرفة، وقد أشار فيلسوف العلوم “كارل بوبر” إلى هذه المعادلة – وإنْ كان يقصد بها ميدانا آخر غير الغيبيات – فقال: “إنّ الإدراكَ الحِسِّيِّ هو معرفة مباشرة نستطيع بواسطتها تبرير معرفتنا غير المباشرة”، فالمعرفة التي ندرك بها ربوبية الله وصدق الرسالة وصحة الوحي تقودنا إلى التسليم بما اشتمل عليه الوحي مما نطلق عليه عادة (الغيبيات – السمعيّات)، والله تعالى أعلم وأحكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق