الخميس، 14 نوفمبر 2024

ما يخفيه سباق التسلح بين الجزائر والمغرب؟

 

ما يخفيه سباق التسلح بين الجزائر والمغرب؟

محمد الشرقاوي
عضو سابق في لجنة الخبراء في الأمم المتحدة..



ثمة قرينة عضوية بين لعنة الجغرافيا السياسية “Geopolitics”، وتأجج الصراعات والمواجهات المسلحة، في أغلب الحالات، عندما تتصدع علاقات الجوار بين الدول، وتميل خطاباتها إلى تكريس منظومة عدائية متنامية. وعندما صاغ عالم السياسة السويدي رودولف كيلين   Rudolf Kjellénمصطلح  “Geopolitics” للمرة الأولى في أوائل القرن العشرين، كان يدرك أن الجغرافيا ليست مجرد خلفية للسياسة الدولية، بل هي “محدد أساسي لسلوك الدولة”.

بعد ثمانية عقود، قام عالم السياسة صموئيل هنتنغتون Samuel Huntington بتحليل ثلاثة عشر من سباقات التسلح، وحدد مجموعتين من العلاقات بينها وبين تأجج الحروب: “هناك علاقة عكسية بين طول سباق التسلح واحتمال أن ينتهي بالحرب. هذا لأن نقطة خطر، وأحيانا نقطتين، تحدثان في بداية كل سباق. بمجرد أن تبدأ الدولة تحديا من خلال إطلاق عملية الحشد، يجب على الدولة التي تواجه التحدي أن تقرر ما إن كان يمكنها الحصول على حلفاء و/أو نشر أسلحة كافية لاستعادة التوازن العسكري السابق. إذا وجدت الدولة المعادية أنها لا تستطيع، فقد تستنتج أن شن حرب وقائية هو أفضل خيار لها”. وفي سبتمبر 2022، توصلت مجموعة دراسات أوكسفورد أنلاتيكا Oxford Analytica  إلى أن الصراع بين الجزائر والمغرب “احتمال وارد.”

تلقي لعنة هذه الجغرافيا السياسية حاليا أيضا بظلالها على بال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ومبعوثه الشخصي إلى صراع الصحراء ستيفان ديمستورا، الذي استرعى -خلال إفادته في مجلس الأمن الدولي في نيويورك يوم 16 أكتوبر 2024- الانتباه ضمنيا إلى أن قضية الصحراء تتعلق بطموحات أطراف مباشرة، وأخرى غير مباشرة. 
وأوضح أن التصدع الأمني والقطيعة الدبلوماسية بين الجارين يزيدان الطين بلة”، وأن “الوضع الحالي بين الجزائر والمغرب، مع قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين ومظاهر التوتر الأخرى، ذلك يشكل مصدر قلق مستمر، ولا يساعد في حل قضية الصحراء الغربية” (الفقرة 8).

التصعيد في مثلث مسموم
استرعيت الانتباه في الأعوام الثلاثة الأخيرة إلى ما يشكل حربا باردة بين الجارين، منذ إعلان الجزائر القطيعة الدبلوماسية مع المغرب في أغسطس 2021، وأيضا عقب زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس للرباط أواخر نوفمبر 2021 لتوقيع “مذكرة التفاهم”، وهي الأولى من نوعها بين إسرائيل ودولة عربية، لتزويد المغرب بمعدات، وإجراء تدريبات عسكرية مشتركة، وتعزيز التعاون الاستخباراتي في سياق اتفاقات أبراهام على مرامٍ إسرائيلية على المديين المتوسط والبعيد في غرب المتوسط.

كتبت وقتها مقالة استشرافية بعنوان “لا أريد حربا عراقية- إيرانية بين الجزائر والمغرب” (30 ديسمبر 2021)، حول مسعى المغرب لتعزيز قدراته الجوية بطائرات مسيرة وأدوات تصويب الأهداف على الأرض من إسرائيل، فيما تعتبر الجزائر- التي تظل من دول المواجهة- التقارب المغربي الإسرائيلي جلبا لـ”مؤامرة صهيونية” إلى حدود أراضيها.

ذكرت صحيفة “لكسبريسيون” (L’Expression) في باريس أن “الموساد بات قريبا من الحدود الجزائرية، ما سيخلف عواقب جيو-سياسية وخيمة على أمنها”. فوصل الجوار الجزائري المغربي خريف السياسات المتنافرة وإنتاج العدائية المتبادلة بشكل متواتر، فيما يغلب منطق التشنج، وتضيع البوصلة، بفعل التشبع بضرورة التسلح والقطيعة والترويج لخطاب “صراع وجودي”، في جوار سرمدي أزلي بحمرة الأرض وزرقة البحر وصفاء السماء المشتركة، وإن انتفخت أوداج الأنفة السياسية في الجزائر والرباط.

أقتبس من مقالتي: “ثمة قاعدة متداولة في تحليل الأزمات والصراعات، تقضي بقراءة مؤشرات الإنذار للاستشراف المبكر لنشوب مواجهات مسلحة محتملة. وبين الجزائر والمغرب خمسة متحورات سياسية سلبية: 
1- تزايد وتيرة التسلح لدى الطرفين. 
2- القطيعة الدبلوماسية التي أعلنتها الجزائر إزاء المغرب. 
3- رفض الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أي مصالحة خليجية، أو إدراج الخلاف مع المغرب في اجتماع وزراء الخارجية في الجامعة العربية، ودخول أطراف خارجية على الخط لتعميق هوة الخلاف، ورفع مستوى التصعيد والاستغلال الاستراتيجي للأزمة. 4- سوداوية المناخ السياسي الإقليمي. 
5- تردي الانطباعات السلبية في الخطاب الإعلامي لكلا الطرفين، خاصة منذ قبول الرباط التطبيع مع إسرائيل في العاشر من ديسمبر 2020”.

يقول المحلل العسكري الأمريكي جي فيغورسكي  Jay Figurskiفي دراسته بعنوان Cold War in Africa: Morocco and Algeria”” (الحرب الباردة في أفريقيا: المغرب والجزائر) المنشورة في مارس 2024: إن “الحشد العسكري ليس السبب الوحيد لتصاعد التنافس في السنوات الأخيرة، بل ظهرت أيضا عدة عوامل عززت الموقف الدبلوماسي للجزائر: كان الغزو الروسي لأوكرانيا سببا في إرغام أوروبا على البحث في أماكن أخرى عن أمن الطاقة، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالغاز الطبيعي. وكان هذا بمثابة مكاسب غير متوقعة للجزائر، الغنية باحتياطيات الغاز الطبيعي، والقريبة نسبيا من أوروبا”.

أصبح سباق التسلح بين الجارين الجزائر والمغرب استراتيجية تنافس معلن بميزانيات مالية مرتفعة لدى الطرفين. وشرع المغرب في برنامج التحديث العسكري المعروف باسم “رؤية 2030″، بهدف أن يصبح قابلا للتشغيل المتبادل مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. وخصص 17 مليار دولار للبرنامج، وقد حصل بالفعل أو التزم بالحصول على دبابات أبرامز من طراز M1A1، وأنظمة صواريخ مدفعية عالية الحركة (HIMARS)، ومقاتلات من طراز F-16، وطائرات دون طيار من طراز MQ-9B Guardian وغيرها. هي المورد الرئيسي لأنظمة الأسلحة للتحديث العسكري في المغرب، لدرجة أن الجيش المغربي عام 2030 سيكون بمثابة انعكاس على نطاق صغير للجيش الأمريكي، وفق بيانات جمعية الجيش الأمريكي. ومما يزيد في هذا التوجه تصنيف المغرب حليفا للولايات المتحدة من خارج الحلف منذ 2004.

في المقابل، سعت الجزائر جادة لتطوير ثاني أكبر جيش دائم في أفريقيا (بعد مصر)، ولديها أكبر ميزانية دفاعية في القارة، بمجموع 16.7 مليار دولار عام 2023. وقد حصلت على ما يقرب من 75% من ترسانتها من روسيا أولا، والصين ثانيا. ومن تجليات سباق التسلح والتحديث العسكري الذي يبلوره المغرب مع الولايات المتحدة، وقّعت الجزائر صفقة ضخمة مع روسيا عام 2022 لشراء غواصات، وطائرات شبح Su-57 (سوخوي)، وقاذفات Su-34، ومقاتلات Su-30. كما تأمل في الحصول على أنظمة دفاع جوي جديدة مثل S-400 وViking وAntey-4000.

تتقاطع لعنة سباق التسلح مع تقلبات الجغرافيا السياسية، وتداعيات اتفاق التطبيع الإبراهيمي بين الرباط وتل أبيب أكثر فأكثر. ويخلص معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام SIPRI إلى أن الجزائر والمغرب مسؤولان عن نسبة 74% من إجمالي الإنفاق الدفاعي في شمالي أفريقيا. وسينضم المغرب قريبا إلى عضوية مجموعة الدول الأفريقية التي تصنع طائرات مسيّرة عسكرية. وقد جاء هذا الإعلان ضمن ما صرح به رونين نادر، مؤسس ورئيس الشركة الإسرائيلية “بلوبورد للأنظمة الجوية” (Blue Bird Aero Systems)، التي تنتمي جزئيا إلى شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية المملوكة للدولة.

في المقابل، وضعت الجزائر نفسها في موقع يجعلها أبرز سوق دفاعي في أفريقيا، وسادس أكبر مستورد للأسلحة في العالم. توفر صناعة الدفاع المحلية الصغيرة في الجزائر الأسلحة الخفيفة في وسائل النقل البري، والمتفجرات والسفن الحربية والأسلحة المرخصة من روسيا والصين. ومن المتوقع أن تنمو الصناعة إلى 11.9 مليار دولار بحلول عام 2023، مع وصول النفقات إلى 12.1 مليار دولار بحلول عام 2025.

يميل الرأي السائد في أدبيات مخاطر التسلح إلى أن الأسباب الخارجية تفسر سباق التسلحـ الذي تتفاعل فيه الدول مع التهديد الذي يشكله تكديس الأسلحة لدى الخصم. وعلى سبيل المثال، يقول باري بوزان وإريك هيرينغ في كتابهما “ديناميكية الأسلحة في السياسة العالمية” (The Arms Dynamic in World Politics): إن “الافتراض الأساسي لنموذج الفعل ورد الفعل هو أن الدول تعزز تسليحها بسبب التهديدات التي تتصورها من الدول الأخرى. وتشرح النظرية التي ينبني عليها النموذج ديناميكية الأسلحة على أنها مدفوعة بشكل أساسي بعوامل خارجية عن الحالة”.

جوار خشن.. وقطيعة لاعقلانية
لا غرابة أن يتحور الخلاف الجزائري المغربي المزمن من سيئ إلى أسوأ، منذ أن قرر القادة الجزائريون القطيعة الدبلوماسية، وهي كناية عن جوار خشن في شمالي أفريقيا، يطل على الشواطئ الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. وفي ظل المستويات الجديدة من التصعيد الكامن، والرغبة في تجميع المزيد من الأسلحة الروسية في الجزائر، والمزيد من الأسلحة والتكنولوجيا الأمريكية والإسرائيلية في المغرب، اعتدّ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بالقول إن العلاقات المتدهورة بين البلدين الجارين، عام 2023، وصلت إلى “نقطة اللاعودة”.

علاوة على ذلك، فإن الحدود الجزائرية المغربية، التي يبلغ طولها 1427 كيلومترا، والتي تمتد من البحر الأبيض المتوسط في الشمال، إلى النقطة الثلاثية مع الصحراء الغربية في الجنوب، لا تزال مغلقة رسميا أمام جميع الرحلات منذ عام 1994.

تمثل هذه التطورات تراجعا عن معاهدة “إفران”، الموقعة في يناير 1969 بين حكومتي الرئيس الجزائري هواري بومدين والملك المغربي الحسن الثاني. وقد وفرت هذه المعاهدة إطارا للتعايش السلمي والتعاون وحل النزاعات بين الجزائر والمغرب لعقود من الزمن. وركزت على ترسيم الحدود، وتوضيح المطالبات الإقليمية، وإنشاء آليات للإدارة المشتركة للموارد المشتركة.

يساهم غياب قنوات الحوار بين الجزائر والرباط في تكريس التأويلات المتباعدة، وتضخيم تفكير المؤامرات المتخيلة أكثر من حقيقة المواقف المتبادلة. ويجسد الموقف الراهن بين الجارتين مدى الانغماس اللاعقلاني في منطق الانطواء ضمن محاور متقابلة، وما يدور في خلد النخب السياسية والعسكرية بأنه “جوار ميت”. ويرتفع مستوى التسلح وتدخل مواقف التصعيد مرحلة التلويح بالعدائيات المفترضة وإسقاطاتها غير الواقعية أكثر من طبيعة التهديدات القائمة، وفسح الطريق أمام استراتيجية إسرائيل -أكثر من أي قوة إقليمية أو دولية- في المنطقة. ويفاخر الموقف الرسمي الإسرائيلي بمقولة “إسرائيل والمغرب شريكان مهمان في المحور البراغماتي الإيجابي، مقابل المحور المعاكس الذي تشارك فيه الجزائر وإيران”.

من تجليات مقولة رودولف كيلين إن الجغرافيا السياسية “محدد أساسي لسلوك الدولة” إعلان المغرب ما سميت “المبادرة الأطلسية”، في 6 نوفمبر 2023، لمساعدة بلدان الساحل الأفريقي على الوصول إلى المحيط الأطلسي، خاصة دول مثل مالي وتشاد والنيجر وبوركينافاسو. هي لعنة جغرافيا سياسية مع الجزائر، يأمل المغرب في تحويرها إلى نعمة جغرافيا سياسية بديلة من حيث تعزيز دوره في منطقة الساحل والصحراء، بعد تراجع فرص انضمامه إلى المجموعة الاقتصادية لدول غربي أفريقيا (ECOWAS)، إذ حاول “استغلال التفكك التدريجي للمجموعة، بعد انسحاب بوركينافاسو والنيجر ومالي، في تشكيل تكتل إقليمي بديل يضم 85 مليون نسمة”، كما يقول عبد الرفيع زعنون في دراسته “المبادرة الأطلسية: رهانات تموقع المغرب بمنطقة الساحل والصحراء” (أكتوبر 2024).

تتعطل ملكة الحوار والإنصات بين الجزائر والرباط، ويتراجع مستوى الثقة في الآخر، وتغلب صناعة العداء المتخيل على يقينية الجزائريين بمواقف المغاربة وثقة المغاربة بجيرانهم الجزائريين؛ فتخرج العلاقات الثنائية من وضعها الطبيعي لقرون، وتحيد عن ثنائية التقابل واحتواء المواقف؛ فتصبح لعنة نتنياهو وكوشنير، وشبح الطرف الغائب في تل أبيب هما اللذان يتحكمان في تعميق فجوة التنافر بين الجارين.

هكذا تنتحر الدبلوماسية، وتلطم الجغرافيا السياسية المغاربية على خديها، بعد أن فقدت -بكل أسف- قدرة التحكم الذاتي في إدارة حاضرها، وفي رسم مستقبلها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق