مساندة غزة الآن أهم من قرار الجنائية الدولية
سنقر بما قاله السياسيون الذين أشادوا بقرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الدفاع السابق لما قاموا به من جرائم، وأنه قرار غير مسبوق تاريخيا ويضر بالصورة الذهنية الحضارية التي بنتها إسرائيل عبر عقود، خاصة في الدول الغربية الداعمة لها على طول الخط، لكن صوت الحقيقة يجب ألا يذهب بنا بعيدا للعيش في التوقعات الإيجابية التي يمكن أن تسفر عن قرار الاعتقال، من احتمالات تعليق دول لعلاقتها بإسرائيل ولو مؤقتا، أو وقف تصدير السلاح لها أو طردها من الأمم المتحدة.
ويجب أن نقر أيضا بالموقف الحالي الذي تستمر فيه عمليات الإبادة الجماعية والتجويع مع سكان غزة خاصة في الشمال المُحاصر بشدة منذ ستة أسابيع، وسط صمت وتخاذل وتآمر عربي وإسلامي لم يعد يخفى على أحد، وموقف أمريكي منحاز بشدة يعطل قرارا لمجلس الأمن لوقف القتال، ويستمر في الدعم المالي والعسكري لإسرائيل، وموقف أوروبي باهت يميل إلى إسرائيل، فلا يجب أن ننساق إلى أوهام أن هولندا قد أعلنت أنها ستقوم بتسليم نتنياهو وغالانت إذا ذهبا إليها.
فهولندا هي دولة المقر لكل من المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية ولا بد أن تبرر وجود المحكمتين على أرضها، ولا ننسى أنها قد اعترضت منذ أيام قليلة مع غيرها؛ على دعوة مسؤول الشؤن الخارجية للاتحاد الأوروبي لتجميد العلاقات التجارية بين الاتحاد وإسرائيل حتى تُوقف الحرب. واذا كان رئيس وزراء المجر قد صرح بأنه سيدعو نتنياهو لزيارة بلاده رغم قرار المحكمة الجنائية، فإن الموقف الحقيقي لباقي بلدان الاتحاد مشابه لموقفه باستثناءات قليلة منها أيرلندا وإسبانيا والنرويج.
ولا نريد أن نسترسل في توقع الضغوط التي ستمارسها الولايات المتحدة على الدول الأعضاء في اتفاقية روما لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، في حالة زيارة المسؤولين الإسرائيليين لها، حيث تفتقر المحكمة الجنائية الدولية لشرطة خاصة تمكنها من تنفيذ قرارها وتعتمد على تعاون الدول الأعضاء لتنفيذ قراراتها. وقد فشلت المحكمة في تنفيذ قرارها باعتقال الرئيس السوداني السابق عمر البشير، رغم عدم تمتعه بالحماية الأمريكية والأوروبية التي يتمتع بها قادة إسرائيل، وحتى باعتقال سيف القذافي الأقل نفوذا بعد مصرع والده.
توقع مزيد من التصعيد الإسرائيلي
كذلك يعوّل البعض على إمكانية تسبب قرار الاعتقال في عدم استمرار نتنياهو في منصب رئاسة الوزراء، حيث أن الأكثر توقعا هو العكس تماما، حيث سيزيد التفاف الإسرائيليين حولة باعتباره بطلا قوميا يضحي من أجل إسرائيل، وها هي المعارضة الإسرائيلية تستنكر قرار الاعتقال رغم خلافها معه.
وهكذا يصبح من واجب الوقت السؤال: هل سيساهم قرار الاعتقال في سرعة وقف الحرب في غزة ولبنان؟ أم أن العكس هو المرشح للحدوث بالمزيد من المجازر سواء في غزة أو الضفة الغربية أو لبنان وربما في إيران، لمحاولة الحصول على أية مكاسب تعزز مكانة نتنياهو في الداخل الإسرائيلي؟
صحيح أن الصراع مع إسرائيل طويل الأجل ويحتاج إلى العمل على كافة الجبهات السياسية والقانونية والإعلامية والدبلوماسية وجمعيات حقوق الإنسان إلى جانب العمل العسكري، لكن الشهداء يتساقطون في غزة ليس فقط بسبب القصف الجوي والبري والبحري، ولكن أيضا بسبب الجوع ونقص العلاج، مما يجعل تفعيل النهج الرباني بالدعوة إلى إطعام المسكين واجبا جماعيا، والذي تكرر في سور القرآن الكريم وتوعد الله تعالى تاركه بالويل والعذاب: "أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ" (الماعون: 1-3)، "وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ" (الفجر: 18)، و"إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ" (الحاقة: 33-34)، و"وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرا" (الإنسان: 8).
المعاناة تشتد بغزة مع الشتاء
ويصبح واجب الوقت هو السرعة لتخفيف معاناة غزة خاصة في الشمال المُحاصر، بإمداده بالطعام والدواء والكساء مع دخول فصل الشتاء، حيث يجتمع ألم الجوع مع ألم البرد والأمطار الساقطة عبر أسقف الخيام، لتعزيز صمود سكانها الذين تحمّلوا أكثر مما يطيق البشر، وتمسكوا بأرضهم رغم القصف المستمر وتوالي سقوط الشهداء الذين وصل عددهم إلى 44 ألف شهيد غالبيتهم من الأطفال والنساء والشيوخ، بخلاف الموجودين تحت الأنقاض في أنحاء القطاع ولا توجد إمكانيات آلية لدى الدفاع المدني للكشف عنهم.
لذا فإن البحث عن سبل لإدخال الطعام والشراب إلى غزة ومنع الاستيلاء على شاحنات السلع هو واجب الساعة لدى الشعوب العربية والإسلامية، مع القناعة التامة بتآمر دول الجوار العربية ضدهم وسعيها للضغط عليهم من خلال منع الطعام والدواء والوقود للاستسلام، وهو ما طلبته الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية منها، إلى جانب تطوع البعض للقيام بالدور نكاية في المقاومة وكراهية لها، بعد أن عرتهم وكشفت وهنهم أمام العدو الصهيوني، والذي أصبح واضحا أنه لم يكن يستطيع الصمود أمام المقاومة لولا الدعم الأمريكي والغربي المستمر.
لا نعول كثيرا في الأجل المنظور على قرار المحكمة الجنائية الدولية في عالم المعايير المزدوجة، حيث احتاجت المحكمة إلى 412 يوما لإصدار قرارها بشأن غزة، وهي فترة أطول مما احتاجته لإدانة الرئيس الروسي بوتين، حتى إن البعض يعتقد أن قرار المحكمة الجنائية باعتقال نتنياهو وغالانت جاء لغسل سمعة المحكمة، بعد هذا العدد الهائل من الضحايا في غزة، وسعيها لإعادة الثقة الدولية بدورها خاصة بين الرأي العام العالمي.
نعم هي خطوة جيدة، لكنها تأخرت كثيرا وثمارها تحتاج لوقت وصبر ولا يجب أن تجعلنا نغفل عن واجب الوقت.
x.com/mamdouh_alwaly
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق