عن كرياكو وميرشايمر
جعفر عباس
جون كرياكو، علم أمريكي على رأسه نار مستحقة، فقد عمل طويلا في مجال تحليل المعلومات وملاحقة "الإرهابيين" لحساب جهاز المخابرات الأمريكية (سي آي إيه)، واستحق الشهرة، لأنه
ـ أولا ـ من ألقى القبض، في باكستان، على أبو زبيدة (زين العابدين محمد حسين ـ فلسطيني)، في آذار/ مارس من عام 2002، والذي كان يعتبر الرجل الثالث في تراتبية تنظيم القاعدة، ثم ذاع صيت كرياكو أكثر فأكثر، عندما تحدث عبر وسائل الإعلام عن تعرض أبو زبيدة لتعذيب شديد القسوة، خاصة بالإيهام بالغرق، بأن يغطس حراس سجن غوانتنامو، حيث تم احتجاز أبو زبيدة، رأسه في الماء (ثبت أنهم فعلوا ذلك به 83 مرة في الشهور الأولى لاعتقاله)، وأكد كرياكو أن التعذيب لم يؤد إلى حصول المخابرات الأمريكية على أي معلومة ذات قيمة من أبي زبيدة، مشيرا أنه كمسؤول المخابرات الذي طارد أبو زبيدة ثم اعتقله، كتب في تقريره عن الواقعة أن أبي زبيدة ليس عضوا في تنظيم القاعدة، بل يعمل على إمداد التنظيم بالسلاح والمعينات الأخرى، بحكم أنه خبِر الأوضاع في أفغانستان وباكستان خلال انضمامه لمجموعات إسلامية مسلحة، نشطت في أفغانستان ما بين 1989 ـ 1992، وحوكم كرياكو بتهمة إفشاء أسرار جهاز المخابرات، ونال حكما بالسجن لثلاثين شهرا.
عمل كرياكو سنين عددا في الشرق الأوسط في تعقُّب المنظمات الفلسطينية، ثم الجماعات المسلحة التي نشطت في العراق بعد الغزو الأمريكي في 2003، وبعد خروجه من السجن عمل صحفيا وأستاذا جامعيا، ثم محاضرا "متجولا" في شؤون الشرق الأوسط، ثم جاءت حرب إسرائيل على غزة، فصار الرجل واحدا من أقوى الأصوات الأمريكية إدانة لإسرائيل وفضحا ـ بالوقائع والأرقام ـ لسيطرة اللوبي اليهودي على أجهزة الحكم واتخاذ القرار في الولايات المتحدة، وهو اليوم صاحب الصوت الجهور في قنوات التلفزة الأمريكية، لفضح عمليات الإبادة المنهجية في غزة.
وهناك بروفيسور جون ميرشايمر، الأمريكي الذي يعد من بين أشهر خمسة من خبراء السياسة الدولية في العالم، ويحظى بالاحترام والقبول في المؤسسات الأكاديمية والبحثية لمحاضراته الرصينة عن الشؤون الدولية، وذاع صيته أكثر خلال السنوات القليلة الماضية، لأنه يردد عبر مختلف المنابر، أن الغرب لن يكسب الحرب ضد روسيا في أوكرانيا، ثم جاءت الحرب الإسرائيلية على غزة، وظل يقول منذ يومها الأول إن إسرائيل لن تكسب تلك الحرب، وإن الولايات المتحدة غير مؤهلة للوساطة لوقف الحرب، لأنها ضالعة فيها، لكونها من يمد إسرائيل بالسلاح والعتاد، لمواصلة العدوان على غزة والضفة الغربية، وتحظى آراؤه حول حربي أوكرانيا وغزة بالتقدير، لأنه خريج كلية وست بوينت العسكرية وكان ضابطا في سلاح الجو الأمريكي لعدة سنوات، قبل مواصلة مسيرته الأكاديمية في مجال العلوم السياسية، (تأثر بأستاذه صمويل هنتنغتون صاحب مؤلف "صدام الحضارات").
لفت ميرشايمر الأنظار والعقول في عام 2007، بإصدار بيان قوي، هو والبروفسر ستيفن والت، عنوانه "اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية"، ثم ثلاثة كتب تصدرت قوائم الكتب الأكثر مبيعا في بلاده ("مأساة سياسة القوى العظمى"، و"لماذا يكذب القادة: حقيقة الكذب في السياسة الدولية"، و"الواقعية الهجومية الجديدة")، وعلى مدى ال12 شهرا المنصرمة، قام ميرشايمر بتصعيد انتقاده لما أسماه سياسة إسرائيل العدوانية الراسخة على مدى نصف قرن، والإشادة بثبات وصمود المقاومة الفلسطينية في غزة في وجه عدوان وحشي وكاسح تستخدم فيه أحدث أدوات القتل الجماعي.
في السابع من أيلول/ سبتمبر الماضي كتبت هنا مقالا عن عوار الإعلام الفلسطيني، ثم أردفته في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري بمقال عنوانه "سند ضخم ولكن مهمل" قلت فيه فيما قلت، إن كل الشواهد تؤكد وجود سند معنوي قوي للقضية الفلسطينية، في الغرب، "لكنه يبقى افتراضيا، ما لم يتم استثماره بوعي لقلب الطاولة على إسرائيل".
وما عنيته اليوم بالحديث عن الأمريكيين كرياكو وميرشايمر، اللذين يحظيان بالكثير من التقدير في مختلف الأوساط في الولايات المتحدة وخارجها، واللذين يواصلان هز المنابر بانتظام فاضحين غطرسة القوة الإسرائيلية، هو أن العرب لا يحسنون التعامل مع الأصدقاء الغربيين، ذوي الكلمات المسموعة، الذين يناصرون قضاياهم العادلة، ولا أعنى بإحسان التعامل هنا أسلوب "الحوافز المالية" ـ وهي اسم الدلع للرشوة وشراء الذمم، بل استدعاءهم لإجراء حوارات والقاء محاضرات عن القضية الفلسطينية، وحرب غزة في منابر غربية.
وفي حالتي كرياكو وميرشايمر، فقد كان المأمول أن الروابط العربية ـ الأمريكية هي التي تسعى لاستضافتهما لتلك الغايات، ولكنها على دين ملوكها الأصليين، تنافرا وتشتتا وتشاكسا، فاليهود الأمريكان متنافرون ومتشاكسون في أمور كثيرة، ولكن غالبيتهم العظمى تلتقي عند مناصرة إسرائيل ظالمة وباغية، ولم يكن مثيرا للعجب أن غالبية عرب أمريكا صوتوا لصالح ترامب، مرشح الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، في مواجهة كامالا هاريس مرشحة الحزب الديمقراطي، متعللين بأنه كان خيارا بين ابي لهب وحمالة الحطب، ولكن فات عليهم قول العرب: حنانيك بعض الشر أهون من بعض.
فرغم أن حمالة الحطب "هاريس" نائبة الرئيس حاليا، في إدارة ضخت إلى إسرائيل أسلحة بقيمة تناهز الـ14 مليار دولار خلال عام واحد، إلا أن أبا لهب التاريخي والأمريكي (ترامب) أكثر ضلالا وعدوانية، فمع بداية الحرب الإسرائيلية على غزة دعا ترامب إلى محو حركة حماس (يعني غزة) من الوجود، ولهذا كان نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية أول من هنأ ترامب على "الانتصار الكبير، وأعظم عودة في التاريخ.. التي تجدد الالتزام القوي بالتحالف العظيم بين إسرائيل وأمريكا".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق