المستبدّ وسياسة إهانة العمائم الموالية له
محمد خير موسى
الأوطان المحكومة بالحديد والنّار، لا تحتمل أهل العلم بعيدي الأفق، عميقي التَّأثير، الذين يدخلون قلوب النّاس دونما استئذان، القادرين على قول لا دونما خوف أو وجل، الحاملين ثقافة التآخي الحقيقي؛ فهؤلاء لا يروقون للمستبدّ في منهجهم وسلوكهم وتوجّهاتهم ولا حتى في صمتهم، فهو يخشى صمتهم كما يخشى صوتهم.
إنَّ الوجه الحقيقيّ للاستبداد، يعتمد قتلَ وحبسَ ونفيَ وتحييدَ كلّ من يمكن أن يعكّر صفو الطاغية وشعوره بالتفرّد، أو زلزلة عرشه بكلمة الحقّ، وهذا يقتضي إزالة كلّ من يمكن أن يشوّش بشكل مباشر أو غير مباشر على ذلك، "وكلّه بما يُرضي الله طبعا".
لذلك، يحرص المستبدّ على الدّوام على إلباس ظلمه وطغيانه ثوب الشّريعة، وتزيين باطله بمصطلحات الفقه، وإكساء استبداده بآيات الكتاب الكريم وسنّة النبيّ صلى الله عليه وسلّم زورا وبهتانا، وتجميل طغيانه بفتاوى العمائم الرّخيصة، التي باعت دينها بدنيا غيرها.
وإنّ من وسائل تأليه الطّاغية نفسه، وتقديسه لذاته، وإخضاعه للمحيطين به، إخضاع العبيد لخالقهم العمائم الوظيفيّة النّاطقة باسم الدّين، والألسنة الدّينيّة التي تمارسُ الفاحشة الفكريّة، وقد بيّن عبد الرّحمن الكواكبي ذلك وهو يفصّل في طبائع الاستبداد، إذ يقول:
"إنَّه ما من مستبدٍّ سياسيّ إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة يشارك بها الله، أو تعطيه مقامَ ذي علاقة مع الله، ولا أقلَّ من أنْ يتَّخذ بطانة من خَدَمَةِ الدِّين يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله، وأقلُّ ما يعينون به الاستبداد، تفريق الأمم إلى مذاهب وشيع متعادية تقاوم بعضها بعضا، فتتهاتر قوَّة الأمّة ويذهب ريحها، فيخلو الجوّ للاستبداد ليبيض ويُفرِّخ".
وما فتئ المستبدُّ حريصا في أحواله كلّها على استخدام الدّين لتمرير ظلمه، فتبادر العمائم الموالية له إلى اعتقال الفقه والتّشريع الإسلاميّ، ووضعه في زنزانةٍ وأخذ الأقوال منه كرها تحت التعذيب، بل أكثر من ذلك، فإنها تجعل التشريع خادما للطاغية، وكم لوت هذه العمائم ألسنتها بآيات الله تعالى تحريفا؛ لتخدم المستبدّ وجرائمه في تسويغها وتشريعها!
فالعمامة التي وقفت أمام سيّد قطب تلقّنه الشّهادتين قبيلَ إعدامه وهو يقولُ لها: أنا أموت لأجل لا إله إلّا الله وأنتَ تأكل بها الفتات على موائد الظالمين؛ لا تختلف عن العمائم التي أفتت للمستبد أن "يضرب في المليان"، ويستبيح الدّماء والأعراض باسم الإسلام؛ فكلّها تستحضرُ المصطلحات الشرعيّة والفقهيّة، وتلوي ألسنتها بالكتاب لتقول هذا من عند الله، وما هو من عند الله؛ وإنّما تفعل ذلك لإعانة الظالم وتسويغ أحكامه الجائرة.
ولئن كانت ردودُ الفعل هي آخر ما يهمّ المستبدَّ حينَ يعمدُ إلى إهانة رجاله، غير أنَّ ردود الفعل الباهتة والباردة وغير المكترثة تغري الطاغية بالسّيرِ قُدما في جريمته، وتعطيه قوّة دافعة لمزيدٍ من التّصرفات، التي لا تتوقّع العمائم الرّخيصة أن تصل الوقاحة بالمستبدّ الوصول إلى فعلها.
فالمستبدّ يتعامل مع رعيّته عموما ومع رجاله المقرّبين منه على وجه الخصوص، ومنهم أهل العمائم المباعة في مزاد النفاق، على أنّهم ثلّةٌ من الرّعاع أو قطيعٌ من الأغنامِ أو فريقٌ من الكلابِ، يجب تعزيرهم وإهانتهم وإذلالهم بين الفينة والأخرى بتوجيه الإهانة إليهم، حتّى لا يستطيع أحدٌ منهم رفع رأسه، وحتّى لا يفكّر أحد من أرباب هذه العمائم أن تتشوّف نفسُه إلى أبعد من مسح حذاء الطّاغية؛ وهنا تكونُ الرّعيّة أمام اختبارها المصيريّ كما قال الكواكبي:
"المستبدّ يودُّ أنْ تكون رعيته كالغنم درّا وطاعة، وكالكلاب تذلُّلا وتملُّقا، وعلى الرَّعية أنْ تكون كالخيل إنْ خُدِمَت خَدمتْ، وإنْ ضُرِبت شَرست، وعليها أن تكون كالصّقور لا تُلاعب ولا يُستأثر عليها بالصّيد كلِّه، خلافا للكلاب التي لا فرق عندها أَطُعِمت أو حُرِمت حتَّى من العظام.
نعم؛ على الرّعية أن تعرف مقامها؛ هل خُلِقت خادمة لحاكمها، تطيعه إنْ عدل أو جار، وخُلق هو ليحكمها كيف شاء بعدلٍ أو اعتساف؟ أم هي جاءت به ليخدمها لا يستخدمها؟ والرَّعية العاقلة تقيَّد وحش الاستبداد بزمامٍ تستميتُ دون بقائه في يدها؛ لتأمن من بطشه، فإن شمخ هزَّت به الزّمام، وإنْ صال ربطتْه".
غيرَ أنّ العمائم الموالية للنّظام عندما تقع عليها الإهانة لا تغضب لنفسها، فضلا عن الغضب لدينها الذي انسلخت منه انسلاخ بلعام بن باعوراء وأحفاده في الفكر والسّلوك، الذين قال الله تعالى فيهم: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ".
بل تقابل إهانتها بالمبالغة في تمجيد الطّاغية، وشكره على إهانتها، وتطلب منه المزيد من حكمته السديدة، وكأنّ عبد الرّحمن الكواكبي يصوّر لنا هذه العمائم وهي تشكر الطاغية على مكرماته التي لا تخلو من إهانتهم، إذ يقول:
"العوام هم قوّة المستبد وقوتُه، بهم وعليهم يصول ويطول، يأسرهم فيتهلّلون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريما، وإذا قتل منهم ولم يمثّل يعدّونه رحيما، ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التّوبيخ".
فماذا يريدُ المستبدّ لتحقيق ساديّته المتعاظمة وسيادته الخُلّبية أكثر من هذه العمائم المهينة؟!
x.com/muhammadkhm
إنَّ الوجه الحقيقيّ للاستبداد، يعتمد قتلَ وحبسَ ونفيَ وتحييدَ كلّ من يمكن أن يعكّر صفو الطاغية وشعوره بالتفرّد، أو زلزلة عرشه بكلمة الحقّ، وهذا يقتضي إزالة كلّ من يمكن أن يشوّش بشكل مباشر أو غير مباشر على ذلك، "وكلّه بما يُرضي الله طبعا".
لذلك، يحرص المستبدّ على الدّوام على إلباس ظلمه وطغيانه ثوب الشّريعة، وتزيين باطله بمصطلحات الفقه، وإكساء استبداده بآيات الكتاب الكريم وسنّة النبيّ صلى الله عليه وسلّم زورا وبهتانا، وتجميل طغيانه بفتاوى العمائم الرّخيصة، التي باعت دينها بدنيا غيرها.
وإنّ من وسائل تأليه الطّاغية نفسه، وتقديسه لذاته، وإخضاعه للمحيطين به، إخضاع العبيد لخالقهم العمائم الوظيفيّة النّاطقة باسم الدّين، والألسنة الدّينيّة التي تمارسُ الفاحشة الفكريّة، وقد بيّن عبد الرّحمن الكواكبي ذلك وهو يفصّل في طبائع الاستبداد، إذ يقول:
"إنَّه ما من مستبدٍّ سياسيّ إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة يشارك بها الله، أو تعطيه مقامَ ذي علاقة مع الله، ولا أقلَّ من أنْ يتَّخذ بطانة من خَدَمَةِ الدِّين يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله، وأقلُّ ما يعينون به الاستبداد، تفريق الأمم إلى مذاهب وشيع متعادية تقاوم بعضها بعضا، فتتهاتر قوَّة الأمّة ويذهب ريحها، فيخلو الجوّ للاستبداد ليبيض ويُفرِّخ".
وما فتئ المستبدُّ حريصا في أحواله كلّها على استخدام الدّين لتمرير ظلمه، فتبادر العمائم الموالية له إلى اعتقال الفقه والتّشريع الإسلاميّ، ووضعه في زنزانةٍ وأخذ الأقوال منه كرها تحت التعذيب، بل أكثر من ذلك، فإنها تجعل التشريع خادما للطاغية، وكم لوت هذه العمائم ألسنتها بآيات الله تعالى تحريفا؛ لتخدم المستبدّ وجرائمه في تسويغها وتشريعها!
فالعمامة التي وقفت أمام سيّد قطب تلقّنه الشّهادتين قبيلَ إعدامه وهو يقولُ لها: أنا أموت لأجل لا إله إلّا الله وأنتَ تأكل بها الفتات على موائد الظالمين؛ لا تختلف عن العمائم التي أفتت للمستبد أن "يضرب في المليان"، ويستبيح الدّماء والأعراض باسم الإسلام؛ فكلّها تستحضرُ المصطلحات الشرعيّة والفقهيّة، وتلوي ألسنتها بالكتاب لتقول هذا من عند الله، وما هو من عند الله؛ وإنّما تفعل ذلك لإعانة الظالم وتسويغ أحكامه الجائرة.
ولئن كانت ردودُ الفعل هي آخر ما يهمّ المستبدَّ حينَ يعمدُ إلى إهانة رجاله، غير أنَّ ردود الفعل الباهتة والباردة وغير المكترثة تغري الطاغية بالسّيرِ قُدما في جريمته، وتعطيه قوّة دافعة لمزيدٍ من التّصرفات، التي لا تتوقّع العمائم الرّخيصة أن تصل الوقاحة بالمستبدّ الوصول إلى فعلها.
فالمستبدّ يتعامل مع رعيّته عموما ومع رجاله المقرّبين منه على وجه الخصوص، ومنهم أهل العمائم المباعة في مزاد النفاق، على أنّهم ثلّةٌ من الرّعاع أو قطيعٌ من الأغنامِ أو فريقٌ من الكلابِ، يجب تعزيرهم وإهانتهم وإذلالهم بين الفينة والأخرى بتوجيه الإهانة إليهم، حتّى لا يستطيع أحدٌ منهم رفع رأسه، وحتّى لا يفكّر أحد من أرباب هذه العمائم أن تتشوّف نفسُه إلى أبعد من مسح حذاء الطّاغية؛ وهنا تكونُ الرّعيّة أمام اختبارها المصيريّ كما قال الكواكبي:
"المستبدّ يودُّ أنْ تكون رعيته كالغنم درّا وطاعة، وكالكلاب تذلُّلا وتملُّقا، وعلى الرَّعية أنْ تكون كالخيل إنْ خُدِمَت خَدمتْ، وإنْ ضُرِبت شَرست، وعليها أن تكون كالصّقور لا تُلاعب ولا يُستأثر عليها بالصّيد كلِّه، خلافا للكلاب التي لا فرق عندها أَطُعِمت أو حُرِمت حتَّى من العظام.
نعم؛ على الرّعية أن تعرف مقامها؛ هل خُلِقت خادمة لحاكمها، تطيعه إنْ عدل أو جار، وخُلق هو ليحكمها كيف شاء بعدلٍ أو اعتساف؟ أم هي جاءت به ليخدمها لا يستخدمها؟ والرَّعية العاقلة تقيَّد وحش الاستبداد بزمامٍ تستميتُ دون بقائه في يدها؛ لتأمن من بطشه، فإن شمخ هزَّت به الزّمام، وإنْ صال ربطتْه".
غيرَ أنّ العمائم الموالية للنّظام عندما تقع عليها الإهانة لا تغضب لنفسها، فضلا عن الغضب لدينها الذي انسلخت منه انسلاخ بلعام بن باعوراء وأحفاده في الفكر والسّلوك، الذين قال الله تعالى فيهم: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ".
بل تقابل إهانتها بالمبالغة في تمجيد الطّاغية، وشكره على إهانتها، وتطلب منه المزيد من حكمته السديدة، وكأنّ عبد الرّحمن الكواكبي يصوّر لنا هذه العمائم وهي تشكر الطاغية على مكرماته التي لا تخلو من إهانتهم، إذ يقول:
"العوام هم قوّة المستبد وقوتُه، بهم وعليهم يصول ويطول، يأسرهم فيتهلّلون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريما، وإذا قتل منهم ولم يمثّل يعدّونه رحيما، ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التّوبيخ".
فماذا يريدُ المستبدّ لتحقيق ساديّته المتعاظمة وسيادته الخُلّبية أكثر من هذه العمائم المهينة؟!
x.com/muhammadkhm
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق