قضايا وأحداث.. العقول المستعمَرة وازدواجية الهُوية الثقافية
وَمَا اسْتَعْصَى عَلَى قَوْمٍ مَنَالٌ .. إِذَا الإِقْدَامُ كَانَ لَهُمْ رِكَابًا
ألا ترى أنه من الضروري في هذه الأيام أن نُعيدَ النظر إلى مصطلح الاستعمار الذي طالما سعى لقلب المفاهيم وتضييع الشعوب. ويحضرنا في هذا الصدد المفكر مالك بن نبي الذي أشارَ منذ نصف قرن إلى وجود عَلاقةٍ وطيدةٍ بين الاستعمار وقابلية الأفراد والمجتمعات له، حين ذكر أن الاستعمار فكرةٌ تبدأ في العقول، فلا يُستعمَر شعب إلا إذا قبلت عقول أبنائه ذلك.
ولا شك أن هذا المعنى يضيء زاويةً جديدةً في التعرّف على كنه الاستعمار، وهي أنه لا يبدأ مسلحًا بل تسبقه تأثيرات على الأفكار والقيم.
ومن هذا المنطلق نفهم ما يعتقده كثير من الشعوب اليوم، إذ يظنون أنهم يعيشون في دولٍ مستقلةٍ، لكنهم في الحقيقة تحت تأثير استعمار فكري غير مرئي.
استعمار يتسلل من خلال تسطيح الثقافة وتفريغها من مضمونها الحقيقي، وينشر الجهل، ويأخذ بالعقول للانبهار بالغرب. وذلك في مقابل النموذج المغاير الذي يقدمه شعب غزة، وهو يؤكد حقيقة عدم إصابتهم بالهزيمة الفكريَّة رغم احتلال أرضهم، فقد ظلوا متمسكين بهُويتهم وثقافتهم في مواجهة تحدياتٍ كثيرةٍ.
وهذا الاستعمار الفكري كان ولا يزال محورَ نقاشٍ فكري في الداخل والخارج، وتؤكده حقائق تاريخية عاشها العالمُ الإسلاميُ لا سيما في فترات التطرف العلماني وتسلطه على الشعوب وقمعه لأبسط حقوقهم في العبادة، وذلك حين أساءت إلى المقدسات وحظرت التعليم الديني والقرآن الكريم في ممارساتٍ بعيدةٍ عما تنادي به أبسط قوانين حقوق الإنسان.
وقد تركت في عقول الأمة آثارًا عميقةً ما زالت تطغى على العقول المستعمَرة التي ترى فيما فعله التطرف ثوابت لا يجوز المساس بها، وترفض التفكير أو وضع الماضي على طاولة المراجعة، بل وتعتبر مجرد الإشارة إلى ما قام به تهديدًا لوجودهم.
والحقيقة أن تلك العقول المستعمَرة تخشى طرح أي تساؤلاتٍ لها عَلاقة بما أصابهم من تشويهٍ. فهم لا يقبلون التساؤل عما تخفيه العلمانية وهل تعني قمع الدين وشعائره؟ رغم أن هناك وقائع تاريخية لا يمكن إنكارها تؤكد على ما قامت به العلمانية.
ومع ذلك ما زال هؤلاء يرون في الحديث عن ذلك هجومًا على مبدأ العلمانية نفسه، لكن طرح مثل هذه الأسئلة يهدف في الحقيقة إلى إعادة فَهم المعايير العالمية للمحافظة على حرية المجتمعات ومعتقداتها.
فقد عانت تركيا نفسها خلال فترة التطرف العلماني مع حزب الشعب الجمهوري من أمورٍ تعسفيةٍ كثيرةٍ تجاه الدين، حيث تمَّ حظرُ الأذان باللغة العربية وأُغلِقت المساجد أو استُخدمت لأغراضٍ أخرى، حتى صار بعضها حظائر للحيوانات، وفُرضت قوانين تهدف إلى تغريب المجتمع التركي مثل إجبار الناس على ارتداء القبعات الغربية بدلًا من العِمامة، كما أُغلقت المدارس الدينية ومُنعت دراسة القرآن الكريم للأطفال تحت سن 15 عامًا.
وهذه السياسات في الحقيقة ليست مرتبطةً فقط بالماضي البعيد، بل استمرت بعض مظاهرها حتى وقتٍ قريبٍ، فمنذ 14 عامًا فقط كان الحجاب محظورًا في الجامعات والمؤسسات الرسمية، وكان خريجو المدارس الدينية يواجهون عقباتٍ كبيرةً في دخول الجامعات بسبب نظام «الكوتا».
فالحديث عن هذه الوقائع والدعوة إلى مناقشة تاريخها بموضوعية أمرٌ لا يستحق ما يواجهه من رد فعل عنيف من وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي ضدها، ومع ذلك زاد الوضع إلى فكرة محاكمة من يتحدث أو يحاول إعادة النظر في ذلك الماضي المليء بالتشدد ضد ما يتعلق بالدين ومظاهره. وبالطبع فإن ردود الفعل هذه تعكس مدى تعصب بعض الأطراف التي تعتبر أي نقد لهذه الحِقبة تهديدًا لهُويتها.
المُثير في الأمر أن بعض المدافعين عن هذه السياسات يدّعون اليوم أنها لم تحدث أصلًا. فإذا كانوا صادقين، فإنهم بذلك يُقرّون بأنهم لا يقبلون نسب مثل هذه الممارسات إلى فاعليها الذين ينتمون إلى نفس الأيديولوجية، وهذا في حد ذاته مؤشرٌ على شعورٍ بالخجل من تلك السياسات.
لكن الحقائق واضحة ولا يمكن إنكارها، فإغلاق المساجد وحظر القرآن وتقييد الحريات الدينية كلها أمور مُوثَّقة، ورفضُ مناقشتها أو حتى مجرد الإشارة إليها هو استمرار لنهج التسلط الفكري الذي يحاول فرض رؤيةٍ واحدةٍ على المجتمع في القرن الحادي والعشرين.
وفي النهاية تؤكد كل هذه التصرفات أن الاستعمار الحقيقي ليس فقط احتلال الأرض، بل يكمن في السيطرة على العقول وجعل الشعوب تدافع عن ممارساتٍ استعماريةٍ دون وعي. ولهذا فإن تجاوز هذه المرحلة يتطلب شجاعةً لمواجهة الماضي بموضوعيةٍ، وكسر الحواجز الفكرية التي تقف حائلًا أمام التفكير الحر، فبعد المراجعة الموضوعية يمكن إعادة البناء على أساساتٍ متينةٍ من القيم التي تحترم التنوّع الديني والثقافي، بدلًا من الهرولة وراء أفكارٍ هدفها محو هُوية الشعوب، فالعقل المُستعمَر لا يبني وطنًا حرًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق