حكاية شعب آخر.. يوميات معتقل (1)
ماهر البنا
اسمي ليس "ماهر البنا"، وليس بإمكاني نشر صورتي مع مقال لا يحمل اسمي، فالوحش الذي مسح اسمي هو نفسه الوحش الذي مسح وجهي، وطمس هويتي، وصادر حريتي، وأفسد وجودي وحياتي..
لذلك أرجو أن تعتبروا غياب الشخص، فرصة جيدة لحضور الموضوع والاهتمام به، بعيدا عن كل الحساسيات التي نتعامل بها مع هوية وأفكار من نقرأ لهم ونحن نعرفهم مسبقا..
أنا مواطن عادي جدا، تربيت على وطنية الراديو والأناشيد المدرسية والصحف اليومية وخطب الرؤساء، أعجبتني قضية الدفاع عن الوطن وقضاياه ضد الأعداء الأوغاد الذين يتربصون ببلادنا ولا يريدون لها الخير، وهؤلاء الأعداء لا أعرفهم ولم أتعامل معهم ولم أرهم في أي وقت، لكنني عرفت أنهم أعداء خبثاء من الإذاعة التي استمتعت فيها لحكايات كثيرة عن التضحية من أجل الوطن، وأعجبتني الأغاني التي تمجد الفدائيين، وكنت أردد بصدق: أموت أعيش.. ما يهمنيش.. كفاية أشوف علم العروبة باقي.. فدائي.. فدائي.. فدائي.
استيقظت في اليوم التالي وجدت الإذاعة نفسها تتحدث عن صلح مع الأعداء، فهم لم يعودوا خبثاء، ولا أوغاد، بل أصدقاء وأولاد عمومة، وبيننا مصالح كثيرة مشتركة ستجلب الرخاء والسلام للناس وللبلاد!
مثل آخرين غيري لم أصدق الحديث الجديد المختلف للإذاعة، ربما لأن تربية الإنسان البسيط على مبادئ معينة، تجعله يتعامل معه بوجدان مخلص، ويصدق بطريقة تجعل الأفكار الأولى جزء أصيل من تكوينه الأخلاقي..
بين يوم وليلة صرت منبوذا ومصنفا كمعارض للسياسة الرسمية للدولة، التي لا زلت أغني في حبها الأغاني الوطنية التي اختفت رويدا من الإذاعة، وحلت محلها أغاني جديدة لا تتحدث عن الأعداء!
يوما بعد يوم تحولت (أنا وأمثالي من أصحاب الذاكرة الوطنية القديمة)، إلى "أعداء خبثاء أوغاد" نعمل ضد الوطن الذي يؤينا! وأصابتني صدمة نفسية مربكة عندما اقتادني الأمن ذات ليلة معصوب العينين، وألقوا بي في المعتقل بتهمة العداء والتآمر ضد الوطن!..
أنا وطني وأحب بلادي، لكن..
- انت بتقول لكن؟.. مصيبتك هي لكن.. مصيبتك انك عديم المرونة، ولا تتفاعل بسهولة مع المتغيرات الوطنية والمستجدات الضرورية التي نعلنها للجميع في الإذاعة.
لكن الإذاعة نفسها أخبرتنا قبل ذلك بـ..
- تاني بتقول لكن؟ الكلام القديم حصل فيه متغيرات، والمواطن الصالح لازم يتجاوب ويتفاعل مع المتغيرات كما نخبركم بها في الإذاعة.
والأعداء؟ ودم الشهداء؟ ورمل سينا؟ وفلسطين؟ والفدائيين؟ والعروبة؟ ومفيش مكان للأمريكان بين الديار؟ ومثلث "لا صلح.. لا اعتراف.. لا تفاوض".. مش كل دي حاجات حفظتها لنا الإذاعة الوطنية في نفس الدولة الوطنية.. يبقى مين اللي خان البلد وأهدافها ومبادئها وانقلب على وطنيتها؟
- طالما مصمم تتكلم بهذا الأسلوب فالكلام معاك انتهى.. سكت الكلام.. خدوووه.
سكت الكلام؟!
سكت الكلام عندكم يعني، لا حوار ولا تفاوض ولا اعتراف من جانبكم بي وبأمثالي..!
سكت الكلام عندكم يعني قطع ألسنة، واعتقال بلا تهمة، وتعذيب، ولا مانع من قطع الرقاب إذا استدعى الأمر..!
سكت الكلام.. صارت عقابا منكم لنا، بعد أن كانت تهديدا للأعداء: "سكت الكلام، والبندقية اتكلمت"..
اتضحت القضية.. لقد استبدلتم أعداء الأمة، فصار الأعداء القدامى من صهاينة وأمريكان أصدقاءكم، وصرنا نحن الأعداء الجدد..!
من ذلك اليوم وأنا أعيش في المعتقل، ليس لدينا إذاعة، وليس لدينا مدارس، وليس لدينا رؤساء يلقون الخطابات والتصريحات الكاذبة، لدينا حياة أخرى، لأننا شعب آخر، شعب يعيش ويتعذب ويفكر ويتعامل بطريقة مختلفة عما يحدث خارج الأسوار، نحن شعب منبوذ ومعزول وراء جدران السجون، لأننا لم نقبل بالتعاون والتهاون مع الأعداء، وهذه قصة محزنة ومليئة بالتفاصيل الواقعية التي يجب أن تحكى، حتى لا يظل صوت الإذاعة الرسمية وحده هو المسيطر، ووحده هو مصدر الأحكام والمعايير وفرض التحولات باعتبارها مستجدات ضرورية ومتغيرات إيجابية يفرضها التطور والمصلحة العليا للبلاد..
هذه المقالات ستركز على حكايات شعب السجون، على كل أولئك الوطنيين الذين اتهمتهم بالخيانة سلطات خائنة، واتهمهم بالتآمر ضد البلاد من فرط وباع تراب وأمن البلاد..
هذه المقالات ستحكي القصة التي لا ترويها الإذاعة عن شعب تم محو اسمه وصورته لكي يظل طي الظلام والنسيان.
وفي المقال المقبل نبدأ حكاية شعب آخر، كل واحد فيه اسمه "ماهر البنا".
maher21arabi@gmail.com
لغز زجاجة الماء.. يوميات معتقل (2)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق