تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة: قراءة في واقعنا العربي
في عالم تسوده القوة والمصالح، يعيش الإنسان العربي بين واقع مليء بالتحديات وأمل في التغيير.. هذه الثنائية تعكس المقولة الشهيرة للمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي: "تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة"، التي تجسد بدقة وضع العالم العربي اليوم، حيث يواجه أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية متشابكة.
في المشهد السياسي، تعكس المأساة الفلسطينية حجم التواطؤ الدولي في ترسيخ الظلم.. الدعم الغربي المستمر للاحتلال الإسرائيلي، والتغاضي عن جرائمه، يعكسان ازدواجية صارخة في المعايير
تشاؤم العقل: تحديات الواقع العربي
يسيطر النظام الدولي الحالي على مسارات التنمية في الدول النامية، حيث تهيمن القوى الكبرى على المؤسسات الدولية، وتستخدمها لتكريس الهيمنة. السياسات المزدوجة، التي تدعم الأنظمة القمعية بينما تروج للديمقراطية في أماكن أخرى، تسلط الضوء على التناقضات الصارخة.
على الصعيد الاقتصادي، النيوليبرالية ترسخ نظامًا يخدم مصالح الشركات متعددة الجنسيات، التي لا تهتم سوى بجني الأرباح على حساب الشعوب. هذه الشركات، في سعيها لاستغلال الموارد، تُحكم قبضتها على الاقتصادات النامية، ما يعزز تبعيتنا، ويقوض سيادتنا الاقتصادية. في دولنا، أصبحت القطاعات الحيوية مثل الطاقة والزراعة ميدانًا لسيطرة هذه الشركات، ما يكرس لمزيد من التبعية .
وفي المشهد السياسي، تعكس المأساة الفلسطينية حجم التواطؤ الدولي في ترسيخ الظلم.. الدعم الغربي المستمر للاحتلال الإسرائيلي، والتغاضي عن جرائمه، يعكسان ازدواجية صارخة في المعايير. وفي الوقت الذي تُفرض فيه العقوبات على دول تخالف المصالح الغربية، يُغض الطرف عن انتهاكات الاحتلال، ما يساهم في استمرار معاناة الفلسطينيين، ويعرقل أي فرصة للسلام العادل.
التعليم والتدريب هما أساس بناء مستقبل مشرق، وتجارب كوريا الجنوبية والبرازيل توضح أن الاستثمار في رأس المال البشري يؤدي إلى قفزات اقتصادية واجتماعية كبيرة
تفاؤل الإرادة: آفاق التغيير
ورغم هذه التحديات، هناك تجارب تُثبت أن التغيير ممكن، شرط توفر الإرادة والقيادة الحكيمة.
- التحالفات الدولية: التحالفات مثل "بريكس" تعطي أملًا في خلق نظام عالمي أكثر توازنًا، حيث يمكن لدول الجنوب أن تخلق هيكلًا موازيًا للهيمنة الغربية، ما يخفف من استغلالهم للموارد.
- الاعتماد على الذات: الاكتفاء الذاتي هو بوابة التحرر.. دول مثل ماليزيا وتركيا نجحت في تعزيز صناعاتها المحلية وتقليل التبعية.
على سبيل المثال، تركيا نجحت في استكشاف حقل السكارية للغاز باستخدام كوادرها المحلية، ما جعلها تستفيد بالكامل من ثرواتها الطبيعية، بينما تبقى الشركات متعددة الجنسيات بعيدة عن هذه العمليات المحلية، ما يثبت إمكانية تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة.
- مكافحة الفساد وبناء المؤسسات: أثبتت تجارب سنغافورة ورواندا أن الشفافية هي مفتاح التنمية؛ حيث تمكنت سنغافورة من تحويل نفسها إلى مركز مالي عالمي بفضل بناء مؤسسات قوية وشفافة، بينما استطاعت رواندا أن تتجاوز تبعات حرب أهلية مدمرة لتصبح نموذجًا ملهمًا للإصلاح والتنمية.
- الاستثمار في الإنسان: التعليم والتدريب هما أساس بناء مستقبل مشرق، وتجارب كوريا الجنوبية والبرازيل توضح أن الاستثمار في رأس المال البشري يؤدي إلى قفزات اقتصادية واجتماعية كبيرة..
على سبيل المثال، البرازيل تحت قيادة لولا دا سيلفا ركزت على تقليص الفقر، وتعزيز التنمية المستدامة، من خلال استثمارات في البنية التحتية والتعليم.
- الإعلام المستقل: في مواجهة الإعلام الموجه، يُصبح الإعلام البديل ضرورة لنشر الوعي ودعم القضايا العادلة. في العصر الحديث، تُستخدم وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر (إكس) لتوجيه الرأي العام، وتدخلت هذه المنصات في الانتخابات الأميركية 2016 و2024، حيث تم استخدامها للتضليل السياسي.
تدخلات كامبريدج أناليتيكا في 2016 كانت أحد أبرز الأمثلة على استخدام هذه الوسائل لخدمة أجندات معينة، ما يستدعي ضرورة تعزيز الإعلام البديل الذي يدعم الحقيقة، ويدافع عن حقوق الشعوب.
أمل في مستقبل أفضل: فلسطين نموذجًا
رغم كل المآسي، تبقى القضية الفلسطينية منارة للصمود والمقاومة.. لقد أثبتت التجارب أن المقاومة، بجميع أشكالها، قادرة على زعزعة منظومة الاحتلال، وفضح جرائمه أمام العالم. حملات المقاطعة مثل حركة "بي دي إس" (BDS) تُظهر دور الشعوب في مقاومة الاحتلال من خلال ضرب اقتصاده، وإضعاف شبكات الدعم التي يعتمد عليها.
المسؤولية لا تقع على عاتق الفلسطينيين وحدهم؛ كل قارئ وكل فرد له دور في هذه المعركة.. من خلال دعم المقاومة، والتوعية بالقضية، ومقاطعة الشركات الداعمة للاحتلال، يمكننا الإسهام في تحقيق العدالة.
تمكنت تركيا من استكشاف مواردها الطبيعية مثل حقل السكارية للغاز باستخدام كوادر محلية، ما جعلها دولة قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي في العديد من المجالات الحيوية مثل الطاقة والصناعة
تجارب ملهمة: دروس من العالم
- البرازيل: تحت قيادة لولا دا سيلفا، ركزت على تقليل الفقر وتحقيق التنمية المستدامة من خلال سياسات تعليمية وصناعية شاملة.
- ماليزيا: استطاعت بناء اقتصاد صناعي قوي في عهد مهاتير محمد من خلال استثمار ضخم في البنية التحتية والتعليم، ما جعلها واحدة من أسرع الاقتصادات نموًّا في آسيا.
- سنغافورة: من خلال سياسات شفافة واقتصاد قائم على الجدارة، تحولت إلى مركز اقتصادي عالمي بفضل مؤسساتها القوية التي تضمن الكفاءة والمساواة.
- تركيا: تمكنت تركيا من استكشاف مواردها الطبيعية مثل حقل السكارية للغاز باستخدام كوادر محلية، ما جعلها دولة قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي في العديد من المجالات الحيوية مثل الطاقة والصناعة.
- رواندا: بعد انتهاء الحرب الأهلية، استطاعت رواندا أن تبني نموذجًا إصلاحيًّا ناجحًا من خلال الاستثمارات في التعليم والنمو الاقتصادي المدفوع بالاستقلالية والشفافية.
أمل في التغيير
بين تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة، يجب علينا أن نتسلح بالأمل والعمل الجاد. التغيير ليس مستحيلًا، لكنه يتطلب وعيًا عميقًا وإرادة صلبة.. معركة التحرر والتنمية هي معركة طويلة الأمد، ولكنها تستحق الجهد من أجل مستقبل أفضل لأجيالنا القادمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق