احتراق الأشباح و"الشبّيحة"
وائل قنديل
ستّة أيام، كأنها رحلة سفاري خاطفة، مرّت فيها المعارضة المسلحة في عمق الأراضي السورية من أقصى الشمال عند إدلب وحلب، حتى دمشق والساحل، تلتهم كلّ يوم مدينة كبرى، وكلّ قضمة أسرع من سابقتها، من دون أدنى مقاومةٍ من الجيش النظامي، ومن دون تظاهرةٍ شعبيةٍ واحدة ترفع صورة بشّار الأسد، ومن دون "شبّيح" واحد من عصابات الشبّيحة التي كان ذكرها يثير الفزع، يتصدّى أو يشتبك مع الزاحفين إلى قصر الحكم في دمشق.
ماذا يعني ذلك، هل اختفى جيش "الشبّيحة" فجأة، هل فرّوا أو انضمّوا إلى صفوف المعارضة؟ هل كان هناك شبّيحة أصلاً، ولماذا لم يشعر أحد بوجودهم طوال أيام رحلة إسقاط حكم الطاغية بشّار الأسد؟
في كلّ ثورات الشعوب ضد حكّام مستبدّين كانت هناك طوال الوقت ثورات مضادّة، أو بالأحرى مواجهات دامية مع جمهور الطغيان، يستميتون في الدفاع عن طاغيتهم، تربّحاً من بقائه، وربّما إيماناً بزعامته، حدث ذلك في ثورات تونس ومصر وليبيا، بل ووقعت مذابح دامية أكسبت هذه الثورات زخماً وإصراراً على بلوغ أهدافها، مهما كانت التضحيات، لكن شيئاً من ذلك لم يحدُث في العملية الخاطفة للتخلّص من بشّار الأسد، الأمر الذي يشير إلى أشياء بالغة الدلالة، أولها بالطبع أن أحداً داخل سورية لا يرى هذا الشخص جديراً بأن يدافع عنه أو يتمسّك به أحد، بداية من الجيش والشرطة، وحتى جمهوره ممن عرفوا باسم "الشبّيحة"، وهو ما يأخُذُنا إلى مسألة أخرى مهمّة، هي أن للاستبداد كذلك دورة حياة وتاريخ صلاحية، بحيث يفقد تأثيره كلّما طالت مدّته أكثر من الحدّ المعروف.
وفي حال بشّار الأسد، لا يمكن أن نحصر فترة طغيانه في الأربعة وعشرين عاماً التي أمضاها في الحكم فقط، بل نضيف إليها فترة والده حافظ الأسد، ليصبح المجموع 54 عاماً مع صنف واحد من الطغيان، كانت كفيلةً بأن يضرب السوس في جذوره إلى الحدّ الذي لا يصمد معه أمام نفخة هواء.
وثمّة سؤالٌ آخر هنا، لماذا لم يطلب بشّار الأسد من شعبه وجمهوره الخروج من أجله؟ لماذا لم يتسوّل العطف العام، ويبتزّ المشاعر بخطابٍ يذرف فيه دمعتين، يصنعهما سيناريست محترف، فيستفزّ مشاعر العامّة للدفاع عن الوطن، الذي هو السيد القائد الحكيم؟
أغلب الظن أن الطغاة، أيضاً، يتحسّسون حدود هيمنتهم على الشعور أو الوعي العام، ويعرفون مواقع أقدامهم، وحين يتيقنون من لحظة النهاية يُقدمون على الهرب، أو الانتحار.
وفي حالة طاغيةٍ مثقف، مثل بشّار الأسد، فقد أدرك أن أحداً لن يكلّف نفسه مشقّة الدفاع عنه، لأنه مدرك، منذ البداية، أنه ورث طغيان الأب عن طريق تزوير دستور الدولة.
وكما يقول الفيلسوف جون لوك "الطاغية رجل يصل إلى الحكم بطريق غير مشروع"، فيمكن أن يكون قد اغتصب الحكم بالمؤامرات أو الاغتيالات أو القهر أو الغلبة بطريقة ما. وباختصار، هو شخص لم يكن من حقّه أن يحكم لو سارت الأمور سيراً طبيعياً، لكنّه قفز إلى منصّة الحكم عن غير طريق شرعي. ولهذا يتحكّم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب والمعتدي، فيضع كعب رجله في أفواه ملايين من الناس لسدّها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته".
لكن ما حدث أن بشّار وصل إلى مرحلة الإدراك الكامل إنه لم يعد في مقدوره أن يمدّ رجله ليضع كعبه في أفواه الجماهير.
على أن أكثر ما يثير الانتباه في مشهد بشّار الأسد الأخير الغياب الكامل لشبح "الشبّيحة"، وهذا يعني، على الأرجح، أن فزّاعة "الشبّيحة"، أو "البلطجية"، هي من اختراع المستبدّين، وواحدة من منتجات مصانع الطغيان، بحيث يمكن القول إنه ليست هناك فئة في المجتمع نستطيع القول إنها "شبّيحة" في ذاتها، فكما يصنع السياسيون والمثقفون الانتهازيون المستبدّين ويدرّبونهم على أدوات الاستبداد، فإنهم يصنعون كذلك طبقة "الشبّيحة" بخطاب شعبوي زائف وفاسد يربط الوطنية بالدفاع عن الحاكم، ويخلط بين الوطن والرئيس، بحيث تصبح معارضة الأخير تهديداً لأمن الوطن واستقراره.
ومع الوقت، يكبر هذا الفهم الفاسد داخل "شبّيحة" النظام الذين يجري استدراجهم من طريق إيهامهم بأنهم حرّاس الوطن، حتى تأتي لحظة مفصلية تسقط فيها هذه الأوهام المزروعة في العقول كلّها، فيتمرّد "الشبّيح" على دوره، ويهرُب من السجن الذي وضع نفسه فيه ويسترد شخصيته العادية.
ما جرى في سورية يعيد لنا الثقة في المواطن العادي، الذي حاولت ورش الاستبداد العربي تصويره أن الحرّية والكرامة الإنسانية في آخر قائمة أولوياته، وأثبتت أنه لا يوجد "شبّيح" بطبعه، بل هناك مجرمون يجعلونه هكذا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق