الأربعاء، 11 ديسمبر 2024

ثورة شعب أم لعبة أمم؟

ثورة شعب أم لعبة أمم؟   

حلمي الأسمر





انهيار الاتحاد السوفييتي، انهيار جدار برلين، طوفان الأقصى في 7 أكتوبر (2023)، و"فتح" سورية، أو إن شئت انهيار نظام أسرة الأسد، كلها زلازل ضربت الكرة الأرضية، ولها تداعيات على العالم كله تمتد سنوات، وكلها تقريبا كانت مفاجئة لأجهزة الاستخبارات والمحلّلين والمراقبين، خاصة لجهة السرعة التي حدثت فيها، وقد كان هؤلاء كلهم يظنّون أن تلك الانهيارات لن تجري بالسرعة التي جرت فيها.

لم يفق العالم بعد من انهيار نظام الأسد، ولم تمر عليه سوى أيام قليلة، ويصعُب الجزم بالمآلات التي سيستقرّ عندها. هناك فرصة سانحة ومخاطر كبيرة أيضا، والأسئلة الحاضرة التي يثيرها أكثر بكثير من الأجوبة الغائبة، ولعل أهم أسئلتنا نحن أهل الشرق: هل كانت ثورة شعب أم لعبة أمم؟

يُصاحب هذا السؤال تقريباً أي حدث كبير يقع في بلادنا العربية، لسبب وجيه، أن هذه البلاد التي تُدعى أوطاناً ولدت في معظمها من رأس قلم أمسك به شخصان غريبان، "خربشا" على خريطة الشرق خطوطاً تحولت في ما بعد إلى حدود، ولّدت أناشيد وطنية وجيوشاً وأعلاماً، و"هويات" وطنية يقاتل القوم في الحفاظ عليها. وما لبثت تلك الخربشات أن ارتدت قدسية تقوننت بمواثيق واتفاقات ومؤسسات، لعل أهمها ما سمّيت جامعة الدول العربية التي كانت مهمّتها الأساسية تأبيد الحدود، والحفاظ على "استقلال" كل "وطن" يسكن داخلها، ومن نجا من تلك الخربشات، تأسّس بالإرادة نفسها التي حرّكت ذلك القلم. ولهذا كله استقر في الوجدان الجمعي العربي أن كل ما يصيبه هو نوع من المؤامرة، أو "المسرحية". أكثر من هذا، ولكثرة المؤامرات والمسرحيات، بدا أن كل ما يقع في هذه البلاد هو من صنع تلك اليد التي خربشت الحدود، أو بالأحرى من ورثها في الهيلمان والصولجان، بل إن الحدث الجميل الذي يمكن أن يقع في تلك البلاد يصعب الاحتفال به، لأن هناك اعتقاداً شبه راسخ أن أي حدثٍ من ذلك النوع هو مجرّد "لعبة" تخفي وراءها شرّاً مستطيراً.

هناك فرصة سانحة ومخاطر كبيرة أيضا، والأسئلة الحاضرة التي يثيرها أكثر بكثير من الأجوبة الغائبة

أذكر أن أمي رحمها الله كانت تقول حين نسرف في الضحك ونحن متحلقون حول "موقد" النار في ليالي المخيّم الباردة: "ألله يسترنا من هالضحك، الله يسترنا من هالليلة"، على اعتبار أن كثرة الضحك أو الشعور بالسعادة مخيفة، ويمكن أن تجلب شرّاً مستطيراً. يعني أننا صرنا نخاف من الفرح، وتحوّل الخوف من الغد إلى أحد المكونات الرئيسة لعقلنا الجمعي، لأننا، دولاً وأفراداً، "مجرّد أحجارٍ على رقعة الشطرنج"، يلعبون بنا كيفما اتفق، أو وفق أهوائهم أو مصالحهم. ولهذا يحيي أي حدث مفرح خوفاً دفيناً مما يليه، على اعتبار أن كل ما يجري يندرج في قائمة مخطّطاتهم، فما بالك حين يكون بحجم سقوط نظامٍ ربض على صدور الشعب والأمة أكثر من نصف قرن؟ وكان يبدو إحدى قلاع "القومية العربية" وركنا ركينا في ما سمّيت "دول المواجهة" ثم "دول الممانعة" و"محور المقاومة"، وكلها مسمّيات غدت بحاجة لإعادة تعريف على ضوء المستجدّات التي ضربت المنطقة والعالم معها.

وقف وزير الدفاع الأميركي الأسبق روبرت ماكنمارا، في العام 1979، وألقى خطاباً أمام نادي روما، قال فيه: إن الارتفاع الصاروخي لعدد سكّان العالم أكبر عائق أمام التطور الاقتصادي والاجتماعي في العالم. لهذا علينا الآن وليس غداً أن نمنع وصول عدد سكّان الكون إلى عشرة مليارات نسمة". وقال: "لدينا خياران، تخفيض معدل الولادات أو رفع معدل الوفيات، والطريقة هذه يمكن أن نحصل عليها بالحروب أو الأمراض". ومن أقواله الشهيرة في هذا السياق: "لتعمل جيّداً عليك الانصهار مع الشر".

القصد هنا طبعا ليس تخفيض سكان الشمال، فهو محور الكون، بل أهل الجنوب، ونحن العرب والمسلمين في بؤرة هذا الهدف. بمعنى آخر، الخوف من "المؤامرة" ليس قادماً من رهاب متوهّم أو مفترض، بقدر ما هو حقيقة صارخة، ولو نظرنا إلى التاريخ المعاصر لبلاد صاحب القول، لاستطعنا أن نحصر عدداً غير محدود لحروب أشعلتها بلاده، وبعضها حروبٌ شاركت فيها علانية، وأخرى سرّاً، دعك من "الأوبئة" والأمراض التي صنعتها في مختبراتها، وصدّرت لقاحاتها!

هل كان "تحرير الشام" جزءاً من لعبة الأمم، وتحريك أحجار الشطرنج، أم فعلاً "شامياً" وطنياً؟

ونعود إلى السؤال المركزي: هل كان "تحرير الشام" جزءاً من لعبة الأمم، وتحريك أحجار الشطرنج، أم فعلاً "شامياً" وطنياً صميماً، كما هو شأن طوفان الأقصى، مع ما شابَهُ من تقوّلات وتشكيك، وربما تشويه لأهدافه السامية؟ كيف استطاع هؤلاء المقاتلون الذين كانوا، حتى وقت قريب، مجرّد فصائل متناحرة، اقتراف هذا الفعل الكبير، في بضعة أيام؟ الأسئلة كبيرة بحجم الأحداث الجسيمة التي تمرّ بنا، والمتلاحقة على نحوٍ لم نشهد له مثيلاً من قبل، لكن ما هو مؤكّد أن ثمّة ظروفاً دولية وإقليمية سانحة مكّنت تلك الثلة من أبناء الشام من اقتناص الفرصة، فزحفوا على بلادهم أو قل "عادوا" إليها لتخليصها من أكثر أنظمة الاستبداد العربي توحّشاً وظلماً وإرهاباً.

مشهد "الوطن - السجن" المختبئ في داخل الأرض، والأهوال التي كشف عنها، في شآم الأسد، حيث "بلد" آخر غير البلد الموجود على سطح الأرض، يفتح المجال لأسئلة مدمّرة: اليوم عرفنا عن صيدنايا والمزّة وعدرا، وبقية معتقلات سرّية وعلنية، تخفي "وطنا" آخر غير الذي نعرفه، ماذا عن صيدنايات عربية أخرى لم يدقّ "الثوار" أبوابها بعد وماذا تخفي من أهوال؟

بقيت كلمة للمشكّكين في طهر (ونظافة ووطنية) أبناء الشام الذين داسوا رأس الطاغية، ففرّ كفأر، لو لم يكونوا بهذا الطهر، لما كان العدو الصهيوني بحاجة لكل تلك الاعتداءات والهجمات على الأسلحة والمقدّرات العسكرية السورية، مخافة أن تقع في أيدي تلك الأيدي النظيفة، ولم تكن تفعل هذا من قبل، حين كانت تحت يد "جيش النظام" الذي لم يستعمل السلاح إلا لقصف أبناء شعبه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق