الجولان والجولاني
الجولان والجولاني
وائل قتديل
ليس معنى أنّ سورية كانت مُستباحة من العدو الصهيوني في ظلّ حكم الطاغية المخلوع بشّار الأسد أن يصبح إبداء القلق من استمرار الاستباحة ذاتها في ظلّ الإدارة السورية الجديدة تربّصاً بهذه الإدارة، أو طعناً فيها، أو حنيناً لزمن الطاغية الهارب، على نحو ما تفعل مجموعات هستيريا الابتزاز والاستقطاب التي كانت المسمار الأوّل في نعش تجارب سابقة، ساهم في إفشالها مؤيدوها بالقدر ذاته الذي فعله خصومها.
هذه الدببة المُنتشرة طوال الوقت على أطراف حدائق الربيع العربي تعتبر كلّ صاحب سؤال، أو فكرة، أو انتقاد، عدوّاً للسلطة الجديدة، وهي جاهزة دوماً بقائمةٍ من الاتهامات التي تبدأ من "خلايا نائمة تبكي على الاستبداد الساقط"، ولا تنتهي عند "كراهية الإسلام السياسي"، والتي قد تتطوّر مع لوثة الاستقطاب إلى معاداة الإسلام نفسه.
في الحالة السورية، يحقّ أن نعبّر عن القلق، بل يجب أن نقلق حين يضم الاحتلال الصهيوني مساحة جديدة من الأراضي السورية، ويمرح في كامل الخريطة، مدمّراً قدرات سورية العسكرية، حتى تصير منزوعة السلاح، من دون أن يكون هذا القلق نوعاً من الانحياز للطاغية الساقط، كما يذهب بؤساء كثيرون، أو افتئاتاً على السلطة الجديدة، ممثلةً في أبو محمد الجولاني، الذي صار أحمد الشرع، وحكومته، فما تعلنه تل أبيب وتحاول تكريسه مرعب، وخصوصاً حين يقترن بالتعبير عن السعادة بهذه السلطة التي أطاحت حكم بشار الأسد.
رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو بعد أن ألغى اتفاقية فضّ الاشتباك مع سورية، والتي تعود إلى العام 1974، وأمر باحتلال منطقة جبل الشيخ، أعلن أنّ المساحة التي احتلها وضمّها من هضبة الجولان السورية بعد سقوط بشّار، ستبقى إسرائيلية إلى الأبد.
لاحقاً قصف الاحتلال كلّ المواقع الاستراتيجية السورية بأكثر من مائتي غارة. وبحسب التقارير المنشورة في الصحافة الصهيونية، هدف جيش الاحتلال في هذه المرحلة جعل سورية منزوعة السلاح، من خلال تدمير سلاح الجو والبحر وكلّ ما تبقى من دبابات ومدرعات وأسلحة روسية وإيرانية متقدّمة فيها، للحيلولة دون تمكّن الأخيرة من إعادة بناء هذه القوّة وتهديد إسرائيل لأجيال قادمة.
في افتتاحيات الصحافة الإسرائيلية وتعليقاتها أمس تجد احتفاليات صاخبة باحتلال قسم جديد من هضبة الجولان، فيكتب أحدهم تحت عنوان "حذارِ من النزول عن جبل الشيخ" في صحيفة يديعوت أحرونوت، ويقول: "نحن على الجبل، ويحظر على الجيش ورئيس الحكومة نتنياهو النزول عنه مجدّداً: إن احتلال جبل الشيخ السوري، ونقاط أُخرى مهمة وحيوية للدفاع عن الجولان الإسرائيلي، على امتداد الحدود في المنطقة العازلة، داخل مناطق النظام السوري السابق، هو أكثر من عملية ضمّ أراضٍ موضعية، أو "صورة نصر"، إنه حدث استراتيجي، يستغل واقعاً أمنياً وسياسياً غير مسبوق منذ 50 عاماً".
في الأثناء، دمرت إسرائيل مراكز البحوث العلمية على أطراف دمشق واغتالت عالم الكيمياء العضوية حمدي إسماعيل ندى بمنزله، فيما ذهبت تقارير إلى أنّ التوّغل العسكري الإسرائيلي في سورية وصل إلى حوالي 25 كيلومترا إلى الجنوب الغربي من دمشق. لتعلن الإذاعة العبرية بعدها: "دمّرنا مقدرات الجيش السوري بأكبر عملية جوية قمنا بها في تاريخنا".
جرى ذلك كله بينما الأنظار والقلوب معلّقة بسجن صيدنايا أو "باستيل حكم عائلة الأسد"، حيث تَتابع مراحل البحث عن ضحايا 54 عاماً من الطغيان والتعذيب الوحشي، في عمل هو الأنبل والأَولى على جدول أعمال أيّ تغييرٍ ثوري يعقب إطاحة سلطة قمعية منحطة، غير أنّ الهتاف بتحرير المواطن لا ينبغي أن يخرس صيحات القلق على حرّية الوطن وكرامته وسيادته على أرضه، والنداء على السلطة الجديدة بأن تُعلن موقفاً تردّ فيه على عربدة الاحتلال، من خلال تصريح لأحد قياداتها يدين ويستنكر ما جرى، وهو ما لم يحدُث وأثار الخوف والأسى، إذ لا يكفي هنا أن تأتي الإدانات نيابة عن "جبهة تحرير الشام" من مصر وقطر والسعودية والكويت والأردن والعراق وجامعة الدول العربية.
لا يصح هنا أن يُقال إنّ على السلطة الجديدة الانشغال بترتيبات الوضع الداخلي فقط، وتغضّ الطرف عن الانتهاكات القادمة من الخارج، بحجّة أنّ عمرها لا يزيد عن أيّام، فحين يكون الوطن مستباحاً من عدوّه التاريخي بإيقاع مُتسارع، فإنّ الدقيقة الواحدة لها ثمن فادح، كما لا يعقل أن يكون الرد من مجموعات الدببة بأنّ بشّار أيضًا كان يقف عاجزاً أمام الاعتداءات الإسرائيلية، ذلك أنّ هذه السلطة جاءت لتُنهي كلّ إرث الطاغية الثرثار، بما في ذلك خنوعه وصمته الصفيق أمام غطرسة الاحتلال، وإلا ما هو معنى التغيير الثوري إذن؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق