الاثنين، 9 ديسمبر 2024

الميت في الشام.. والعزاء في مصر.. لماذا الفزع؟!


الميت في الشام.. والعزاء في مصر.. لماذا الفزع؟!

سليم عزوز

كل يبكي على موتاه..

مثل صعيدي نذكره بتصرف، ونعرض عن أمثلة أخرى يصعب ترجمتها إلى الفصحى، مثل: "كل حزينة تبكي بكاها"، وهو يحمل نفس الدلالة!

لم أكن قد بلغت الخامسة من عمري، عندما مات أحد أقربائي من جيل الأجداد، وقد دخلتْ لمنزله من لم تمت له بصلة، وكانت الأكثر حدة في الحزن والتعبير عنه، وقد راعني أنها تهتف: "يا أخويا"، وهي ليست أختا ولا زوجة، ولا حتى قريبة، الأمر الذي لفت انتباهي، فسألت والدتي رحمها الله عن سبب ذلك، فقالت إنها تبكي شقيقها الشاب الذي مات مؤخرا، وكان في ريعان الشباب!

هذا الأمر الذي تذكرته مع حالة الصراخ والعويل تنطلق من القاهرة بعد الإعلان عن إسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، بل ومنذ اندلاع الثورة السورية، ولم نجد أحدا من السوريين يبكي الفقيد، فحتى رئيس الحكومة أعلن تأييده للثورة، وتدهشني فيديوهات التصفيق الحاد لبشار الأسد في خطاباته الأخيرة، ونظرة الإعجاب في الأعين الضاحكة المستبشرة، بما يوحي أن الأمر ليس نفاقا، ومع ذلك فلم ينطق أحد بكلمة رثاء له ولحكمه، لكن الجنازة حارة في مصر!

المخلوع في القاهرة:

من أقصدهم في هذه السطور هم من يعبرون عن النظام المصري، من الأذرع الإعلامية، ومن الذباب الإلكتروني، وممن يتقربون من هذا النظام بالنوافل، لعله يضعهم ضمن حساباته في الاختيار والترقية، حتى ليظن المرء أن الثورة في مصر، وأن المخلوع هو عبد الفتاح السيسي


لنستبعد القوميين العرب، الذين يرون أن الأمة العربية فقدت واحدة من عواصمها التاريخية، وهم قوم تبع يهتمون باللافتة وبالخطاب، ولا ينظرون إلى ما هو أبعد من ذلك، في مجال تأكيد العروبة على أرض الواقع، وهم لا يشغلهم أن يكون حاكمهم المختار مستبدا، يقهر شعبه، ويشرده، فهم تشكيل عصابي، لا يعرف الحريات، ولا تشغله كرامة الناس!

من أقصدهم في هذه السطور هم من يعبرون عن النظام المصري، من الأذرع الإعلامية، ومن الذباب الإلكتروني، وممن يتقربون من هذا النظام بالنوافل، لعله يضعهم ضمن حساباته في الاختيار والترقية، حتى ليظن المرء أن الثورة في مصر، وأن المخلوع هو عبد الفتاح السيسي!

لن يعدم المشاركون في "المحزنة المنصوبة" حجة، فهم يخافون على الدولة السورية، وعلى سوريا من التقسيم الذي ينتظرها، وكيف أن إسرائيل استغلت سقوط النظام واجتاحت جزءا من الأراضي السورية، أنظر كيف لا ينظرون إلى الجولان الواقعة ضد الاحتلال، ولم يبذل كل من الأسد الابن والأسد الأب جهدا في تحريرها، ولم يضرب حجرا في معركة التحرير، حيث مات الأب وغادر الابن دون أن يحين موعدها!

هذا بجانب القول إن سوريا بسقوط الأسد ستكون على موعد مع تنفيذ المخططات الكونية بتقسيمها، وكأنها لم تكن مقسمة منذ عشر سنوات، وكأن بشار الأسد كان يسند الجبل بظهره!

ثم انطلقوا يخوّفون من المستقبل على يد من قاموا بإسقاطه، والذي تبين أنه كان في حكم المنتهي، بيد أن من حوله يعملون على خدمته كالجن الذي كان يخدم سيدنا سليمان، وكان تحرك الثورة بمثابة دابة الأرض التي أكلت عصا الأسد، فخر على الأرض، ليتبين للجميع أن ما جرى كاشف عن حالته وليس منشئا لها.

وفي التخويف من المستقبل تارة يقولون إن الجولاني متشدد باعتباره من القاعدة، وتارة يقولون إنه عميل أمريكي وإسرائيلي، والأمر بحاجة إلى دعوى فرز وتجنيب، فهل هو "متشدد ديني"، أم عميل لأمريكا وإسرائيل؟!

عموما، لن أعالج ما عالجته في منشوراتي على منصات التواصل الاجتماعي، لننطلق من هنا إلى بيت القصيد، وهو لماذا هذا الفزع في القاهرة من جانب الحكم وأذرعه؟!

إلهام الثورات:

إنه الخوف من أن تكون الثورة السورية ملهمة للمصريين، فليس سرا أن الثورة التونسية هي من ألهمت المصريين بأنهم قادرون بمجرد الحشد الجماهيري السلمي على إسقاط مبارك كما سقط بن علي بالحشد السلمي، وأن الأمر ليس بحاجة إلى قوة لمواجهة قوة الشرطة، أو حتى قوة الجيش وله سوابق في التدخل للحفاظ على النظام، كما حدث في مظاهرات الخبز سنة 1977، وفي أحداث الأمن المركزي!

إنه الخوف من أن تكون الثورة السورية ملهمة للمصريين، فليس سرا أن الثورة التونسية هي من ألهمت المصريين بأنهم قادرون بمجرد الحشد الجماهيري السلمي على إسقاط مبارك

وجاءت الثورة التونسية وقد دب اليأس في أوصال حركة النضال السياسي في مصر، لتعرف مصر عدوى الثورة، والعدوى هي أساس الخوف، ومن هنا كان الهلع في القاهرة من الثورة على بشار الأسد، ومن القدرة على إسقاطه!

وكل من السيسي وبشار يعتمدان على القوة الباطشة، ولا يعرفان غيرها، فلا مصالحة مع المعارضين، ولا محاولة لاحتواء الرأي الآخر، ولا رغبة في تصفية ملف السجناء السياسيين، ولو بإخلاء سبيل النساء وكبار السن منهم، وعنت لهما الوجوه، فلا تسمع حتى همسا، وحصل كل منهما على الشرعية الدولية، وها هي الدول العربية تعيد الأسد للجامعة العربية، والجميع يخطب وده، بمن في ذلك أردوغان، ويدخل القمة العربية في الرياض كالطاووس، ويقولون إنه أساء الأدب في تعامله مع الرئيس التركي!

والحال كذلك، وعندما تندلع الثورة السورية (لدي تحفظ منذ البداية على وصفها بالمعارضة المسلحة)، فتجد أمامها هشيما تذروه الرياح، فلا بد أن يخيف هذا النظام المصري. أين الجيش السوري؟ أين حزب البعث؟ أين العلويون؟ أين الدولة السورية؟!

إن من إشكالات الثورة السورية أنها أوحت بأن الحل في المواجهة بالسلاح، وبعد ذلك يأتي تأييد العالم، ولم تشغل الثورة السورية نفسها بموافقة العالم. ولا شك أن اليأس قد ضرب الناس في إمكانية التعامل مع النظام العسكري في مصر الذي يملك القوة المميتة، ويحتكر القوة بشكل عام!

وكان يمكن أن يكون هذا مصدر أمان للنظام المصري، لأن الثورة السورية اتخذت قرار حمل السلاح بعد تسعة شهور من السلمية، ووجدت من يدعمها في هذا الجانب، تدريبا وتسليحا، والثورة المصرية بدأت سلمية وانتهت كذلك، وإذا كان قرار تسليح الثورة السورية بعد استخدام النظام لقوته الباطشة، فإن استخدام الحكم العسكري نفس القوة وارتكاب المذابح، لم يكن مبررا أبدا للجوء للعنف!

بدون الإخوان:

وهناك نقطة طمأنة أخرى، وهي أن الإخوان هم من تخطوا الرقاب في البلاد التي هُزم فيها الربيع العربي، وهم جماعة إصلاحية لا ثورية، ومن هنا أمكن إسقاطها بسهولة في مصر، وتونس، واليمن، وحتى الجماعات الدينية الأخرى طلقت العنف، بعد سنوات طويلة من المواجهة مع نظام مبارك، والذي كان في كامل عافيته، وفي الاتجاه الجديد وقفت خلف الإخوان لكي تتعلم منهم السياسة، فدفعوا ثمن هزيمة المحب!

عندما سألت أهل الذكر من يمثل الإخوان في فصائل الثورة السورية؟ تلقيت إجابة بأنه لا أحد، فالديني من هذه الفصائل هو أقرب للسلفية الجهادية، وليس سرا إن من وحد هذه الفصائل كان في تنظيم القاعدة، فهل بتركه التنظيم انتقل إلى جذور الفكرة؟!

القاعدة التي اعتمدها تنظيم الجهاد في مصر، هي أن مواجهة عدو الداخل مقدمة على مواجهة عدو الخارج، وحكم القوي وراء التحول في فكر الجهاديين المصريين الذين انتقلوا للخارج خلافا لهذه القاعدة!

الثورة السورية ضربت اعتقاده هذا في مقتل، فبشار الأسد كمم الأفواه، وأغلق السجون على من فيها، ولم يسمح بأي رأي ولو كان على سبيل النصيحة، واستخدم القنابل الحارقة في الانتقام وقمع التمرد عليه، واستعان بقوات أجنبية لتساعده في هذه المهمة، وسيطر على المشهد السوري بالكامل، وبدت المعارضة مستسلمة للأمر الواقع، ولم يكن يعلم أن النار تحت الرماد، فكان اندلاع الثورة من جديد مفاجأة له وللكرملين وللبيت الأبيض نفسه.. فمن كان يصدق أن الثورة الجريحة، المسفوك دمها، ستقوم لها قائمة من جديد

فأيمن الظواهري سافر إلى أفغانستان بعد تجربة سجن تعرض فيها للتعذيب البشع، وتحالف مع القاعدة، وعندما فتح باب الجهاد في أفغانستان في مصر برعاية حكومية ودفع سعودي، لم يكن مطروحا على جدول أعمال مصطفى أبو اليزيد (الرجل الثالث فيما بعد في تنظيم القاعدة ووزير مالية ابن لادن)، الانخراط في هذا الجهاد المقدس، فقد كان يستعد للزواج، وإقامة حياة مستقرة في بلدته بمحافظة الشرقية، لولا أنه سافر لأداء العمرة بعد ذلك، وعلم أنه مطلوب على ذمة محاولة اغتيال وزير الداخلية السابق حسن أبو باشا، ففر لأفغانستان!

ومن هنا فإن فك الجولاني ارتباطه بالقاعدة لا يعني الانسلاخ من الفكرة، لكنه عاد للأصل بدون أي مؤثرات خارجية، وقيل إن الظواهري هو من نصحه بفك الارتباط بتنظيم القاعدة!

نقطة أمان للسيسي:

ومهما يكن فنحن أمام إسلامي لم يترب على فكر الإخوان الإصلاحي، والانتصار الأول للإسلاميين كان في أفغانستان، ولم يكن أيضا على أيدي الإخوان، فإخوان أفغانستان كانوا كإخوان العراق، مع المحتل!

وهي نقطة أمان للسيسي، الذي صار يأمن بالفعل من بوائق الإسلاميين بالجملة، لذا فإن التفكير في حلحلة الأزمة لم يضع في اعتباره المصالحة، ولكن إحداث انفراجة بدأت برفع أسماء 716 من قوائم الإرهاب، وهذا ضد طبيعة الأشياء!

فقد وقر في قلب السيسي أن حالة السماح الديمقراطي في السنوات الأخير من حكم مبارك، وراء ثورة يناير، لذلك فقد أغلق الباب الذي يأتي منه الريح، فالإعلام كله صار قبضته، والمعارضة لا منبر لها!

بيد أن الثورة السورية ضربت اعتقاده هذا في مقتل، فبشار الأسد كمم الأفواه، وأغلق السجون على من فيها، ولم يسمح بأي رأي ولو كان على سبيل النصيحة، واستخدم القنابل الحارقة في الانتقام وقمع التمرد عليه، واستعان بقوات أجنبية لتساعده في هذه المهمة، وسيطر على المشهد السوري بالكامل، وبدت المعارضة مستسلمة للأمر الواقع، ولم يكن يعلم أن النار تحت الرماد، فكان اندلاع الثورة من جديد مفاجأة له وللكرملين وللبيت الأبيض نفسه.. فمن كان يصدق أن الثورة الجريحة، المسفوك دمها، ستقوم لها قائمة من جديد؟!

إنه وضع وإن جعل من مسلّمات الجنرال كأنها عهن منفوش، فإن الفزع له ما يبرره، وإن خفف من جرعته أن الثورة المصرية لم تكن مسلحة في أي لحظة، إلا أن هناك خوفا من الذئاب المنفردة، ومن تأثيرات الثورة السورية على المزاج، كما أثرت الثورة التونسية على المصريين، لأن السلمية تتفق مع مزاجهم العام!.. والخوف كذلك من هذا الانهيار السريع لدولة الأسد، جيشا، وقبيلة، وحزبا، وحكومة!

فزع في محله!

x.com/selimazouz1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق