ماذا تريد "إسرائيل" من سوريا الآن؟!
ساري عرابي
كان الجيش الإسرائيلي، حين كتابة هذه المقالة صباح الثلاثاء 10 كانون الأول/ ديسمبر قد اقترب من دمشق حتى 20 كيلومترا، واحتلّ في الأثناء العديد من القرى بعدما سيطر على جبل الشيخ ومحافظة القنيطرة وتوسع باتجاه درعا، ونفّذ 300 غارة، دمّر فيها الطائرات والسفن والصواريخ ومراكز الأبحاث السورية.
وقد ظلّت الصحافة الإسرائيلية تتحدث بنحو واضح عن خطط إسرائيلية تجاه سوريا من مستويين، الأول تشييد منطقة عازلة داخل الأراضي السورية تتضمن أجهزة رادار وإنذار مبكر وتتحكم بالاتصال الجغرافي بين سوريا ولبنان من جهة الجنوب، والثاني محاولة مدّ خطوط الاتصال بقوى سورية، عرقية أو طائفية، وتحديدا الأكراد والدروز، وقوى المعارضة المسلحة في الجنوب السوري، لضمان نفوذ إسرائيلي داخل سوريا، وهي تصورات تصل أحيانا حدّ التطلّع لتشكيل قوى لحدية محاذية تمثّل حائط صدّ أوّلي، وعنصر افتراق سوريّ داخلي.
على أية حال بات الإسرائيليون الآن يتحدثون عن عشرات آلاف الدونمات داخل العمق السوري يزعمون أن البارون إدموند جيمس دي روتشيلد اشتراها زمن الدولة العثمانية لصالح الوكالة اليهودية، وهو ما يعني أنّ المشاريع الاستيطانية في الجوار العربي محفوظة في الأدراج الإسرائيلية إلى حين توفر الظروف المواتية، وهذا ما يذكّر بمقتل عالم الآثار الإسرائيلي زئيف إيرلتش (71 سنة) في جنوبي لبنان في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، والذي ذهب مع الجيش الإسرائيلي للتنقيب عن أيّ شيء يمكن عدّه مستندا تاريخيّا لتسويغ الاستيطان في جنوبيّ لبنان!
والحاصل أننا إزاء وقائع حقيقية وهي التوغل والقصف والتدمير، وأخرى تبدو أحاديث إسرائيلية؛ لكنها بالضرورة لن تكون بالنسبة للإسرائيليين مجرد مقالات صحفية أو دردشات تلفزيونية، بل ستسعى المؤسسة الإسرائيلية لإنفاذها بمحاولة الاتصال مع قوى داخل المجتمع السوري، وعلاوة على كون هذه سياسة إسرائيلية تاريخية وصلت إلى ما هو أبعد من مجالها الجغرافي الحيوي اللصيق، فمن المؤكد أن تدفع نحوها في مجالها هذا، فإنّ "إسرائيل" بطبعها لا تطمئن إلى أيّ ترتيبات قائمة، وتسعى لضمان أمنها وتستعد لأي تحولات مستقبلية وتشتغل على تعزيز موقعها ومراكمة نقاط قوتها التفاوضية المحتملة؛ باستثمار الفرص والمبادرة الذاتية التي تهتمّ بتكريس الوقائع وتعظيم القدرات الدفاعية والمواقع الهجومية.
ينشغل الناس والحالة هذه، باللحظة الراهنة، سواء فيما تعلّق بالنظام السابق، نظام بشار الأسد، الذي وبدلا من الاستناد إلى شعبه في مواجهة "إسرائيل"، فضّل تهجير الملايين من شعبه وتدمير مدنهم فوق رؤوسهم على أيّ تسوية سلمية وطنية تحفظ البلد ومقدّراته، فلم يفده الامتناع عن مواجهة "إسرائيل" في الحفاظ على حكمه أو حماية البلد أو الحفاظ على مقدّراته، وفوق ذلك، لم يفكّر بكيفية الحفاظ على ما لديه من أسلحة ومختبرات عسكرية، ولو بنقلها إلى حلفائه في الإقليم، أو فيما تعلّق بالحكام الجدد القادمين من المعارضة، الذين يتساءل الكثيرون عن موقفهم من التوغل الإسرائيلي في الأراضي السورية، والغارات المستمرّة على مقدّرات البلد، إذ يمكنهم في الحدّ الأدنى الاستناد إلى الدولة وإرسال رسالة احتجاج من خلال الحكومة المؤقتة للأمم المتحدة على الاعتداءات الإسرائيلية.
لكن ما هو أهمّ من هذه السجالات، فهم السلوك الإسرائيلي تجاه المنطقة العربية والتحوّلات التي تجري فيها، فإنّ "إسرائيل" لا تسمح لأحد في البلاد العربية أن يثبّت أوضاعه قبل أن تأخذ منه ضماناتها، فكل نظريات الانتظار والصبر الاستراتيجي تحطّمت على صخرة المبادرة الإسرائيلية، وكل الأوضاع المستقرّة مشروطة بالتفوق الإسرائيلي، وهو ما يستدعي أقدارا متفاوتة من القهر وانتهاك الكرامة الآدمية للإنسان العربي في دوله المتعددة، مما يفرض "إسرائيل" بالضرورة قضية عربية، لأجل كلّ بلد عربيّ، وليس لأجل الفلسطينيين وقضيتهم، ومن هذه الحيثية تكون القضية الفلسطينية قضية عربية، لا قضية الفلسطينيين وحدهم.
بقطع النظر عن أي نوايا أو أي ترتيبات إقليمية بخصوص المشهد السوري الراهن، فإنّه من المفهوم تماما، انعدام القدرة السورية الآن على مواجهة العدوان الإسرائيلي، علاوة على كون "هيئة تحرير الشام" مصنفة على قوائم الإرهاب، وهو ما قد تتغطى به "إسرائيل" للتوسع في عدوانها، إضافة إلى كون وقف إطلاق النار على الجبهة السورية لا يستند إلى اتفاق سلام وإنما إلى اتفاقية فض اشتباك مما يجعل "إسرائيل" تتصرف على أنّها في حرب بالفعل، إلا أنّ الوعي بالمشروع الإسرائيلي الرامي إلى تأكيد السيادة الإسرائيلية على دول الجوار هو واجب أيّ قوّة حكم جديدة، ولا سيما إن جاءت في سياق اعتراضي على عقود الحكم الماضية.
هذا التفوق الإسرائيلي المراد، يسعى أولا إلى فرض الهشاشة العسكرية على الدول المجاورة، وحتى الاقتصادية والاجتماعية، وفي حالات معينة يسعى الإسرائيلي للتحالف الضمني أو الصريح مع قوى أهلية على أساس طائفي أو عرقي. والدفع نحو التقسيم مصلحة إسرائيلية متوخاة ويجري العمل عليها، ليس بهدف إضعاف الدول العربية فحسب، ولكن أيضا لجعل "إسرائيل" بطابعها الطائفي شيئا طبيعيّا.
ولضمان العمق الاستراتيجي فإنّ الخطط الإسرائيلية تتراوح بين الجرّ إلى الاتفاقات الإبراهيمية، أو خلق عمق استراتيجي في أراضي الآخرين، أو فرض مجال حيوي بالفعل العسكري المباشر الذي تسميه "المعركة بين الحروب"، والذي يتحول في الحالتين السورية واللبنانية، أقلّه في الظرف الراهن، إلى "عمليات جزّ العشب" المعتمدة في الضفّة الغربية، وهذا كلّه يوجب أن يكون الموضوع الإسرائيلي حاضرا في مستوى الوعي والاستعداد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق