“سمراويت”[1]
فنٌ من الغربة والهوية
محمد الأحمري
عاودني مزاج قراءة الروايات، وهو مزاج يذهب بهدوء ويجيئ بعنف، ولا أدري هل السبب الفراغ أو الهروب من الواجبات، وكلا كاتب الرواية وقارئها هارب من آلام غربة أو زحام فكرة، أو تاريخ أو حادثة غايته أن يبتعد عن عالم الحقيقة، فيلوذ كاتبهاsamrawait بالخيال ويقول لنفسه سجّلها هناك على لسان غريب يريحك منها ومما يحزّ بخاطرك، وليسامحني من لم تكن الرواية له صنعة يعيش منها أو من نقدها، أو يراها مفرّجة عمّا به من كروب ولا كانت الرواية مهنته في الحياة، أن أقول: إنها عندي من زائد القول وتساليه، ذلك القول الذي نحبه ونتحاشاه، لأنه يأكل الوقت بلا عائد معرفي، أو هو قليل المعرفة جدا، وكثير منه قليل الفكرة والحكمة أيضا، ولأن فن الرواية المعاصرة جازف فيه من يعرفه ومن لا يعرفه، ومن حقق بعض لغته ومن فاتته، ثم إن جد الحياة وأحزانها جعلنا لا نرى الرواية إلا محطة استراحة من جد القراءة، أو مهربا من عنفوان الواقع.
ولهذا كان التقليل من قراءة الرواية رغبتي وإن لم تكن طريقتي، ولولا روايات خالدات فرضن أنفسهن بسلاح الشهرة والتاريخ، لما سرت في دربها، ثم لما وقعت عيني على صفحاتها وجدت بعضها جداً من أعلى الجد، بعيدة في خيالها عن وهن العبث أو مجرد التجربة؛ فهل كتب الساسة ومفكروها نصا أمتع أو أبلغ مما تخيله وتأمله أورويل في رواية “مزرعة الحيوانات”؟ غير أني كنت قد قرأت أن شيخ المفكرين المعاصرين يقول إنه لا يقرأ في العام إلا قليلا جدا من الروايات ربما روايتين أو ثلاث، ولا يشاهد من الأفلام إلا نحوها، قلت نِعم السنة يا تشومسكي، فما كنت لتبرع عقلا ونطقا وسياسة وأنت تغرق في زيف كلام الروائيين، أو ما يلهي عن حقائقه.
قرأت رواية “سمراويت” لـ: حجي جابر، ولولا أن الرواية أهداها لي مؤلفها وصادف أن زارني بعد وصول روايته، فكان حديثه مدخلا لقصته، واستمتعت بحديثه عن أرتيريا المغلقة عن العالم وعن أهلها في خارجها وعلى المقيمين في داخلها، ثم كان وقوع أحداث إرتيريا في مطلع العام 2013م تتطلب معرفة وقربا، فزادت من الحرص على معرفة البلاد وفنها، وإلا فإن من ترك بضعة عقود من القراءة وزحمة الكتب وراءه يقلّ طموحه للمغامرة مع كاتب شاب مغامر فأنى له أن يأتي من بعيد ليشغله بقراءة عمله، ولذا فلا تنسوا أن عمر القارئ من الحكام على أي عمل، ومن عاصر كبار الروائيين ولم يقع في هوى رواياتهم فأنى له أن يقع في هوى روايات كل جَذع هاوٍ من محسن أو مسيء.
حاولت أن أقنع ضيفي الروائي بأنه سوداني بسبب مزاجه وأقاصيصه السلسة المتهاونة، التي عليها مسحة السودان المتسامح، وليست لذعة الجبال الصارمة، فأصر أنه إرتيري، تحدثنا قليلا عن روايته، ثم قال وهو خارج “روايتي حواديث فلا تهتم” ولكنه ما إن خرج وأغلق الباب حتى غِرت على روايته، فما كف عيني عنها إلا هجوم النوم.
وقديما قالوا: “إن أول رواية للكاتب سيرة ذاتية”، ومن هنا فقد وجدت تماسكا بل تماثلا شديدا بين السيرة الواقعية للمؤلف كما قص بعض مشاهدها وبين بطل روايته، إذ تقص الرواية خبر رحلة “عمر” الشاب الإرتيري الذي ولد في جدة من أبوين إرتيريين ثم عاد إلى بلده الأصلي إرتيريا الذي حدثه والداه عنها كثيرا، فالبلد حاضر في البيت دائما في كل شيء ولكنه غائب دائما، فهو لم يره أبدا وفي وسط الثلاثينيات من عمره يغامر ويزور لأول مرة بلده الذي يسمع عنه.
روايته تراوح فصلا بعد فصل بين مدينة جدة مغتربه أو “الوطن” الذي ولد فيه وعاش ولعب وتعلم ومزح وحزن وصادق حيث تكوّنت حياته الاجتماعية والثقافية، ولكنه أيضا غريب فيه وعنه قانونيا، فيقرر أن يزور بلاده الغريبة ويلتقي بطلنا “عمر” في أسمرا بـ “سمراويت” الغريبة مثله عنه وعن بلدها، ثم يسير بك النص رخاء في غير عجلة ولا بطء كسفينة المهاجرين الأول قديما إلى بلاد الحبشة “إرتيريا” كما يلمّح -بل يوضح لك- الراوي.
”سمراويت” تقطر شعرا وشفافية، وحواديث وصور جمّلها بافتتاحات من الشعر لكل فصل، انتخبه بذوق رفيع، فأنت تقرأ في مفتتح كل فقرة قولا لأحد شاعرين بادل بين أبياتهما طوال الرواية، فلعله أشفق عليك ألا تكون قد انسجمت معه كثيرا، أو خاف أن قوله يحتاج لشفاعة شاعر، أو لصورة مجلوبة من قصيدة، أو ليقول لك خذ على الطريق صورة فنية خالدة ربما كان مأسورا بها ذات يوم، فتقرأ مفتتحه لأحد فصول الرواية لمحمد الثبيتي:
يا وارد الماء علّ المطايا
وصب لنا وطنا في عيون الصبايا
فما زال في الغيب منتجع للشقاء
وفي الريح من تعب الراحلين بقايا
يا “حجي جابر” صدر الناس عن مورد الرواية، وها أنت ترد وتعلّ، لقد أطرب في بدء القول فلنصحبه إلى منتهاه، وقد شوقت في روايتك لمعرفة المزيد عن بلادك القريبة البعيدة عنّا وعنك، وما دمت قد أرويت مطاياك لتوصلك بعيدا، وصنعت لنا وطنا في عيون الصبايا فلا يسعنا إلا أن نكمل الرحلة معك، وإن تعبنا من القراءة فهو تعب نذروه في الريح ليبقى خالدا فيها ويعرفه الراحلون إلى بلدك مستقبلا. أم تراني هنا خلطت بين الشاعر والراوي وكلاهما من قبيل ومكان بعيد؛ ولكن لا، ففي رواية حجي تماسك مصيري بين مطايا الثبيتي الحجازي ومطايا أسمرة على الشاطئ المجاور.
حجي “أو عمر” ترك أرتيريا جنينا في بطن أمه وهاجر به والداه إلى جدة، فتكوّن عربيا ذلق اللسان سلس القلم ينظر بعين تراثه ويرسم عالمه الذي صنعه، ولكم اشتقنا لأرتيريا عربية فأعادها جارة قريبة غضة خفيفة مازحة وعاشقة وشاكية باكية من الغبن والضياع على دروب الغزاة وقسوة المحررين من أبنائها الذين أرادوا تحريرها فقيدوها وأخافوها، وزادوها فوق الضعف فقرا وعزلة.
في الرواية نقاش جميل عن حال إرتيريا وتحولاتها، فهي حاضرة ليس ذلك في لقاءات الإرتيريين في جدة بل في مجتمعها الثقافي وفي منتدياتها جولات نقاش عن إرتيريا في منتديات المثقفين في جدة في النادي الأدبي، وفي ثلوثية د. سعود مختار، وثلوثية المكية مع عنقاوي، وأحدية محمد سعيد طيب، وإثنينية عبد المقصود خوجة، كيف وإرتيريا أقرب المنازل للحجاز بل كانت أقرب من كثير من أرجاء الجزيرة العربية، وقربها كان من أسباب الهجرة الأولى للصحابة إليها، ثم ينقل الراوي عن الأديب الحجازي محمد صادق دياب أنه عشق أسمرا قديما وأكثر من زيارتها، ويوم كان في الفندق “فوجئ بالشرطة تطرق الباب، وظن أن في الأمر خطأ، لكنه سرعان ما عرف سبب وجود الشرطة، فقد أخبروه أن جواربه المعلقة على جانب الشرفة المطلة على الشارع تشوه المنظر العام. وضجت القاعة بالضحك والتصفيق” ص 50
ثم ينقل مشاهد من سفارة الحكومة الإرتيرية في جدة التي ترتشي في النهار من الفقراء المهاجرين وتقيم حفلات القمار الأسبوعية المخصصة ليوم الجمعة وفي مجتمع يقال عنه: “محافظ”.
الرواية لقاء وسجال بين عمر وسمراويت، بين المُغتَرب العربي “جدة” والمُغتَرب الأوروبي “فرنسا”، شعب يهيم في المغتربات، بين البلد والمهجر، وبين جدة وأسمرة ونادرا ما ذهبت الرواية لمدن أخرى.
ينقل عن جدة المدينة التي ولد وعاش فيها فكانت هي الوطن الوحيد الذي رآه، وقد أصبح من محبيها “لأنها غير” لولا أنها عدّته من الغرباء، ويروي لنا عن صديقه الأرتيري أيضا الذي كان يتعصب للنادي الأهلي”قبل أن يتردى أسوة بأشياء كثيرة” وقبل أن تميزه السلطة بغربته وقبل أن يوقفهم الشرطي، ثم يختصه بصفعه لأنه ليس أصلا من هنا، عندها أحس الصديق بغربته فيها: “أصبح يشجع كل المنتخبات، كل المنتخبات بلا استثناء حين تلعب ضد المنتخب السعودي” ص 142.
للأسف تظهر صعوبة التنقل والمعيشة أمام العربي في العالم العربي أكبر أحيانا مما لو كان في غيره، وتشعرك نظمه بغربة عنه أكثر، بسبب العوائق القانونية التي تحاصر العربي في بلد عربي آخر وقد تعطي الأبعدين تسامحا قانونيا أكثر مما يعكر الحياة ويصعبها بين المتجاورين.
لدى كل الغرباء ثقافة خاصة يحملونها عبر البلدان والثقافات، وتجد صورة منها عند حجي وهو ينقل عن جدته تحذيرها من تقبل عادات مجتمع جدة حتى لا يعتادوها “فسنبدو كالغرباء حين نعود” ص 148 ولهذا فعلى الشاطئ القريب المجاور هوية وثقافة أخرى تحذر الجدة من نسيانها ومن فقدان هويتها.
للسياسة نصيب في الرواية لم يكثر؛ بل كاد أن يقل، لمن يقرأ أول رواية عن إرتيريا “العربية”. الرواية فازت بجائزة الشارقة للإبداع العربي، وهي تستحق الجائزة وأكثر، في الرواية بجوار الفن تاريخ لمهجر الصحابة في مصوع ولآثار مسجد تتجه قبلته للقدس، وفي الرواية هوية مستبطنة وقليلة الظهور، ثم يبرزها مكثفة وملخصة في صفحة واحدة يقص فيها عليك القصة في بلده التي لم يساعدها العرب، بل تخلّوا عنها دائماً، والكاتب يذكرك “بعمق العروبة ودورها” ثم يقول أو ينقل عن المناضل الأرتيري الشهير عثمان صالح سبي: “عروبتنا في إرتيريا هي مصيبتنا، ولكننا قابلون بها، ولا نرضى عنها بديلا. نعتقد أن مسألة العروبة في إرتيريا هي الأساس، لأنه لولاها لما كانت هناك حاجة للثورة أصلا..
إن إرتيريا المستقلة في ذلك الموقع الإستراتيجي الهام هي مع العرب اليوم وغدا وإلى الأبد، سوف يكون لها دورها في الشد على عنق العدو الصهيوني والمساهمة في خنقه..
إن الثقافة العربية والإسلامية في إرتيريا والقرن الأفريقي هي ثقافة مؤسسة منذ أكثر من ألف عام في هذه المنطقة وليست جديدة بل عميقة الجذور..
إن الدول الكبرى لا تريدنا لأن الصراع يدور حول مسألة العروبة وخاصة عروبة البحر الأحمر.. في إحدى زياراتنا لروما قالوا: لماذا تصرون على التعامل مع العرب؟ لماذا لا تتفاهمون مع إسرائيل؟ قلنا لهم نفضل التعامل مع العرب لأننا عرب فلا حاجز بيننا وبين الأثيوبيين سوى الثقافة.. إننا ننتمي إلى حضارة مختلفة وقد حارب الأحباش التعريب ألف سنة” ص 172
ضاقت إرتيريا بالتضييق وكبت الأنفاس حتى صديقه الذي توسط به في أسمرا ليجلب له سراً شريحة هاتف، يأتي بها ويصف الموقف: “دسّ سعيد شريحة هاتف في يدي.. هذه باسم خالتي خصصتها لأصدقائي الزائرين.. لا تخبر أحدا بذلك، كي لا تكون آخر من يستحدمها.” ص 61 وفي تعقيب للفتاة “سمراويت” الإرتيرية المغتربة التي يقابلها في أسمرا لتكون صاحبة بطل الرواية تتحدث عن حال وطنها أرتيريا وحجتها في المعارضة للنظام تقول: “الوطن ليس وجهة نظر، الوطن لا يعيش في المناطق الرمادية، إما أننا في وطن حر وديمقراطي أو أننا نعيش في ظلام التخلف والدكتاتورية، وأظن أنك تعرف تماما أين نحن، إلا إذا كان لك رأي آخر؟” ص 61
وخذ هذا المقطع عن حب الراوي للعربية وهو يصف قول أحد أدبائها الإرتيريين: “تخرج الكلمات من فمه وقد تعطرت بعربية فصيحة، وأدب باذخ” ص 73
الرواي المغترب عن بلده ينتهي حبه الطارئ للمغتربة العابرة أيضا ببلدها بقوله : “يا للأسى حتى الوطن بات مثلنا تماما شيئا طارئا” ص189.
هذه الرواية لا تغرق في حزن دائم ولا في مرح دائم، وتلبس كل الأحوال؛ أخيرا يبدو أن الرحلة والمحبة والغربة والثورة تنتهي نهايات متشابهة!
سمراويت أم أسمرا إرتيريا البلد أم المرأة التي تمنّى أن يتزوجها فأبت أمها، مالذي لقي هناك؟ هل هو ما قيل له إنه بلده أم أنه رأى غيره، ما تصوره أم خلافه، أهو البلد الذي ينتهي بعيدا ولا يوصل إليه، أ هي الذات التي لا تتحقق، والهوية الغائبة في المهاجر والمنافي، التي لا تلتقي ولا تجتمع، ولا تحقق ذاتها في مكان، أم البلد فكرة في عقل مهاجرين يندمج فيها كالباقين، كاندماج محب لمعشوقه فهو هي وهي هو؛ يقول عن سمراويت: “مالذي حدث؟ لم تسمعني، لم أسمعني” ص 185.
لكأنه يعيد لك قولهم من قبل صدقا أو تصنعا:
قال لي المحبوب لما زرته من ببابي قلت بالباب أنا
قال لي أخطأت تعريف الهوى حينما فرقت فيه بيننا
فهو يناديها ولكن: “لم أسمعني” أو هي كما قال الشاعر اليمني الفسيل:
أنا يا محبوبتي أنت فهل أنت أنا؟
مزج الراوي لنا بين أسمرة وسمراويت بين الذات والبلد، وما حققه الراوي من تجانس وذكاء في رحلته، من ذهاب وإياب بين فصل وآخر تقنية لطيفة في ذكرياته عن بلده وغربته وزيارته، أو بلد حياته وميلاده وبلد قيل له إنه منه. ولعل قوتها في قرب الحقيقة من الخيال، أما إن لم يقصد هذا فما الناقد إلا مؤول على أطراف نص، يقدم فهمه أكثر مما يقدم نص غيره، وليبقى العمل مفتوحا للتفسير.
شكرا لسمراويت أو أسمرة وللباسها الوردي البراق من غلافها إلى منتهاها.
شكرا حجي جابر أيها الموهوب، فما قرأت الرواية لأكتب عنها، ولكنها أجبرتني على الكتابة ليس لأنها أول عمل أدبي أقرأه من أرتيريا، ولكن لأنها جميلة، وفنها الكبير في خفاء الفن فيها، وجمال لغتها، جئتها عابرا للتسلية، ولكنها قالت سأبقى هنا في الذاكرة.
[1] حجي جابر، سمراويت، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2012، ط الثانية، 189 ص.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق