الجمعة، 20 سبتمبر 2013

الدور الأمريكي في انقلاب تشيلي

الدور الأمريكي في انقلاب تشيلي


سلفادور الليندي

طوال الأسبوع الماضي -وبينما كان العالم يحيي ذكرى 11 سبتمبر 2001- كان شعب تشيلي يحيي ذكرى 11 من سبتمبر آخر جرت وقائعه في عام 1973م؛ ففي ذلك اليوم كان للتشيليين موعد مع التاريخ، حيث تمت الإطاحة بالرئيس اليساري المنتخب سلفادور الليندي في انقلاب دموي.
ففي 11 من سبتمبر 1973 تحولت العاصمة سانتياجو إلى كرة من اللهب، وحوصر القصر الجمهوري وتم قصفه بالطائرات، فاشتعلت النيران في القصر وفي داخله الرئيس الليندي.
وبعد ساعات ألقى الرئيس من داخل القصر خطابًا مقتضبًا ومؤثرًا لقي نحبه بعده، وسط روايات تتواتر حتى اليوم تقول: إنه انتحر لئلا يقع في أيدي خصومه. وروايات أخرى تقول: إنه قُتل.
وقبل أن يتم إطفاء النيران التي أضرمت في القصر، كان الجيش قد أحكم سيطرته على البلاد، وتولى الحكم بعدها مجلس من ثلاثة جنرالات؛ منهم أوجستو بينوشيه الذي تخلص تدريجيًّا من الاثنين الآخرين، ليحكم تشيلي وحده بالحديد والنار لمدة 17 عامًا كاملة.
وسلفادور الليندي -الذي كان يؤمن بأن الديمقراطية هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق العدل الاجتماعي- مَثَّل عند وصوله للحكم عام 1970 تهديدًا مباشرًا لخليط من القوى اليمينية والمصالح الاقتصادية العملاقة وللولايات المتحدة الأمريكية؛ فهي كانت المرة الأولى التي يفوز فيها بالرئاسة اشتراكي يحظى بشعبية.
وقد سعت الولايات المتحدة بكل الوسائل لمنعه من الفوز في الانتخابات أصلاً، ثم حين فشلت وفاز الليندي فعلاً، بذلت جهودًا مضنية لمنع تنصيبه رئيسًا من جانب الكونجرس -البرلمان- التشيلي، وفشلت للمرة الثانية وتولى الليندي الحكم.
لذلك -ومنذ اليوم الأول لليندي في الحكم- كانت إدارة نيكسون قد اتخذت قرارًا بالتخلص منه بأي ثمن؛ فالليندي قام بعد توليه الحكم بتأميم الكثير من الصناعات الحيوية والخدمات الأساسية، ونجح في جعل الرعاية الصحية والتعليم متاحين للقطاعات الفقيرة التي حرمت منهما طويلاً.
وقد مثل التأميم والعدل الاجتماعي خطرًا مباشرًا على مصالح النخبة التشيلية اليمينية، والمصالح الاقتصادية الكبرى والولايات المتحدة.
فالشركات العملاقة عابرة الجنسيات دخلت منذ اللحظة الأولى في صراع مع الرئيس الجديد، وكانت على رأسها الشركة الأمريكية للتلغراف والتليفون، المعروفة اختصار بـ"تي أند تي"، التي كانت تسيطر قبل وصول الليندي للحكم على 70% من سوق الاتصالات في تشيلي.
أما الولايات المتحدة الأمريكية -ففضلاً عن ضغوط شركة تي أند تي- فإن وزير خارجية نيكسون وقتها -هنري كيسنجر- كان المفكر والمهندس للانقلاب؛ فقد كتب تقريرًا سريًّا لم يكشف عنه إلا مؤخرًا، قال فيه: إن بقاء الليندي في الحكم يمثل خطرًا على الولايات المتحدة، فهو أول اشتراكي يصل للحكم بالانتخاب، وهذا يقوض البروباجندا الأمريكية التي سعت لإقناع الناس بأن الاشتراكيين والشيوعيين دمويون وقمعيون ولا يؤمنون بالديمقراطية.
ثم إن نجاح الليندي يمثل في ذاته تهديدًا؛ لأنه سيكون ملهمًا لدول أخرى لتحذو حذو تشيلي بخصوص السياسات المستقلة والتأميم والعدالة الاجتماعية، وقتها قال كيسنجر عبارته الشهيرة: «لا أعرف لماذا يكون علينا الصبر على نظام شيوعي أو اشتراكي، لمجرد أن شعب بلاده غير مسئول»؛ لأنه انتخبه.
وقد عملت الأطراف الثلاثة -النخبة التشيلية، والمصالح الاقتصادية العملاقة، والولايات المتحدة- ليس فقط على التخلص من الليندي، وإنما التخلص من تيار اليسار عمومًا؛ وذلك عبر خطة ممنهجة استمرت ثلاث سنوات، حتى انطلق الانقلاب بالفعل في 1973.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة أنكرت وقتها تمامًا أي دور لها في الانقلاب، الذي دخلت بعده تشيلي في مرحلة مظلمة من المذابح الجماعية والاختفاء القسري، فإن وثائق كثيرة خرجت للعلن في التسعينيات، فضحت دور المخابرات الأمريكية القوي في الانقلاب، وذلك بعلم نيكسون.
فقد أثبتت تمويل المخابرات الأمريكية لقتل الجنرال التشيلي رينيه شنايدر، الذي رفض تدخل الجيش لمنع الكونجرس التشيلي من تنصيب الليندي رئيسًا عام 1970، فضلاً عن مكافأتها للقتلة بأموال ضخمة بعد تنفيذ المهمة، وهو الدور الذي اعترفت به المخابرات الأمريكية رسميًّا، بعد افتضاح أمرها.
وبفضل الصحفي الأمريكي بيتر كورنبلو أجبرت الحكومة الأمريكية على الإفراج عن 20 ألف وثيقة أخرى، كشفت الدور الذي لعبه البيت الأبيض والمخابرات الأمريكية في الانقلاب؛ حيث كشفت عن دور المخابرات في دعم نظام بينوشيه وتمويله سرًّا منذ اللحظة الأولى.
وكان موقف إدارة نيكسون من المذابح التي كان يرتكبها نظام بينوشيه، لا يزيد عن كلمات علنية جوفاء إذا ما اضطرت إلى ذلك، ثم مطالبته سرًّا «بالحذر لئلا تؤدي قضايا صغيرة بجعل تعاوننا أكثر صعوبة»!
وفي الذكرى الأربعين للانقلاب لا تزال المشاعر متأججة في تشيلي، وقد شهدت البلاد يوم الذكرى إحياء لها وبعض العنف.
فتشيلي على ما يبدو لا تزال تنزف رغم مرور كل هذه الأعوام، فهناك الآلاف الذين اختفوا في عهد بينوشيه ولا يعلم أهلهم عنهم شيئًا إلى الآن، وهناك مَنْ فَقَدُوا ذويهم، أو من خضعوا للتعذيب والملاحقة؛ لذلك فإن فترة حكم بينوشيه لا تؤثر فقط على حاضر تشيلي، وإنما ستظل تلعب دورًا مهمًّا في مستقبلها أيضًا.
فانتخابات الرئاسة المزمع إجراؤها في نوفمبر تخوضها سيدتان:
الأولى إيفلين ماتيل ابنة الجنرال فرناندو ماتيل، الذي اشترك في انقلاب بينوشيه، وعمل معه طوال مدة حكمه، والثانية المتقدمة على الأولى هي ميشيل باتشيلي، ابنة الجنرال ألبرتو باتشيلي، الذي رفض الانقلاب على الليندي، فعذبه نظام بينوشيه في السجن حتى الموت.
وفي ذكرى الانقلاب قالت باتشيلي وسط دموعها: إن الجروح لم تندمل بعد. وقرظت «أولئك اليمينيين» الذين لم يعتذروا بعد ولم يعترفوا بمسئوليتهم عما جرى في عهد بينوشيه. ومن بين تلك الجروح بالطبع، جرح غائر سببته أمريكا.
المصدر: البيان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق