الحركات الاحتجاجية في الوطن العربي ..
رؤية مستقبلية وتقييمية (2/2)
د. محمد الأحمري
* المؤسسات المدنية والاحتجاج:
للمؤسسات المدنية دور خطير في نجاح الاحتجاجات، وعند غيابها يكون المجتمع في أسوأ أحواله ويسمح في هذه الحال بالعنف.
ولو نظرنا إلى الدول العربية الخمس: تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية؛ لوجدنا أن التغيير الأسهل يتم في المجتمع الذي فيه مؤسسات مجتمع مدني، وأنه كلما كان المجتمع خاليا من المؤسسات المدنية كان الحل هو القتل والعنف إلى آخر قطرة دم؛ بسبب غياب التمثيل المدني المجتمعي.
ففي تونس تاريخ طويل للنقابات، وعمل اجتماعي مواز للسياسي منذ زمن الثعالبي في العشرينيات الميلادية، إذ كانت راسخة في المجتمع، وهناك الحزب الدستوري، والاتحاد التونسي للشغل، بالإضافة إلى أحزاب منها حزب السلطة، والأحزاب القوية المنافسة لم تتمكن السلطة من القضاء عليها رغم السجون والطرد ومختلف أنواع التضييق.
ولما جاءت لحظة الاحتجاجات لم تكن هذه الأحزاب هي من بدأ ولكنها كانت موجودة وساهمت مباشرة في الصمود ضد الحاكم وشاركت في إنجاز العمل، وكان للإخوان المسلمين دور كبير ليلة الجمل في ميدان التحرير.
وكذا بقية الأحزاب المصرية، كان لخطابها وفكرها ورؤيتها وعلاقاتها الممتدة أثرها في إنجاز الثورة وتنظيم ما يلزم لإنجازها، وإن كان يتجه للسلب في بعض المواقف.
وفي تونس ومصر سوى النقابات والأحزاب عامل آخرُ مهم: هو رسوخ تقاليد غربية في هذه البلدان، فقد كان في هذه البلدان أحزاب ومؤسسات منذ العصر البريطاني والحقبة الفرنسية، والحكومات الغربية تزرع في البلدان بذورا للحرية والانتخابات وتبادل السلطة.
وكان من لطائف تعليقات أحد الباكستانيين على نظام حكومته: أن الباكستان لا يستقر في حكمها حاكم زمنًا طويلًا ولو لم يكن ديمقراطيا، حتى لو كان عسكريا أو غيره؛ لأن البريطانيين رسخوا في ثقافة الهند وباكستان معاني من ضرورة تبدل الحاكم وتغييره لا يقدر مستبد على كسرها.
كذلك في الحال التونسي والمصري؛ رغم قسوة بن علي وطول عهد مبارك، فإن هناك مؤسسات وثقافة غرست في المجتمع، وحريات سرعان ما تظهر على السطح برغم قسوة المستبد وشره، وهناك مؤسسات بسقت وأثمرت في هذه المجتمعات لا تخضع تماما لسلطته.
فنجد في مصر حرية صحفية واسعة رغم استبداد وفساد السلطة، لم يستطع الحكم إنهاءها، أو لم يكن يبلغ حدًّا من القسوة يجعله ينفذ ذلك، وهو لم يستطع استمرارها ولم يقبلها من ناصر ولا من السادات، وما كان للسادات إلا أن يفتح مصر بعد دكتاتورية ناصر.
ولم يكن مبارك قادرا على إغلاق المجتمع، وقد استفاد من قتل السادات أنه كان بسبب التضييق على الرأي والحريات وبسبب الصلح مع الصهاينة. وكان قد عاش في شبابه زمنا حرا، وكذا عاشت الأجيال التي بنت تونس الحديثة بقية بنية حزبية ومدنية فرنسية، وهي مهما كانت علمانية فقد رسخت في بناء مدني وحزبي ونقابي أصبح طريقة العمل الاجتماعي والسياسي في البلاد، وهو المشروعية المستقرة.
وكانت هذه البنى من أهم ما ساعد على الانتقال لعهد جديد. أما في اليمن فهناك بنية حزبية، وهناك مجتمع فيه بنى سابقة لعصر الأحزاب وهي القبائل، ولم تدخل البلاد عهدا دكتاتوريا اقتصاديا ولا سياسيا، بسبب فقر وضعف الحكومة المركزية، وبسبب وجود تقاليد حزبية في الجنوب ودخول حكومة صالح للمشاركة بمشروعية حزبية.
ثم إن وفرة السلاح ومخاطره جعلت المحتجين والثوار يلتزمون بسلمية الثورة بأي طريقة، علما بأن الحاكم كان ملتزما بالبحث عن وسيلة لتحويل الثورة السلمية إلى عنف ولم يستطع. أما ليبيا وسورية، فقد تمكن حكامها على مدى يزيد عن أربعين عاما من القضاء على أي مؤسسة ليست لهم، ولا تخضع لنفوذهم الصارم النهائي.
ولهذا فلا يبدو من مخرج إلا العنف فقط. وكذا المجتمع الذي يفتقد لأي بنية مدنية فإن السياقات الوحشية بالعنف كانت هي الحل للخلاص من شره ونجاح الاحتجاج ضده، فهو عندما يخرج على السلوك المدني والحضاري فلا يجد الشعب من تعاملٍ معه إلا بطريقته التي يختارها.
* الاحتجاج الحقوقي:
في الحكومات المستبدة تكون “ملاحقة المدافعين عن حقوق الإنسان أشد من ملاحقة الجواسيس” (10) لأن المستبد لا يرعى ولا يحمي مصالح عامة بل يدور حول مصلحته هو في مواجهة المصالح العامة، مهما زعم الاهتمام بالصالح العام، فلو كان له نصيب من الاهتمام بالمصلحة العامة، فإن حقوق الناس هي سبب وجوده في منصبه، ولا يليق به الوقوف في وجهها وقد نُصّب لحمايتها.
وهذا هو الفارق بين حكومة شرعية وغير شرعية، فالشرعية تقيمها الأمة لخدمة مصالحها، ذلك أن حصول الناس على حقوقهم المشروعة هو ما يحدد مشروعية الحاكم؛ فإن كان شرعيا فمهمته رعاية الحقوق، وإن كان ذاتيا فهو ساع كأي فرد صالح أو طالح وراء رغباته ومكاسبه الخاصة.
ولم تزل الاحتجاجات الحقوقية في بدايتها في عالمنا، ولكنها في طريقها لأن تصبح أساسا عمليا للتعاقد بين الأمة والسلطة، وهي من أولى أسباب الاحتجاج، ومن هنا كانت أهمية وجود الحقوق ــ مكتوبة أو راسخة لدى الجميع ــ أساسا لتعاقدهم بينهم، وليكون العدل أساس الكيان السياسي، يقفون سواسية أمام قضائهم ومسؤولياتهم ومجالسهم التشريعية والتنفيذية، التي تكون مؤسسة من قبل سلطة منتخبة شرعية أو ما يشبهها غير منحازة لطبقة ولا طائفة ولا عنصر ولا جنس.
والاحتجاجات الحقوقية ظهرت مشمولة في حركة الاحتجاج العربية العامة وصرخ بها المحتجون و هتفوا بمحاسبة الحكام. وحركة الاحتجاج لصيانة الحقوق تتضمن بقية القضايا سواء أنوقشت أم لم تناقش، فليس لدى المحتج تفصيل ولا مطلوب منه فعل ذلك، بل يسعى لإيجاد أو إحياء الوضع الحقوقي الصحيح.
فالعالم يعرف أن غياب الحقوق القانونية، أو العبث بها، وسوء توزيع الموارد، والعبث بالاقتصاد والسياسة؛ من أكثر ما أصيبت به هذه المجتمعات، ويبقى أن إعلاء حقوق الإنسان راية عالمية محترمة ومثيرة للاهتمام ونظمت مؤسساتها، وأصبحت جزءا من ثقافة عصرنا، وكان غياب الحقوق وقود الاحتجاج.
* دور طلاب الجامعات الحرة في الاحتجاج مستقبلا:
صنع الطلاب في الجامعات موجات الاحتجاج الكبرى منذ قرابة نصف قرن، وكانت احتجاجات الستينيات في أمريكا وفي أوربا ذات أثر كبير على الإنسان في العالم ودوره الاجتماعي التحرري، فإن كانت فشلت في أوروبا في أن تغير كثيرا سوى التوجهات الاجتماعية والمواقف الأخلاقية بعد الحرب؛ لكنها كانت ذات أثر كبير في أمريكا في قضايا سياسية كبرى، أولها حركة الحقوق المدنية للسود، ثم في حرب فيتنام وخلاصهم من المذابح التي أقامتها أمريكا للفيتناميين، ثم في موقف آخر هو الضغط على جنوب إفريقيا لتنهي النظام العنصري.
وفي بريطانيا تحرك طلاب وأساتذة الجامعات وقاموا بدور كبير لمحاصرة الإرهاب الصهيوني، ومطاردة أثره في الجامعات، وضيقوا على الصلات بين الجامعات البريطانية والصهيونية. إن الجامعات لو تحررت في العالم العربي لسارت بالانسان سيرا مختلفا ليس في مجال الإصلاح السياسي والاجتماعي فحسب، بل في جل جوانب الحياة، مثل تطوير الجامعات وعلاقتها بالمعرفة.
* عن المستقبل (11):
ما كان العرب يرون في الاحتجاجات دورا كبيرا؛ فقد أجرت “الجزيرة نت” استطلاعا حول دور الاحتجاجات في التغيير شارك فيه أكثر من 13 ألف مشارك، وكانت المحصلة أن 54% من المستطلعة آراؤهم يرون عدم جدوى الاحتجاجات، بينما 46% يرون خلاف ذلك (12). أما بعد النجاح الهائل للاحتجاجات، فإن الشعوب قد غيرت موقفها، يدل على ذلك الاندفاع وتحقيق النتائج المشهودة.
وأصبحت الاحتجاجات تضع التصورات المستقبلية، وتحمل حلولا وتصورات معينة للمستقبل ولو موجزة ومختصرة وقابلة لأن يجتمع عليها الناس عموما، أما التفاصيل فليست من عمل المحتجين، فالطبقة التي يجب أن تنجز البرامج غير الطبقة التي قامت بالاحتجاج وأسقطت النظام.
مما يعد به مستقبل الاحتجاج والثورات أن عقيدة التحرر في العالم العربي أصبحت أكبر من خصومها، وأحسن تطبيقيا مما كانت في الماضي، وأنها نجحت، وهذا النجاح يدعو للاستمرار، وأن هذه الديكتاتوريات مهما كان من تزمتها سوف تتنازل ولو نسبيا عما كانت عليه، وهذا مكسب كبير كسبه الذين احتجوا والذين ثاروا ومن لم يثوروا.
فعلى سبيل المثال بعد الثورات حدثت في دول الخليج مخاطبات واحتجاجات، كان من نتائجها انتشار أفكار تلك الخطابات، وارتفعت مطالبها، ولم تستطع الحكومات المحلية مقابلتها بما كانت تفعل من قبل. وكانت قبل تلك الثورات لو حدثت تلك المخاطبات والاحتجاجات لكان أصحابها في السجون، لكن النجاح الذي تم في تونس ومصر وغيرهما أعطاهم نوعا من الحماية.
وأثبتت هذه الثورات لكل العالم هذا الارتباط الكبير بجسم الأمة العربية، وعدم صحة أنها جزر منعزلة، الأمر الذي يوجب على الذين نجحوا في خطوات ثوراتهم الأولى أن ينتبهوا لقضية القرب الشديد بين المجتمعات، ومدى أهمية أن يحمي بعضهم بعضا، ويحسن بعضنا إلى بعض، ويرفع المظالم التي وقعت على الآخرين، وجعل قضية التواصل في عملية التحرير موجة عامة وعقيدة قادمة نلزم بها أنفسنا ومن يدور في فلكنا، فإن خسارة أي قطر تعني تراجعا كبيرا، وعدم الاهتمام من الآخرين يضر بنا كثيرا.
فقد كان لقناة الجزيرة دور رائد في الثورات على الرغم من قلة السكان، وبعد المكان، ولكن كان لها دور حاسم في ذلك. وكما أثبتت الثورات أيضا أن هذه الأنظمة نظام واحد في الفساد والاستبداد، لذا؛ فالواجب أن يقوم العمل بالطريقة نفسها في مواجهة الفساد المجتمِع والمنظم.
[10] جان كورد، أخبار الشرق، جريدة تصدر عن معهد الشرق العربي لندن. 14 يناير 2001.
[11] مقال الحداد، النقلات التاريخية الخمس للربيع العربي، الحياة، 10 رمضان، 1433هـ 29 يوليو 2012م.
[12] فارس بريزات، المصدر السابق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق