لماذا يفضل الأمريكان العسكر؟
خاص بالمفكرة
أخيرا حسم الأمريكان رأيهم ، وتوحدت مؤسساتهم السيادية الخمسة في اتخاذ القرار ، بعد خلاف ظاهري وشجب استعراضي وإدانة مائعة للحدث ، وأعلن الرئيس الأمريكي "أوباما " في أكبر محفل دولي تأييده للانقلاب العسكري الذي وقع بمصر ، وذلك بصورة مقنعة بعد أن شن أوباما هجوما شديدا على الرئيس المعزول محمد مرسي ، واتهمه بالعجز عن إدارة البلاد ، وأن الشعب هو الذي أطاح به .
ما قاله أوباما في أكبر محفل دولي لم يكن مستغربا عند من خَبَرَ طبيعة السياسة الأمريكية في المنطقة ، وكيف أن الأصابع الأمريكية تعبث في المنطقة منذ سنوات طويلة ، ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية أفل نجم القوى الاستعمارية القديمة وعلى رأسها انجلترا وفرنسا وبزغ نجم القوة الجديدة ممثلة في الولايات المتحدة التي قررت أن ترث النفوذين الانجليزي والفرنسي في المنطقة لضمان أمن الكيان الوليد على أرض فلسطين ، بعد أن ساهمت انجلترا وفرنسا في تأسيس هذا الكيان الصهيوني الغاصب .
أسس الأمريكان منذ أواخر الأربعينيات سياسة جديدة في المنطقة تتفق مع أهداف السياسات الاستعمارية القديمة ولكن اختلفت الوسائل والأساليب ، هذه السياسية وصفها " مايلز كوبلاند " مندوب المخابرات الأمريكية في الشرق الأوسط في تلك الفترة ؛ بأنها سياسة " لعبة الأمم " والتي تتركز على فكرة دعم الانقلابات العسكرية ضد الأنظمة التي لا تتماهى مع السياسات الأمريكية في المنطقة أو تمثل تهديدا لأمن الكيان الصهيوني .
والبداية كانت مع انقلاب حسني الزعيم في 30 مارس سنة 1949 في سوريا ضد الرئيس المنتخب " شكري القوتلي " الذي كانت ينتهج سياسات داعية للوحدة العربية والعداء للكيان الصهيوني ، فدعمت المخابرات الأمريكية انقلاب الزعيم ، قام حسني الزعيم بانقلابه متفقاً مع بعض الضباط، فاعتقل رئيس الجمهورية شكري القوتلي، ورئيس وزرائه وبعض رجاله، وحل البرلمان، وقبض على زمام الدولة وتلقببالمشير .قام الزعيم بتشكيل وزارة، ودعا إلى انتخابه رئيساً للجمهورية، وفاز في الانتخابات التي جرت يوم 26 يونيو من عام 1949 بنسبة 99.99 % ثم اتجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وعمل على إدخال شركاتها إلى البلاد وهادن الكيان الصهيوني، مما ساعد في كره الناس له وضعف شعبيته. وكان انقلاب الزعيم فاتحة عهد الانقلابات العسكرية في المنطقة العربية ، وفي عام 1949 وحده شهدت سوريا ثلاث انقلابات متتالية، فالزعيم لم يظل في الحكم سوى 139 يوماً حتى انقلب عليه سامي الحناوي يوم 13 أغسطس من عام 1949، ونفذ فيه حكم الإعدام، غير أن سامي سلم السلطة للرئيس المدني هاشم أتاسي ،ولم يدم انقلاب سامي الحناوي طويلا، إذ رد الأمريكان سريعا بدعم انقلاب عسكري ضده ، فقد قام الشيشكلي يوم 19 ديسمبر 1949 بانقلاب جديد، وظل الرئيس هاشم أتاسي في رئاسة البلاد فيما يعرفبالحكم المزدوج حتى 28 نوفمبر 1951، حيث نفذ الانقلاب الرابع ليستلم أديب الحكم مباشرة بعد أن اتهم هاشم أتاسي وحزبه (حزب الشعب) بالخيانة ومحاولة عودة الملكية للبلاد ، وظل سوريا تنتقل من انقلاب عسكري لآخر حتى كان انقلاب حافظ الأسد سنة 1971 .
نجاح التجربة الأمريكية في سوريا أغرتهم بتكرار التجربة في العديد من دول المنطقة خاصة في مصر ، وبالفعل بدأ اتصال الأمريكان بتنظيم ما يعرف بالضباط الأحرار في نفس السنة أي 1949 كما ذكر ذلك صراحة كوبلاند في كتابه الشهير لعبة الأمم ، ثم السودان الذي وقع فيه العديد من الانقلابات جعلته أكثر البلاد العربية تعرضا للانقلابات العسكرية ، ثم انقلابات العسكر في تركيا والتي بدأت مع انقلاب جمال جورسيل على عدنان مندريس سنة 1960 ، وانقلابات موريتانيا التي كان أشهرها انقلاب معاوية ولد سيد أحمد الطايع سنة 1983 ضد محمد خونا الذي أخذ في تطبيق الشريعة ومحاربة الرق ، وبقراءة تاريخ الانقلابات العسكرية في المنطقة نجد أن الأصابع الأمريكية تقف خلفها معظم هذه الانقلابات بصورة تدفعنا للتساؤل الشهير : لماذا يفضل الأمريكان التعامل مع العسكر على الرغم من علمها بدموية وديكتاتورية الحكم العسكري ، في الوقت الذي تتغنى في كل محفل دولي بأنها راعية الديمقراطيات والحريات في العالم ؟ وتضع من القيود الدولية ما يعيق حركة هذه الانقلابات ؟! .
أمريكا درست دول وشعوب المنطقة دراسة مستفيضة للوصول لأفضل السبل في كيفية الحفاظ على مصالحها الإستراتيجية وعلى رأسها ضمان أمن واستقرار الكيان الصهيوني ، ومن خلال هذه الدراسة رأت الإدارات الأمريكية المتعاقبة أن العسكر هم أقدر الجهات على تنفيذ التغيير المجتمعي المطلوب ، يقول الكاتب الأمريكي " مورو بيرجر " أحد مؤسسي سياسة الانقلابات العسكرية : " الجيش من بين كل جماعات النخبة الوطنية أكثرها دنوا من المشاكل الداخلية ، كما أنه أكثر النخب تغربا " أي تأثرا بالغرب بحكم التعلم والتدريب ودورات الترقي وطبيعة التسليح الذي كان يأتي معظمه من الغرب "
أمريكا تفضل التعامل مع العسكر ودعم الانقلابات العسكرية لأن مؤسسة الجيش في دول العالم الثالث عامة والمنطقة خاصة هي المؤسسة الوحيدة داخل الدول التي تتصف بالثبات والتماسك التنظيمي ، لذلك فهم أسرع من غيرهم في الوصول إلى السلطة ، وإليهم تلجأ الجماهير ومعظم القوى السياسية عند الاشتجار والانسداد السياسي ، كما أنهم أكثر شغفا بالسلطة وتمسكا بها من غيرهم ، كما أنهم أسرع في الاستجابة للضغوط الخارجية حيث يفتقر العسكر عادة لفن المناورات السياسة والنفس الطويل في التفاوض ، إذ أن حياتهم المهنية كلها مبنية على الحسم الفوري ، حيث لا مجال عند العسكريين للمعارضة أو عصيان الأوامر .
كما أن العسكر قبضتهم أقوى من غيرهم ، فالجيش هو المؤسسة الوحيدة التي تحتكر القوة ، وهذا الأمر يجعلها أكثر ديكتاتورية واستبدادا حال وصولها إلى السلطة ، فامتلاك القوة والتنظيم والدعم الشعبي يجعل هذه المؤسسة لا تجد بأسا بالتنكيل بالمعارضين بأشد صور التنكيل .
أمريكا تفضل التعامل مع العسكر لأنهم أقدر الجهات على منع الحراك الشعبي الذي قد يعطل كثيرا من مصالح أمريكا في المنطقة ويدفعها لقبول الواقع المرير بالنسبة لها ، كما حدث مع ثورات الربيع العربي عندما وجدت نفسها مجبرة على الرضوخ للثورات والمطالب الشعبية بالتخلي عن أكبر عملائها في المنطقة ، يقول مايلز كوبلاند : " إن الهدف الرئيسي من دعمنا لجمال عبد الناصر هو رغبتنا في توفر زعيم عربي رئيسي يتمتع بنفوذ قوي على شعبه بحيث يمكنه اتخاذ القرارات الخطيرة التي ترفضها الجماهير " ، فما من انقلاب عسكري في المنطقة إلا وتجد الجماهير ترحب به تهتف لقادته وترحب بهم وتتغنى بمآثرهم ، فهو الزعيم الوطني ، والمخلص المنقذ ، وأمل الأمة الوحيد ، وفي العلن تجد قائد الانقلاب يهاجم أمريكا ليستكمل مسلسل خداع الجماهير ، وفي السر وخلف الأبواب المغلقة تعقد الصفقات وتمرر الاتفاقيات ويُدفع مقابل دعم الانقلابات .
لهذه الأسباب كلها وغيرها يدعم الأمريكان الانقلابات العسكرية ويؤيدونها ويتعاملون معها ويستغلونها كواحدة من أهم أدوات السيطرة والهيمنة على المنطقة ، ولن يتخلى الأمريكان عن هذه السياسة في المنطقة ما دامت هناك رغبة لدى شعوب المنطقة في التحرر وامتلاك الإرادة ورفض الوصاية الأمريكية ، لن تتخلى أمريكا عن دعم هذه السياسية ما دامت هناك معارضة وطنية تبحث عن مصالح أوطانها وتقدمها على مصالح أمريكا وإسرائيل ، لن تتخلى أمريكا عن هذه السياسة ما دامت هناك حركات إسلامية تحاول تطبيق الشريعة وتحلم بالنموذج الراشد للمشروع الإسلامي ، دون ذلك كله لن يتخلى الأمريكان عن دعم الانقلابات العسكرية ، حتى ولو في بلاد أقرب حلفائهم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق