الأحد، 3 نوفمبر 2013

رسائل التاريخ (3)

رسائل التاريخ (3) 
خبرة الشعب المصرى فى العصيان

العصيان المدنى أو الثورة الشعبية السلمية ليست غريبة على الشعب المصرى, ولكن ذلك ارتبط تاريخيا بوجود قيادة شعبية مقنعة ومخلصة، وهذا شرط أساسى لقيام ونجاح أى ثورة شعبية، وهذا قانون عام لكل البلدان، ومصر ليست خارجة عن هذا القانون، (على خلاف ما يدعيه أو يتصوره البعض).
وهذا أول مثال، فى مارس عام 1804 قامت ثورة شعبية ضد حكم المماليك الظالم, وأخذت تشتد وتقوى, وانتهت بسقوط دولتهم، وقد ازداد تذمر الشعب من كثرة وقوع المظالم وإرهاقه بمختلف الضرائب والمغارم (لاحظ أن الشعب مصر يعانى فى 2010 من كثرة الضرائب والإتاوات والغرامات) وهذا قانون عام آخر فالأنظمة المتهاوية الفاسدة، لا تهتم بالإنتاج، ولكن تهتم بالجباية حتى ترهق الناس وتمتص دماءهم فيثورون عليها (وصلت الجباية فى عام 2009 إلى تريليون وربع تريليون فى الصناديق الخاصة بالإضافة إلى 100 مليار كضرائب) كذلك تعددت اعتداءات المماليك على ما فى أيدى الناس من الأموال والغلال والمتاع.
شكى الناس إلى كبار العلماء: عمر مكرم نقيب الأشراف والشيخ الشرقاوى وغيرهما, فذهب العلماء إلى البكوات المماليك, وأنذروهم بمنع اعتداء العساكر على الناس، فأعلن المحافظ ورئيس الشرطة أنهما مع الشعب ووعدا بوقف ذلك، ولكن الوعود لم تنفذ, بل عندما طالب الجنود بالرواتب المتأخرة فرض الحاكم (البرديسى) ضرائب على التجارة ثم على العقارات (لاحظ قانون الضرائب العقارية فى 2010).
 امتنع الناس عن دفع الضرائب، وخرجوا من بيوتهم يضجون ويصخبون واحتشدوا فى الشوارع حاملين الرايات والدفوف والطبول (لم يأخذوا إذنا من الشرطة للتظاهر!!)، وأخذوا يستمطرون اللعنات على الحكام, وكانت هتافاتهم مركزة على المسئول الأول: إيش تأخذ من تفليسى يا برديسى.
وأغلق التجار وكالتهم ودكاكينهم (إضراب عام) واتجهت جموع الناقمين إلى الأزهر (لم يكن قانون منع التظاهر فى المساجد قد صدر!!) لمقابلة المشايخ والاحتجاج لديهم على الضريبة الجديدة، فقام المشايخ إلى الأمراء المماليك يطلبون إلغاءها (لم يكن علماء الأزهر يعتبرون أنفسهم موظفين عند الدولة) وأخذت روح الثورة تنتقل من حى إلى حى حتى عمت القاهرة, واستولى الشعب على الميادين والشوارع, وتحولت المساجد إلى ملتقى لاجتماعات الجماهير، وبدأت الجماهير الغاضبة فى مطاردة جباة الضرائب وإلقاء القبض عليهم وقتلوا بعضهم (لا يخلو أى احتجاج مدنى من بعض مظاهر العنف).
ولكن البرديسى ظل متصلبا فى موقفه, بل قرر مضاعفة الضرائب بـ3 أمثال. ولم يستوعب الحقائق الجديدة، فقد خرج المارد من القمقم.
 وانحاز محمد على بقواته الألبانية للشعب وحاصر المماليك. وهذا قانون آخر للثورات, أن نجاح الثورة يرتبط بانحياز الجيش أو جزء منه للشعب. وفر البرديسى وباقى زعماء المماليك من القاهرة, وهرب جنود المماليك وراءهم, وتوقفوا عن ضرب القاهرة بالمدافع, ووصف الجبرتى حالهم: (غلب عليهم الخوف والحرص على الحياة والجبن وخابت فيهم الظنون، وذهبت نفختهم على الفارغ، وجازاهم الله ببغيهم وظلمهم وغرورهم ونزل بهم ما نزل ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله).
قُتل من المماليك وأجنادهم فى ذلك اليوم نحو 350 (على يد قوات محمد على) وارتحل الباقون منهم عن المدينة، وانتفض الشعب فى رشيد ودمياط وسائر عواصم المحافظات على الحكام المماليك، فهربوا إلى الصعيد، ودالت دولتهم وانقضى حكمهم من البلاد, ولم تقم لهم بعد ذلك قائمة. وفى اليوم التالى أبطلت الضريبة التى كانت سببا فى اشتعال نار الثورة.
وقد كانت هذه الصحوة الشعبية امتدادا للثورات ضد الاحتلال الفرنسى والمقاومة التى لم تهدأ على مدار 3 سنوات، والتى قادها أيضا كبار العلماء.
 ولكن أهمية ثورة 1804 أن الشعب تعلم أن الثورة لا تكون ضد الاحتلال الأجنبى والظلم الأجنبى فحسب، بل إن ادعاء الحاكم أنه مسلم لا يعطيه أى مبرر أو شرعية لممارسة التنكيل والظلم، فالظلم لا جنسية له ولا دين.
ولذلك عندما تولى خورشيد باشا الحكم كوالى عثمانى بعد فرار البرديسى ظلت اليقظة الشعبية على حالها، فعندما أراد خورشيد التخلص من محمد على وقواته الألبانية واستصدر من الآستانة فرمانا بعودة الألبانيين ورؤسائهم إلى بلادهم، رفض العلماء هذا القرار وطلبوا من محمد على البقاء لما عرف عنه من دوره الايجابى فى ثورة مارس 1804 فى الانحياز للشعب، وأعلن الإضراب العام مجددا وأقفلت الأسواق والدكاكين. فاضطر خورشيد إلى التراجع.
 وسار خورشيد على نهج أسلافه فى فساد الرأى والميل إلى الظلم وعدم الاكتراث للشعب, واعتمد على بطش (قوات الأمن المركزى) وتعددت مظالمه، فتدخل العلماء غير مرة لرفعها عن الناس, مما أدى لتعاظم نفوذهم فكانوا موئل الشعب يفزع إليهم عند وقوع الملمات.
وعاد خورشيد لفرض مزيد من الضرائب وهذه المرة على أرباب الحرف والصنائع فضجوا منها واقفلوا حوانيتهم (إضراب) وحضروا إلى الجامع الأزهر يشكون أمرهم إلى العلماء.
 فمر المحافظ ورئيس الشرفة فى الأسواق ينادون بفتح الحوانيت، فلم يفتح منها إلا القليل.
وهكذا أصبحت القاهرة على أعتاب ثورة جديدة بعد شهرين من الثورة الأولى. وهذا موضوع الرسالة القادمة إن شاء الله.
مجدى أحمد حسين


 رسائل التاريخ (1) 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق