سلاما

سلاما

د أحمد مراد

كان هدفي هو الوصول إلى أول مكرم عبيد قادما من المنصورة

طريقي المعتاد هو شبرا وارتقاء كوبري اكتوبر ثم المرور بالمنصة ورابعة وأول عباس وأخيرا أول مكرم

ولكن لأن هذه أول مرة أعود فيها لهذه المنطقة بعد المجزرة

فضلت تفادي المرور برابعة

وقررت الوصول من الطريق الدائري مرورا بالمطار والكلية الحربية ثم الاوتوستراد حتى الوصول إلى أول مكرم من الناحية العكسية لطريقي المعتاد

ولكن يشاء الله عز وجل أن أضل طريقي وأدخل شارع صلاح سالم بدلا من الاوتوستراد ولا أكتشف هذه الحقيقة إلا وأنا أمام مشيخة الأزهر الجديدة

فعدت أدراجي مضطرا إلى كوبري أكتوبر بعد العباسية 

وعندما هبطت مررت أمام جامعة الأزهر فالمنصة فـــ

بنزينة موبيل

نقطة التفتيش الأولى لإعتصام رابعة

نعم هم شباب في عمر الزهور يقفون صفا يحملون ابتسامة وضاءة حانية يحاولون طمسها بصرامة مصطنعة ويعجزون

بكل أدب يطلبون رؤية بطاقتي الشخصية .. وعندما يرون المهنة بأني طبيب وقادم من المنصورة 

يفشلون تماما عن خلع ثوب المزاح معي وهم يرحبون

وأنظر يمينا فأجد أحدهم يقبل كتف شخص كفيف جاء للإعتصام 

وبالرغم من هذا يتم التفتيش جيدا

أنظر لخوذاتهم التي لا تستخدم إلا في شركات الصناعات الثقيلة والتي يكون غالبا هدفها حماية الرأس من سقوط الأثقال عليها وأنا أتسائل وهل هذه ستقيكم من الرصاص ؟! 

ولكن عند رؤية بقية تسليحهم والذي لا يتعدي الهراوات وبعض أكوام الظلط متوسط الحجم أدرك بأنهم لا يتوقعون هجوما يفوق القذف بالطوب !! فأوميء برأسي بأن هذا كافيا جدا

وما زلت حتى الآن أتعجب وبقوة كيف وبإعدادهم هذا صمدوا اثني عشرة ساعة أمام الهول الذي واجههم فيما بعد ؟!!

أتاهم وحوش بشرية لا قلوب لهم .. أتوا بالمدرعات والكاسحات والطيران .. هاجموهم بالغاز والرصاص ومقذوفات لا نعرف ما هي كانت كفيلة بشطر الرأس نصفين واستخراج المخ كاملا منه وبالقنابل الحارقة التي تشعل حرائق هائلة في ثوان معدودات ..

أنطلق داخلا وأنا أسحب نفسا عميقا ..

يقابلني البائعة الجائلون .. أشترى قبعة مستديرة لكي تمنحني الظل من جميع الجهات وأصور نفسي لأري كيف أبدو وأضحك عندما أجدني تماما كالصيادين ..

أنطلق بمرح وأنا أرى الجمع يزداد كثافة كلما توغلت واللافتات تغرق الجانبين والجزيرة الوسطى

وهاهو مسجد رابعة وأمامه المنصة التي تظل عامرة على مدار الساعة

ورغم أن الوقت هو الظهيرة ودرجة الحرارة غير محتملة إلا أن أمامها جمع غزير من النساء صوتهن يغلب على جميع الأصوات أثناء ترديدهن للهتافات بمنتهى الحماس والقوة 

وأنظر يسارا فأجد مسيرة منهن تنطلق إلى شارع يوسف عباس حاملة اللافتات والهتافات تبلغ عنان السماء

وهن كن السبب فيما بعد أن أخصص لهن ربع روايتي القادمة " رُبـاع " وأنا أتسائل فيها من أين يأتين بهذه القوة والصلابة والإصرار والإقدام حتى أنهن بلا أدنى مبالغة فقن الرجال كثيرا

فقد توقفت ووجدت بأن هذه المرحلة الزمنية تشهد تميزا أكبر للنساء بشكل ملحوظ وعلى جميع المستويات

أبسط دلالة على ذلك .. شاهد أوائل الفصول والمدارس والجامعات وحتى أوائل الجمهورية في جميع القطاعات ستجد أغلبهن إناث

وكان سؤالي الذي حاولت معالجته بالرواية .. كيف سيكون الحال إذا كانت الزوجة متقدمة على زوجها في كل شيء ؟!

علميا وعقليا واجتماعيا وعلى كافة الأصعدة .. كيف سيكون الحال إذا لم يكن الزوج سويا وقتها ؟!

ومع تساقط حبات العرق وجفاف الحلق .. أجد عربة خشبية تبيع عصير البرتقال الطازج والمثلج ..

كانوا ثلاثة أفراد فقط .. أحدهم يغسل البرتقال ويقطعه نصفين والآخر يعصرة يدويا ويضعه بالإبريق الكبير مع الكثير من الثلج والأخير يقوم ببيعه .. الكوب بجنيهين ونصف .. والثلاثة كانوا كآلة تتحرك بشكل تلقائي بلا توقف بسبب زحام وكثافة البيع وتناسيت تماما أني كنت المسئول الأول عن الهايجين أيام عملي بويذرفورد واشتريت كوبا لأتناوله على مهل باستمتاع بطعمه الرائع وبرودته المنعشة ورغما عني أخذت أحصر وقت استغراق إعداد وبيع الكوب الواحد ثم حساب مكسب البائع في خلال عشر دقائق فقط .. 

أُذن لصلاة الظهر ..

في ثوان معدودة انتظمت الصفوف بشكل تلقائي عجيب كل في مكانه 

أخرجت سجادتي المحمولة التي يتم ثنيها حتى تصبح في حجم المنديل وفردتها أمامي فقط

ولكن عند رؤية جاري وهو يشارك من معه في ورقة الجريدة استحييت وقمت بتعديل وضعها ليشاركني غيري فيها وأنا أحرص على أن تكون ركبتي حين السجود فوقها

صلاة الظهر والعصر جمعا وقصرا

وعاد الضجيج والحياة مرة أخرى

وعند الذهاب لحمامات المسجد .. المشهد الفريد الذي لم أجده في أي مكان آخر

طابور يتعدى الخمسين مترا ولكن منتظم بشكل تلقائي وبدون مراقبة والأعجب أن هذا الطابور على غير ما اعتدت عليه في كل حياتي يسير وينطلق للأمام !!

وبالطبع كانت فترات الانتظار هذه فترة تعارف ومزاح ونقاشات تنسيك تماما استغراق الوقت لتكتشف فجأة بأن الصحبة قد انتهت في هذا الموضع لتنشأ في مكان آخر بأرض الإعتصام ..

لوحة إعلان ماء صافي المقابلة للمنصة والتي تجاور سور محطة المخابرات العسكرية

أسفلها هو مكاني المفضل والذي تعرفت فيه على جميع التيارات الفكرية الإسلامية منها وغير الإسلامية

حتى بعض سكان رابعة كانوا يجيئون إليها ليلا للتريض والجلوس معنا

رغم عدم المعرفة السابقة إلا أن التآلف كان سريعا بشكل عجيب

جميع المستويات الإجتماعية .. كل المحافظات .. جميع الأعمار .. مختلف التوجهات كانت في هذا المكان والذي بدون إعداد ولا تنظيم كان مأوى لمن يريد التحرر من أي إرتباط والسعي منفردا في هذا الجمع الرائع

عم سمير بلحيته الكثة وضخامته كان يحمل بسمة طفولية عجيبة لا تتناسب أبدا مع مشهده .. يفرح جدا بالمدح .. يحاول إبهارنا كثيرا بقصصه ومهاراته في تعديل بعض أركان الخيمة

ورغم ضيق الحال الظاهر عليه .. إلا أنه كان يرفض بمنتهى العفة أي مساعدات أو وجبات نحاول تقديمها له مما قمنا بشرائه وينتظر زوجته التي تأتي له بكيس يحمل له غذائه اليومي 

هو بطلي المفضل ولن أنساه أبدا .. فقد كان مميزا بحق وكان سر تميزه هو منتهى بساطته وتلقائيته العجيبة وتفانيه في نصرة قضية يؤمن بها مهما كان ضرر هذه النصرة عليه 

تأتي صلاة المغرب والعشاء والليل يحمل نسمات عليلة جميلة وبعدها تنتعش المنصة بالضيوف ثقيلي الوزن والألعاب النارية تنطلق يمينا ويسارا لتضيء السماء بمختلف الألوان

وكانت الحياة الحقيقة في صلاة قيام الليل

صوت الشيخ المعصرواي شيخ عموم قراء مصر لم يفارق أذني حتى الآن .. بقرائته المميزة والجديدة عليّ

بصوته الذي يخرج من قلبه وليس من أحباله الصوتية

القرآن الكريم في هذه اللحظات أشعر بأنه إنما يتنزل علينا الآن 

رغم الإرهاق وتململ الساقين من التعب إلا أن حلاوة التلاوة تجعلني أتمنى ألا تنتهي

ثم صلاة الفجر وتصمت المنصة لتمنح الجمع قسطا من النوم

أفرد سجادتي في منتصف الطريق وأتمدد فوقها واضعا فردتي حذائي أسفل رأسي

وأتحدث مع جاري الذي حتى لم أحاول معرفة اسمه ..

فقط أعلم بأنه من كفر الشيخ

كنا نطالع لوحة تحمل أسماء شهداء مذبحة الحرس الجمهوري

قمت بعملية إحصاء سريعة لأجد المنصورة تحتل المركز الثالث بعد القاهرة والقليوبية بسبع شهداء في هذه المجزرة فأتباهي بهذا معه ولا أتمالك نفسي من الابتسام عندما أدرك المفارقة

وأتذكر المشهد العبقري ليوسف معاطي 

عندما كان البطل في منزل بالعراق ويصدر صوت انفجار شديد بالخارج فينتفض رعبا وقبل أن ينطق يدخل طفلان يتشاجران أحدهما يقول لأبيه .. أبي أنا أقول بأن هذه سيارة مفخخة وأخي مصر على أنها عبوة ناسفة .. أينا صحيح !!

فقد تغيرت المعايير تماما وبلغت أفقا عجيبا

فجأة بدأت في الارتجاج والصعود والهبوط العنيف .. لقد سرحت ويبدوا أن سيارتي تقوم بهرس النائمين في الطرقات

وعندما انتبهت إذا بآشعة النهار تختلط وتتداخل بشكل عجيب بعيناي والرؤية المشوشة تُعجز بصري تماما .. نزعت النظارة بيساري ظانا أنها السبب ولكن الطعم المالح في فمي أرشدني إلى السبب الحقيقي .

إلى كل من داس بقدمه في منطقة رابعة ولو لدقائق معدودة أقول : كم أشتاق لجمعكم الجميل والذي لم ولن أرى مثيلا له .. تعلمت منكم الكثير وتربيت بينكم على كل المعاني السامية والمشاعر النقية الطاهرة 

إلى كل من سالت دمائه الطاهرة هناك أقول: هنيئا لك .. تستحقها بالفعل

فزت ورب الكعبة 

وتركتنا نحن لنصارع ونقاتل ونتعذب بدونك ولأجلك

ولكنك تستحق 

سلاما أهل رابعة الطيبين