انتفاضة ثالثة أم حرب إقليمية شاملة
منذ اللحظات الأولى لاندلاع الحملة الصهيونية الأخيرة على الفلسطينيين بالضفة وغزة في أعقاب خطف وقتل ثلاثة مستوطنين صهاينة بالخليل في 12 يونيه الماضي ،والمراقبون والمتابعون للمشهد الفلسطيني يبشرون بانتفاضة ثالثة قد استجمعت نذرها وتكاملت أسبابها وتهيأت أجواؤها ، لم يبق على اندلاعها سوى ساعات قليلة .وها هي الأيام تمضي ووتيرة القمع الصهيوني تزيد حتى انتقلت من الملاحقة والقبض على الفلسطينيين والتنكيل بهم ، إلى مرحلة العمل العسكري الكبير في 7 يوليو الماضي في الحملة التي أطلق عليها إعلاميا " الجرف الصامد " والتي دخلت أسبوعها الأول مخلفة أكثر من 120 قتيلا ومئات الجرحى وتدمير واسع للبنية التحتية بغزة ، ومع ذلك لم تندلع الانتفاضة كما بشّر المراقبون ، وجزم المتابعون ، فلماذا إذا لم ينتفض الفلسطينيون كما حدث من قبل ؟
باختصار شديد ، لن ينتفض الفلسطينيون مرة ثالثة ، وهذا ما تؤكده الشواهد والأحداث والمآلات للتجارب السابقة ، لن ينتفضوا ، لا لأنهم تخلوا عن فكرة الاستقلال والكفاح ونيل الحرية ، ولا لأنهم قد نسوا وطنهم الحبيب فلسطين ،ولا لأن القريب والبعيد والجار والنائي قد تخلى عنهم ، ولا لأنهم يعيشون تحت الحصار القاسي من الصهاينة والانقلابيين في مصر منذ شهور ، ولا لأنهم قد يأسوا من كثرة الضحايا وضخامة الخسائر ، ولا لأنهم قد اقتنعوا بسياسة السلطة الفلسطينية ممثلة في عصابة عباس ومسترزقي منظمة التحرير التي لم تجلب عليهم سوى العار والخراب والدمار ، ولا لأنهم قد رأوا انهيار حلم ثورات الربيع العربي بالانقلاب العسكري في مصر ، السياسي في تونس ، والمجتمعي في ليبيا . بالجملة لن ينتفض الفلسطينيون لأي سبب من الأسباب الخارجية أو الداخلية .
الفلسطينيون لن ينتفضوا مرة ثالثة لرصيد التجربة المرير مع تجربتي الانتفاضة الأولى والثانية ، فمآلات هاتين الانتفاضتين قد صب في النهاية في صالح الكيان الصهيوني ولم يجن الفلسطينيون منه سوى قبض الريح والخسائر الضخمة في الأنفس والأموال ، وخسرت القضية الفلسطينية أضعاف أضعاف ما جنته من مكاسب ، بل نستطيع أن نقول أن الحسنة الوحيدة لهاتين الانتفاضتين على وجه اليقين ، هي تأسيس حركة المقاومة الإسلامية " حماس " على يد البطل الشهيد " أحمد يا سين " سنة 1987 ، في حين أن سائر المكاسب كانت موهومة وكلها تصب في خانة بقاء المقاومة واستمرار الكفاح فقط .
فلانتفاضة الأولى التي وقعت عفويا وشعبيا في 8 ديسمبر سنة 1987 في أعقاب قيام مستوطن صهيوني بدهس عدد من العمال الفلسطينيين من مخيم جباليا بغزة عند معبر إريز ، والتي عرفت بانتفاضة الحجارة ، والتي سقط فيها أكثر من 1300 شهيدا فلسطينيا ، وجرح الآلاف منهم ، في مقابل مقتل 160 صهيونيا ، قد هدأت في 1991 ، بتوجيه من حركة فتح التي كانت المسئولة عنها ، ثم توقفت تماما سنة 1993 مع توقيع اتفاقية أوسلو بين الصهاينة ومنظمة التحرير الفلسطينية ، لتعترف السلطة المخذولة لأول مرة بالدولة الصهيونية وتتنازل طواعية عن حق العودة ودماء الشهداء وكفاح النصف قرن الماضية ، وليوكل الصهاينة مهمة القضاء على المقاومة الإسلامية والشعبية لمنظمة التحرير وحركة فتح ، وليبدأ الكيان الصهيوني في مرحلة التطبيع السياسي والاقتصادي مع معظم الدول العربية ، ولتذهب كل مطالب الفلسطينيين التي انتفضوا من أجلها مثل تقرير حق المصير وتحرير بلادهم وتطهير مقدساتهم ، وتفكيك المستوطنات ، ووقف اغتيال وملاحقة وطرد النشطاء الفلسطينيين ، لتذهب كل هذه المطالب وغيرها أدراج الرياح ، وليكون الصهاينة هم الرابح الأكبر من هذه الانتفاضة .
أما الانتفاضة الثانية والتي وقعت في 28 سبتمبر سنة 2000 بسبب الزيارة الاستفزازية التي قام بها الهالك شارون إلى باحات المسجد الأقصى ، وهي الزيارة التي أدت لانفجار موجة الغضب عند الفلسطينيين ،وقد تميزت هذه الانتفاضة مقارنة بسابقتها بكثرة المواجهات مسلحة وتصاعد وتيرة الأعمال العسكرية بين المقاومة الفلسطينية والجيش الصهيوني ، وراح ضحيتها 4412 شهيدا فلسطينيا و48322 جريح ، وأما خسائر الجيش الصهيوني تعدادها 334 قتيل ومن المستوطنين 735 قتيل وليصبح مجموع القتلى والجرحى الإسرائيليين 1069 قتيل و 4500 جريح ، وكان لشعور الفلسطينيين بالمهانة والإحباط بسبب خديعة أوسلو هو السبب الرئيسي في تأجيج هذه الانتفاضة حتى اعتبرها الكثيرون أنها بمثابة إعلان رسمي لوفاة مفاوضات السلام واتفاقية أوسلو ، وقد انتهت هذه الانتفاضة سنة 2005 بعد أن فقد الفلسطينيون معظم قيادات الصف الأول في حركة حماس مثل أحمد ياسين والرنتيسي ، واغتيل عرفات وأبو علي مصطفى ، وبنت إسرائيل جدارها العازل ، وتهدمت الضفة وغزة بصورة شاملة ، واندلع صراع داخل منظمة التحرير على وراثة عرفات ، وانكشفت سوءات المتنافسين على عرش فتح ، وظهرت الفضائح والجرائم التي أذهلت الشعب الفلسطيني ، أما أبرز تداعيات هذه الانتفاضة فكان في التوصل لحل الدولتين والاتفاق عليه دوليا وإقليميا وفلسطينيا ، كما أفرزت الانتفاضة جاء السلام الاقتصادي وبناء دولة المؤسسات وتهيئة الوطن لولادة الدولة التي يريدها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، محاطة من كل مكان بأراض تسيطر عليها إسرائيل ، وحبيسة بلا حدود ، وغير قابلة للحياة، حيث لا جيش ولا قوة تدافع عنها ولا خارجية لها ، أي دولة بمفهوم دولة التمييز العنصري في جنوب إفريقيا:«بانتوستان».
الفلسطينيون قد تأكد عندهم أن الحراك المسمى بالانتفاضة في ظل التآمر العربي ممثلا في الاشتراك في حصارهم ، والتآمر الدولي ممثلا في تجاهل المذابح والجرائم التي تقترف بحقهم ، إضافة لرصيد التجربة المريرة ، لن يعود بالفائدة إلا على الكيان الصهيوني ، لذلك لم يكن مستغربا أن لا تندلع انتفاضة ثالثة سنة 2008 عندما قام الصهاينة بدك قطاع غزة وتدميره تدميرا شاملا ، وقتل قرابة الألفي فلسطينيا وجرح عشرات الألوف ، في العملية التي عرفت بالرصاص المصبوب ، على الرغم من مناشدات قيادات حماس الشعب الفلسطيني بالانتفاضة ، ومع ذلك لم ينتفض الفلسطينيون ! ، ولكن هل يعني ذلك أن الأمر سيمر مرور الكرام كسابقيه ؟
المنطقة قد أصبحت على برميل بارود شديد الانفجار يوشك أن ينفجر في حرب إقليمية شاملة تسقط بها كيانات ودويلات وتتغير بها حدود سايكس بيكو القديمة ، فالتحالفات القديمة سقطت ، والأنماط والأنساق السياسية التقليدية تغيرت بصورة جذرية ، واختفت محاور الممانعة والاعتدال ، وغدت المنطقة من الخليج إلى المحيط في مواجهة نوع جديد من العدوان غير مسبق ، بعد أن تحالفت أمريكا والصهاينة وإيران وبعض الأنظمة العميلة من خونة العرب من أجل القضاء تماما على المقاومة السنية إقليميا من أفغانستان إلى العراق إلى فلسطين والشام والمغرب العربي ومصر . فقد قال تقرير نشره موقع "ديبكا"، الاستخباري الإسرائيلي، إن التعاون العسكري بين أمريكا وإيران في العراق تزامن مع حرب إسرائيل، حليفة واشنطن، ضد حماس، حليفة طهران.
وأفاد التقرير أن الولايات المتحدة وإيران اتخذتا الخطوات الأولى للتعاون العسكري في العراق في 16 يونيو الماضي في الوقت نفسه الذي أعلنت فيه إسرائيل الحرب على حماس الفلسطينية، في أعقاب اجتياح فاشل لمدة أربعة أيام في منطقة الخليل بالضفة الغربية ردا على عملية خطف ثلاثة مراهقين إسرائيليين يوم 12 يونيو، واعتقال المئات من ناشطي حماس، وقال قادة إسرائيل إنها مجرد البداية.
وقد كشف وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، في مقابلة أخيرة أن المحادثات بين واشنطن وطهران "مستعدة لمناقشة أي عملية بناءة هنا ".
وتفيد مصادر أمريكية وبريطانية، وفقا لتقرير "ديبكا"، أن واشنطن وطهران يجريان محادثات فعلية بشأن دور كل منهما، وثمة اقتراح بأن تقوم الولايات المتحدة بتوفير غطاء جوي للقوات البرية الإيرانية ودعمها بغارات جوية ضد قوى الثورة المسلحة.
ويقول التقرير إن تداعيات هذا التعاون تتقاطع في مرحلة ما مع حرب إسرائيل طويلة الأمد ضد حماس التي ينظر إليها على أنها حليفة طهران الفلسطينية .
وفي نفس السياق كتب السياسي المخضرم جوناثان ستيفنز، وهو سبق أن عمل حتى العام الماضي كمسئول في شؤون الشرق الأوسط في «مجلس الأمن القومي» مقالا في صحيفة النيويورك تايمز الصهيونية يعرض وجهة نظر الإدارة الأمريكية تجاه هذا الحلف الجديد ، قال فيه :«أعجبكم أم لا، في الوقت الحالي، يشكل نظام بشار الأسد وخصوم الولايات المتحدة الشيعة إيران وحزب الله أفضل مضاد للمجموعات الجهادية العابرة للدول، هذه المجموعات التي تستجمع قواها في سورية وفي جوارها والتي تكسب المزيد من القوة " .
فلو وضعنا هذه التوجهات السياسية الجديدة نصب أعيينا ونحن نحاول قراءة المشهد السياسي الإقليمي منذ وقوع الانقلاب العسكري المصري ، وما حدث في ليبيا من محاولات الانقلاب الحفتري ، ثم الانقلاب الناعم في تونس ، ثم التفوق المفاجئ للحوثيين الشيعة في اليمن وسيطرتهم على أجزاء كبيرة من البلاد ، وتهديدهم باحتلال العاصمة صنعاء ، والمساعدات السخية التي ينالها الحوثيون من بعض دول الخليج الكبيرة ، وتداعيات المشهد الجهادي في سوريا والعراق وبروز قوة داعش ، وسيطرتها على الموصل وما حولها فيما يساوي مساحة الأردن ، وخلافاتها المريرة والجدلية مع باقي المجاهدين في العراق وسوريا ، وقيام الأكراد بإعلان قيام دولتهم في شمال العراق بصورة منفردة ، كل هذه الأحداث لا يمكن قراءتها بمعزل عن الحرب على غزة ،
فثمة إصرار أمريكي صهيوني إيراني عربي مشترك نحو القضاء على المقاومة السنية ، وفي القلب منها حماس ، لذلك نقول بكل يقين ، عفوا لن تكون هناك انتفاضة ثالثة ، بل ستكون حرب إقليمية شاملة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق