مراجعات صهيونية بشأن غزة
د. صالح النعامي
على الرغم من حجم الثمن الكبير الذي دفعه الفلسطينيون في الحرب الأخيرة على غزة ، فإن المرء يتفاجأ من مستوى الإحباط الذي أصاب النخب الصهيونية بعدما درست مسار الحرب،لدرجة أن الدعوات قد تعاظمت مطالبة بالبحث عن آليات أخرى غير الخيار العسكري في التعاطي مع غزة،وعلى رأسها السعي لتحسين الأوضاع الاقتصادية للقطاع.
فقد قال الجنرال المتقاعد عاموس جلبوع،القائد الأسبق للواء الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان" إن تحسين الأوضاع الاقتصادية في قطاع غزة لا يضمن فقط تقليص فرص تفجر مواجهة مع القطاع،بل أنه يمكن أن يقلص الأضرار الناجمة عن "الانتفاضة السياسية" التي تواجهها "إسرائيل" حالياً،سيما في أعقاب عزم فرنسا على تقديم مشروع قرار لمجلس الأمن يدعو للاعتراف بدولة فلسطين في غضون عامين،وفي الوقت الذي يسعى الفلسطينيون لمحاسبة "إسرائيل" أمام المحافل الدولية،وفي ظل تعاظم أنشطة حركة المقاطعة الدولية.
وفي مقال نشره موقع صحيفة "معاريف" الثلاثاء الماضي،حذر جلبوع ذو التوجهات اليمينية،والذي عمل مستشاراً لرئيس الوزراء الأسبق إسحاق شامير من أن اندلاع مواجهة مع حماس في ظل التوتر الكبير في العلاقات مع كل من الولايات المتحدة وأوروبا،سيفضي إلى تقلص مكانة "إسرائيل" الدولية وسيفاقم من أزمتها الاقتصادية،سيما في ظل تهديد الأوروبيين بفرض عقوبات اقتصادية على تل أبيب.
واقترح جلبوع عقد مؤتمر دولي لمناقشة فرص تحسين الأوضاع الاقتصادية في القطاع بشكل جذري،وضمن ذلك إعادة إعمار ما تم تدميره خلال الحرب الأخيرة،ورفع كلي للحصار،مقابل التزام حماس بتهدئة لمدة عشر سنوات.
وحسب جلبوع،فأنه يفضل أن ترعى الولايات المتحدة والدول العربية المعتدلة هذا المؤتمر، مشدداً على أن تحسين الأوضاع الاقتصادية في قطاع غزة سيساعد "إسرائيل" على مواجهة الحملات الدعائية التي تشنها إدارة الرئيس أوباما.
وأوضح جلبوع أنه يتوجب على "إسرائيل" خوض غمار هذه المبادرة حتى في ظل المؤشرات على عدم تحماس النظام المصري لها.
وهناك في "إسرائيل" من يرى أن الحرص على تحسين الأوضاع الاقتصادية كوسيلة لنزع فتيل المواجهة المستقبلية مع حماس تفرضه القناعة بأن الجيش الإسرائيلي لم يعد قادراً على حسم المواجهة العسكرية مع حركة حماس،كما دلت المواجهة الأخيرة. وقال البرفسور أوري بار يوسف،الذي يعد من أبرز الاستراتيجيين في "إسرائيل"، إن الحرب الأخيرة على غزة أثبتت عدم فاعلية اثنين من مركبات العقيدة الأمنيةالإسرائيلية،وهما:الردع والدفاع.
وفي مقال نشرته صحيفة "هارتس" في عددها الصادر الخميس الماضي،أشار بار يوسيف إلى حقيقة أن هناك ثمة إجماع بين الجنرالات المتقاعدين ومعظم قيادات العسكرية والاستخبارية بأن الحرب الأخيرة دلت على موت مفهوم الردع،حيث إن التفوق النوعي الهائل الذي تتمتع به "إسرائيل" على حركة حماس لم ينجح في إجبار الحركة على وقف هجماتها على العمق الإسرائيلي،مما جعل هذه الحرب ثاني أطول في تاريخ الحروب الإسرائيلية العربية. وشدد بار يوسيف على أن التفوق التكنلوجي الإسرائيلي الهائل لم يمكن من توفير حلول لمشكلة الصواريخ،التي باتت تصيب كل المناطق في "إسرائيل"،مما يعني انهيار مفهوم الدفاع أيضاً.
وأشار بار يوسيف إلى أن حركة حماس،التي تعد "العدو الأضعف" من بين أعداء "إسرائيل" بات بإمكانها تعطيل المجال الجوي للدولة الأقوى في المنطقة،كما حدث في الحرب الأخيرة،مشدداً على أنه لم يعد أمام "إسرائيل" خيار سوى المزاوجة بين الحلول السياسية الاقتصادية للخروج من المأزق الحالي في مواجهة القطاع.
وحث بار يوسيف دوائر صنع القرار على إعادة صياغة العقيدة الأمنية والإدراك أن تفوق الجيش ليس ضمانة لتحقيق الأمن المطلوب.
وفي السياق قال عوفر شيلح،عضو لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست،ورئيس اللجنة البرلمانية التي حققت في مسار الحرب على غزة أن هذه الحرب تعد أكثر الحروب فشلاً في تاريخ "إسرائيل".
وفي مقابلة أجرتها معه صحيفة "هارتس"،الجمعة الماضي،قال شيلح إن الفشل في الحرب فاق مظاهر الفشل في حربي 73 وحرب لبنان الثانية. وأوضح شيلح أن "إسرائيل" أخفقت في توقع تأثير تدهور الأوضاع الاقتصادية في قطاع غزة،مشيراً إلى أن الحصار الشديد لم يترك أمام حركة حماس إلا خيار المواجهة مع "إسرائيل".
وشدد شيلح على أنه قد تبين بؤس الرهان على خيار القوة العسكرية بدون أفق سياسي،مشيراً إلى أن "إسرائيل" استخدمت قوة نيران خلال الحرب على غزة أكثر كثافة مما استخدمه الأمريكيون خلال الحرب على العراق.
ليس بالضرورة أن تأخذ القيادة الصهيونية بتوصيات النخب العسكرية والمثقفة بشأن أنماط التعاطي مع غزة،فهذه القيادة تأخذ بعين الاعتبار مواقف القوى الإقليمية،التي لا يقل مستوى عدائها لحماس عن العداء الصهيوني.
ومع ذلك،فإن هذه المراجعات تدلل على حجم المأزق الذي دفعت المقاومة الكيان الصهيوني إلى أتونه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق