القصة خرجت إلى بعض الصحف المصرية، وما عاد ممكنا التعتيم عليها. ذلك أنه بعدما تعالت أصوات الحقوقيين وتواترت شكاياتهم من سوء معاملة نزلاء السجون، وبعدما تكرر رفض وزارة الداخلية السماح للمنظمات الحقوقية الأهلية بزيارة السجون، فإنها أرادت أن تبرئ ذمتها أمام الرأى العام وسمحت لوفد من المجلس القومى لحقوق الإنسان بزيارة سجن أبوزعبل. خلفية القرار كانت مطمئنة نسبيا.
ذلك أن المجلس معين من قبل الحكومة ودائم الدفاع عنها فى مختلف المحافل.
كما أنه فى تقاريره كان يراعى دائما «خاطر» الداخلية ولا يمانع من مجاملتها بإشارات يختلط فيها الود مع اللطف.
وحين ذهب الوفد إلى سجن أبوزعبل فى الزيارة التى رتبت له يوم الاثنين الماضى ٢٧/٣ ووجد بما لم يستطع أعضاؤه أن يجاملوا الداخلية فيه.
وطبقا لما نشرته صحيفتا الشروق والمصرى اليوم، فإن الوفد أسيئت معاملته من جانب إدارة السجن.
وحين طلب مقابلة ٢٢ شخصا كانوا قد قدموا شكاواهم للمجلس فإن طلبهم رفض وسمح لهم بالالتقاء بخمسة أشخاص فقط. مع ذلك فإن هؤلاء اشتكوا من تعرضهم للضرب والتعذيب ومن التنكيل المستمر بهم سواء من خلال التفتيش اليومى أو حرمانهم من متطلبات المعيشة الإنسانية العادية.
إضافة إلى نقلهم إلى سجون بعيدة تشكل تنكيلا وتعذيبا لذويهم حين يسمح لهم بزيارتهم.
خلاصة الملاحظات التى نشرتها الصحف كانت بمثابة مفاجأة، حيث يفترض أنها صادرة عن وفد المجلس القومى الذى هو حريص على مجاملة الحكومة وتخفيف وقع ممارساتها. وهو ما دفعنى إلى القول بأنه إذا كانت الصورة بهذا الشكل بعد التخفيف والمجاملة. فكيف تكون حقيقة الصورة إذن؟
وزارة الداخلية لم تغير من موقف الإنكار الذى اتبعته دائما وتجلى أخيرا فى حادث قتل شيماء الصباغ. ذلك أنها رفضت الاعتراف بوجود التعذيب ـ حتى إذا كان الشاهد من أهلها ـ إذ جاء ردها مراوغا. فقد ذكرت أنه سيتم الاحتكام إلى الطب الشرعى للفصل فى وجود التعذيب من عدمه. بما يعنى أنها أحالت الأمر إلى جهة حكومية غير بعيدة عن نفوذها للفصل فى الموضوع.
تقرير المجلس القومى لحقوق الإنسان عن زيارة سجن أبوزعبل لا جديد فيه حقا، إلا أنه بمثابة شهادة جديدة تؤيد الفكرة الأساسية التى عالجتها باستفاضة وتفاصيل أكثر البيانات والتقارير التى سبق أن أصدرتها المنظمات الحقوقية الأهلية المصرية وسجلته تقارير المنظمات الدولية.
ومن نماذج التقارير المصرية التى صدرت أخيرا بيان المنظمات الحقوقية العشر عن الانتهاكات فى سجل أبوزعبل، وتقرير المسار الديمقراطى فى مصر عام ٢٠١٤ الذى أصدرته الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، وقد وصف ذلك المسار بأنه «معتم ومتعثر».
وفى الأسبوع الماضى أصدر مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب تقريرا صادما حول «أرشيف التعذيب» فى شهر مارس الذى غادرناه قبل أيام قليلة.
ذلك أنه ذكر أن ١٠٨ أشخاص قتلوا فى أماكن الحجز منذ الثالث من يونيو ٢٠١٤. ورصد ٥ حالات قتل لمحتجزين سياسيين خلال ثلاثة أيام فقط (من ٢٦ إلى ٢٩ مارس) وهو معدل قياسى.
منها حالتا قتل فى قسم شرطة المنصورة (الذى سبق أن قتل فيه ١٢ شخصا بسبب التعذيب) ـ الحالة الثالثة ضحيتها متهم قتل داخل سيارة تابعة لقسم شرطة المنيا ــ الرابعة لشخص قتل داخل سجن الوادى الجديد ــ الخامسة لمحتجز قتل من جراء التعذيب فى قسم شرطة الهرم. إلى غير ذلك من المعلومات التى تمنيت أن تخضع للتحقيق للتثبت من صحتها من عدمه ومن ثم تحديد المسئولية عنها.
فى هذا الصدد تصدمنا أيضا المعلومات المفزعة التى تتناقلها مواقع التواصل الاجتماعى عن جحيم «سجن العقرب»، الذى يفترض أنه يحتل المرتبة الأولى بين سجون وزارة الداخلية الأشد قسوة والأكثر تنكيلا وفظاظة فى معاملة السجناء. كما أن هناك لغطا حول ما يجرى فى السجون الأخرى، المعلوم منها والمجهول.
الخلاصة أن أحدا لا يستطيع أن ينكر الآن أن التعذيب ظاهرة عامة فى السجون المصرية وأن تصريحات الإنكار التى تتردد بين الحين والآخر، لم تعد قابلة للتصديق. وحين يبرأ المتهمون بالقتل، ويغض الطرف عن الذين يقومون بالتعذيب، وتوصف بعض أقسام الشرطة بأنها سلخانات.
وفى الوقت ذاته تتحدث التصريحات الرسمية عن مظلومين وأبرياء فى السجون يجرى فحص حالاتهم منذ شهور، ثم نفاجأ بأن ملفات هؤلاء مؤجلة دائما.
حين يحدث ذلك فى الوقت الذى تحسم فيه ملفات أركان النظام السابق فتُبرّأ ساحاتهم ويعودون إلى بيوتهم معززين مكرمين، فلابد أن نعذر الذين يعتبرون أن الثورة أجهضت. وأن الثورة المضادة حققت انتصارها تحت أعين الجميع.
علما بأن وقف التعذيب أو استمراره يظل المعيار الأهم الذى يقاس به انتصار الثورة، التى انطلقت أساسا للدفاع عن كرامة الإنسان المصرى.
بقى أن أنبه إلى أمرين محزنين، أحدهما أن استمرار التعذيب بالصورة الراهنة بات يرجح أننا بصدد سياسة دولة وليس أخطاء أفراد أو انحراف مؤسسات. الأمر الثانى أن هذا الذى نزرعه الآن ستكون له ثماره وحصاده فى المستقبل، لأن الذى يزرع الحصرم لا يجنى سوى المر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق