صديقه القديم...الحبيب الأول!
أحمد بن راشد بن سعيّد
ذات مساء، طفق يتفكر في حاله مع «صديق» له قديم، اسمه الكتاب. لقد مرّ زمن طويل ولم يتصفّح أوراقه، ولم يتنقّل بين فصوله. اشتاق إلى حمله بين يديه، ومطالعته. افتقد الأنس به من دون إجهاد لعينيه ولا إرهاق لجسمه. لقد أودعه رفوف مكتبته، ونسيه، غير أنه يتعهده أحياناً، فيلقي عليه السلام، أو ينفض عنه الغبار، وربما استخدم منديلاً مبللاً لتلميعه، ثم منّى نفسه بقراءته يوماً، وأعاده معزّزاً مكرّماً إلى مهجعه.
كم يبدو هذا الكتاب فاتناً بعنوانه وألوانه، وكأنه فارس يرفض الانحناء للعاصفة، أو مقاتل دهمه العدو فثبت في ساح المعركة وهو موقن بالنصر.
راودته نفسه مراراً أن يلتقطه ويكبّ عليه راشفاً من معينه الخالد، فإذا بيده تمتد (غصباً عنه) إلى ذلك الهاتف الذكي، أو ذلك الحاسوب اللوحي، فتحتضنه وتنسى ما عداه.
كأن ذلك «الصديق» أصبح من التاريخ، أو كأنه التيمم بعد حضور الماء. هو لا يعلم إن كان يشعر بالغضب منه، أم بالخوف عليه من هذا الطوفان الرقمي، غير أنه يشعر حتماً بحنين إليه، ويتمنى لو أمتلك الشجاعة للارتماء بين دفّتيه، والاختباء بين سطوره.
إنه يتذكر الآن كيف كان في طفولته يفزع إلى «صديقه» كلما ساوره خوف، أو انتابه حزن، ويتفحّص «المحتويات» بحثاً عن مبتغاه، حتى إذا وجده، التهمه التهاماً كأنه عاشق ظفر بحبيبته بعد غياب. يا الله!
كم كتاب آنسه في صباه، وعلّمه ما لم يكن يعلم:«الأذكار» و «رياض الصالحين» للنووي، «الوابل الصيب» و «زاد المعاد» لابن القيّم، «الترغيب والترهيب» للمنذري، «في ظلال القرآن» لسيّد قطب، «سيرة ابن هشام».
كم نهل من كتب الآداب:«عيون الأخبار»، «العقد الفريد»، «صيد الخاطر»، «البيان والتبيين»، «طوق الحمامة»، «مقامات بديع الزمان الهمذاني»، «مقامات الحريري»، «تاريخ آداب العرب»، «وحي القلم»، وعشرات من الروايات والدواوين.
كم زار مكتبة، فلم يستطع كبح أشواقه وهي تأخذه إلى كل قسم منها، وكأنه في بستان ينظر إلى زهيراته، فيقطف منها ما يروق له، وقد يشمها ويلثمها.
آه، لا يوجد شخص مثله يعرف نكهة الورق المكتنز بالمعرفة؛ إن مجرد شمّه رائحة كتاب أثير لديه تجعله ملكاً على غابة من الياسمين. يا له من عاق! كيف نسي ليلات الوصال التي عاشها مع كتبه، وقاسمه إياها لحظة بلحظة؟
كان يغوص بكل جوارحه بين السطور، وقد لا يقطع انهماكه إلا صوت أبيه وهو يأمره بالصلاة، أو نداء أمه إلى الطعام. أحياناً كان النعاس يداعب عينيه وهو يحتضن كتاباً، بل ربما غفا على صدر الحروف وقلبه مسكون بالسرد والقص. يتذكر أنه كان يحصل على مصروف «فسحة» المدرسة، فيوفره كله أو بعضه (وكان ضئيلاً)، ويجمع منه المرة تلو المرة، حتى إذا بلغ ثمن كتاب يريده، ذهب إلى السوق، فابتاعه. كان أصحاب المكتبات يعرفونه ويمازحونه، وربما حجزوا له نسخاً من روايات أو دواوين.
أحدهم كان صاحب مكتبة الفلاح في الهفوف، لا يذكر عنه إلا أن اسم عائلته «الطريري»، وأنه كان شغوفاً بالسجع في حديثه مع دعابة وسخرية. كان يختلف إلى مكتبته ويشتري منها فيما يشتري الأعداد الجديدة من مجلة المجتمع الكويتية فور وصولها. ولما كانت الأعداد قليلة، والطلب كثيراً، فقد كان الطريري يصر على بيعه نسخة واحدة فقط، ولذا كان ينسق مع أخيه، ليشتري أحدهما نسخة، ثم يأتي الآخر بعده بدقائق، فيشتري نسخة ثانية. هو لا ينسى كيف أسهمت تلك المطبوعة في صياغة وعيه ووعي جيله فيما يتعلق بقضايا الأمة.
وغير بعيد عن مكتبة «الفلاح» كانت تقع مكتبة اسمها «التعاون» اشترى مرة من صاحبها الفاضل ديواناً لإيليا أبو ماضي، فقال له بلطف: اقرأه بحذر، وكن واعياً لما فيه من أخطاء. وكرّت الأيام، وشبّ عن الطوق، ودخل «كامبس» الجامعة، ثم انتقل من بلد إلى بلد طلباً للمعرفة، لكنه ظل وفياً لصديقه، وكأنه يردد مع أبي الطيب:
أعزّ مكان في الدّنا سرجُ سابحٍ
وخيرُ جليسٍ في الزمان كتابُ
لكن الرقمنة تغوّلت على مفاصل الحياة اليومية، وقام سوق الوسائط الاجتماعية، وصار المحمول يلازم المرء كظله، وحلّ محل الكتاب وما هو أكثر من الكتاب، ولذا، لم يجد بداً من مسايرة لغة العصر. كان شوقي يقول: لكلّ زمان مضى آيةٌ/وآيةُ هذا الزمان الصحُفْ، فجاءت الهواتف والحواسيب لتكون آية الزمان، ونجمة المكان. أصبح الآي فون والآي باد خير جلسائه.
زار والدته ذات مساء، فلمّا هم بالمغادرة، نسي محموله، فالتقطته وقالت: «لا تنس ولَيدِك وانا مّك»، مضيفة: «تراه ولَيدِك». صدقت أمه، وهي دائماً عنده صادقة، لمّاحة، وذات وعي يفوق بمراحل وعي لِداتِها من النساء.
هكذا أضاع الكتاب، ككثير من أبناء جيله، واتّبع العالم الرقمي. يتذكر أنه إذا احتاج الاطلاع على مقاربة ما أو مصطلح ما، خفّ إلى الموسوعة، فاستخرج ما في صدرها من اللآلئ، ويتعب هو، وهي لا تتعب.
لكنه الآن صديق للشيخ غوغل، تقذف به أمواجه يمنة ويسرة حتى تُتعِب عينيه، وتمتص وقته.
غوغل كالبحر يستدرجه إلى أعماقه من حيث لا يشعر؛ في أحشائه الدرّ كامن، إلا أن الغوّاص قد يغرق ولا ينتفع من صدَفاته.
غوغل علّامة فهّامة، لكنه ربما سطّح الفكر، وحوّل الناس إلى أغبياء يناولهم المعلومات في «كبسولات»، قابلة للهضم، فيخرجون بثقافة ضحلة تفتقر إلى التفصيل والعمق.
غوغل شتّته كثيراً من حيث راهن فيه على التركيز، وأضاع وقته كثيراً من حيث أراد اختصار الطريق.
لماذا اتخذ الكتاب مهجوراً؟ لماذا عدل عن احتضان الورقة إلى احتضان الكبسولة؟ لماذا يعرّض عينيه لكل هذه الأشعة الكهرومغناطيسية بدلاً من ملء رئيتيه من عبق الطباعة؟ لماذا يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟
على الأقل، لماذا لا يسعى إلى التوازن، ويصر على الانحياز الكامل للعصر الرقمي طاوياً تاريخاً غنياً بالرموز الورقية. لكن أليس لكل مرحلة من التاريخ أدواتها، ولكل زمان دولة ورجال، فلماذا يأسى على ماضٍ تولى؟ إنما الحاضر أحلى.
تمتم في نفسه: وهل تصلحُ الأوراقَ ما أفسد الدهرُ؟
نعم، الكتاب لم يمت، ولا يمكن أن يموت، وسيبقى ما بقي الليل والنهار.
هل تأثرت الخطابة (التي طالما فتنت الفلاسفة والحكماء عبر آلاف السنين) بظهور وسائط الاتصال الجماهيري (الإعلام) ومن بعدها الوسائط الاجتماعية؟ لا، إن أعظم قادة العالم لا يصلون إلى الحكم إلا إذا امتلكوا ناصية الإقناع الجماهيري، واستخدموا بنجاح الاستمالات البلاغية التي تشكّل الرأي العام وتصنع القبول. كذلك الكتاب، مازال بريقه فاتناً لا تضاهيه أشعة المحمول والحاسوب. وهبه صار تاريخاً، أليس للتاريخ سحره؟ أليس للقديم حلاوته؟ ألم يقل أبو تمّام:
نقّل فؤادَك ما تشاءُ من الهوى
ما الحبّ إلا للحبيب الأوّلِ!
كان ذات ليلة يغرّد في موقع تويتر، فرمى الحاسوب اللوحي، ومشى خاشعاً إلى مكتبته، واستل منها كتاباً قديماً يحبّه ففتحه، ولما رأى آثار قلم التبيين (الفلورسنت)، اغرورقت عيناه، ولا يدري كيف تداعت إلى خياله أبيات أبي القاسم الشابي وهو يتحدث عن الأرض:
وجاء الربيعُ بأنغامه
وأحلامِه وصِباه العَطِرْ
فقبّلها قُبلاً في الشفاه
تعيد الشباب الذي قد غبرْ
وقال لها: قد مُنِحتِ الحياةَ
وخُلّدتِ في نسلِكِ المُدّخَرْ
قضى ليلته تلك يتصفح كتبه القديمة بعيداً عن «الأصدقاء الرقميين».
انهمرت أسئلتهم: «أين أنت»؟ فلم يجب. في الصباح، ابتاع جريدته المفضلة وأخذ يقلّب صفحاتها وهو يحتسي القهوة. شعر كأنما وُلد من جديد. رنّ محموله مرات، فلم يرد. لقد قرر أن يتجاهل «وليده» حتى إشعار آخر.
• @LoveLiberty
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق