الخميس، 9 يوليو 2015

من مآثر الأتراك في رمضان (3) إنهاء الدولة البويهية

من مآثر الأتراك في رمضان (3) 

إنهاء الدولة البويهية



محمد إلهامي
في المقال قبل الماضي ذكرنا مأثرة للأتراك وهم جند في صفوف الخلافة العباسية، وفي المقال الماضي ذكرنا مأثرة لهم وهم خلافة على ذروة العالم الإسلامي، واليوم نذكر لهم مأثرة وهم بين هاتين المنزلتين: منزلة الدولة المستقلّة الخاضعة لسلطان الخلافة الشرعي الاسمي.

عاشت الخلافة العباسية عصرها الذهبي في القرن الأول من تاريخها، مع المؤسّسين والخلفاء العظماء كالمنصور والرشيد والمأمون والمعتصم، ثم تسلّط عليها طبقة العسكر الأتراك فضَعُف مقام الخلافة وبدأت بالانحراف، ثم جاءت الطامة حين استولى عليها البويهيون.

والبويهيون طائفة عسكرية شيعية انطلقت من طبرستان (جنوب بحر قزوين) ولم تزل تتوسّع وتستولي على البلاد في ظل ضعف الخلافة العباسية حتى استولت على العراق، ثم سيطرت على بغداد، فكانت تلك هي المرة الأولى التي تنشأ فيها دولة على غير رغبة الخلافة في قلبها، وقد اعترف البويهيون –رغم تشيّعهم- بالخليفة العباسي السني منعا من تهييج الناس عليهم باطراح شرعية الخليفة العباسي ومكانته وإن كانت مجرد شرعية اسمية مظهرية.
وقد اجتمعت في هذه الدولة المساوئ جميعها، مما جعل القرن الذي سادت فيه قرنا عصيبا كئيبا في تاريخ المسلمين:

1. فهي أولا طائفة عسكرية قضت على الجناح المدني المحافظ على توازن السلطة وحضارتها، وعُزِل الخليفة تماما عن تصريف الأمور بل صار يتلقى راتبه المخصّص له من الملك البويهي، وصار يُعزَل لمجرد رغبة الملك البويهي في عزله أو في نهب أمواله حين يحتاج إلى المال، ووقعت في هذا حوادث تفيض بالحسرة والألم والمهانة.

2. وهي ثانيا طائفة شيعية عَمِلت على نشر التشيّع بين أهل العراق مما أنبت الفتن والنزاعات التي راح ضحيّتها مئات الآلاف من النفوس ومئات الملايين من الأموال، وتمزّقت الأمة مما أطمع فيها عدوّها فبلغ منها ما لم يبلغه من قبل حتى قال ابن تيمية: “وفي دولة بني بويه ونحوهم … كان فيهم أصناف المذاهب المذمومة؛ قوم منهم زنادقة وفيهم قرامطة كثيرة ومتفلسفة ومعتزلة ورافضة وهذه الأشياء كثيرة فيهم غالبة عليهم؛ فحصل في أهل الإسلام والسنة في أيامهم من الوهن ما لم يعرف حتى استولى النصارى على ثغور الإسلام وانتشرت القرامطة في أرض مصر والمغرب والمشرق وغير ذلك”[1].

3. ثم بعد هذا كلّه لم يكن للبويهيين نصيب في جهاد العدو بل كانت سيوفهم مسلولة على أنفسهم أو على غيرهم يتنازعون الملك ويتنافسون على السلطان فزادت بهم الأمة ضعفا على ضعف حتى وصف الذهبي هذا بكلمات مؤثرة قال فيها: “ضاع أمر الإسلام بدولة بني بويه، وبني عبيد الرافضة، وتركوا الجهاد، وهاجت نصارى الروم، وأخذوا المدائن، وقتلوا وسبوا”[2]، فإن الثغور التي اجتهد المنصور والمهدي والرشيد والمأمون في بنائها وتعميرها وتحصينها فقدها المسلمون في عصر بني بويه، ولولا بعض الدفع مما قام به سيف الدولة الحمداني، وأحيانا كافور الإخشيدي لحقّق الروم البيزنطيون انتصارات فارقة في الشام والعراق.

وهذه هي المرة الأولى فيما نعلم التي تنشأ دولة تسيطر على المشرق فلا تستطيع حتى وهي في أوج قوتها تحقيق انتصارات باهرة على الروم، فالأمويون هدّدوا القسطنطينية ذاتها أكثر من مرة، ثم جاء العباسيون فكانوا الأعلى يدا في مواجهات الروم، وفي عصر سيطرة الترك كان الجهاد قويا حتى وإن ضَعُف مقام الخلافة، ثم جاء البويهيون فلم يفعلوا إزاء الروم شيئا بل تلقوا الضربات في صمت أو تلقاها عنهم الحمدانيون في الشام وأحيانا نادرة في الموصل، ثم جاء السلاجقة فأوقعوا بالروم خسائر مزلزلة خالدة أشهرها معركة “ملاذ كرد” التي قادها “ألب أرسلان”، ثم جاء العثمانيون فكتبوا نهاية الدولة البيزنطية العتيقة!

البويهيون وحدهم كانوا سادة المشرق ولم يكن لهم أثر في جهاد الروم!!

وهم مع ذلك مسرفون في الاهتمام بالألقاب والمظاهر السلطانية، وإن كانت البلاد في أشد الحاجة إلى المال، وسَمُّوا أنفسهم بالملك العزيز والملك الرحيم وملك الملوك، ونافسوا الخليفة في الرسوم والتقاليد، حتى لقد أَجبر أول ملوكهم في بغداد الخليفة على نقش اسمه على العملة إلى جوار اسم الخليفة. و “لم يبق شيء لم يغتصبه البويهيون من الخلفاء العباسيين الذين عاشوا في عهدهم سوى لقب الخلافة وما يتعلّق به من مظهرية كاذبة”[3].

وكان إنقاذ الخلافة من هؤلاء البويهيين على يد قوم من الأتراك.. أولئك هم: السلاجقة!

نبغ شأن السلاجقة في أواخر القرن الرابع الهجري، وما لبث أن ظهروا على حدود الدولة الغزنوية في ظل سلطانهم العظيم محمود الغزنوي، لكنهم لم يستطيعوا أن يصيروا قوة إلا بعد وفاته، إذ انتصروا على خلفه مسعود الغزنوي وصاروا بهذا قوة ناشئة فتية ورثت كثيرا من أملاك الدول القائمة في الجناح الشرقي للإسلام.

وسرعان ما تحوّل السلاجقة إلى عاصفة عاتية، وانهارت أمامهم الممالك، وزحفوا غربا فقضوا على ما بقي من دول البويهيين، ووجد العباسيون فيهم المنقذ والأمل من تسلّط أولئك، وانساح السلاجقة حتى امتد سلطانهم إلى قلب آسيا الصغرى، ثم انقسموا إلى ثلاث أقسام: قسم حكموا إيران والعراق، وقسم حكموا كرمان (في جنوب إيران) وقسم حكموا آسيا الصغرى وهم الذين عُرِفوا بـ “سلاجقة الروم”، وكان لهم جهاد واسع وهائل مع الدولة البيزنطية، وهم الذين كان لهم الفضل في ولادة الدولة العثمانية –أقوى دول الأتراك قاطبة وأوسعها أثرا- في آخر أيامهم.

ما يهمنا في سياقنا الآن أن العاصفة السلجوقية العاتية كانت ملاذ الخلفاء العباسيين، فاعترف الخليفة العباسية بطغرل بك (سلطان السلاجقة) منذ (433هـ) وأرسل إليهم رسولا يناشدهم التقدّم نحو العراق وإزالة سلطان البويهيين، وقد كانت الأحوال في العراق قد بلغت من التدهور مبلغا عظيما ونبغ فيها قائد يدعى البساسيري بايع دولة العبيديين أحدث فتنة خطيرة بالسيطرة على بغداد والخطبة للخليفة العبيدي (الفاطمي) في إسقاط للخلافة العباسية وتقوية للدولة العبيدية (الفاطمية).

وما كان أسعد طغرل بك بهذه الرسالة من الخلافة -وهو الذي لم يزل ينتظر الفرصة المناسبة- فلم يكن إلا يسيرا حتى تجهّز، وأرسل وفدا إلى الخلافة قبل قدومه فتلقّته الخلافة بالإكرام والحفاوة، ثم وصل طغرل بك مع موكبه الفخم وجيوشه الكثيرة إلى بغداد (25 رمضان 447هـ) واستقبلته وفود الخليفة بالإكرام وأبدى طغرل بك تعظيم الخلافة وقدرها واحترامها، ثم استقبله الخليفة فيما بعد وخلع عليه (26 رمضان 447هـ)، وكان قد خُطِب له في بغداد (22 رمضان 447هـ)، ثم خطب من بعده لأبي نصر البويهي، وهو ما معناه انتهاء الحكم البويهي وبداية الدخول في عصر السلاجقة، ثم استقر طغرل بك في دار المملكة (2 شوال 447هـ)، وأُقيم حفل تنصيبه (11 ذي القعدة 447هـ).

وكعادة الدول، وكما قالت العرب: لا يجتمع سيفان في غمد، لم يلبث الحال إلا قليلا ووقع اشتباك في بغداد تطور إلى تخلّص طغرل بك من الملك البويهي، على غير رغبة الخليفة الذي توحي سياسته في تلك الأثناء بأنه أراد السلاجقة كدرع له وسند، وكقوة تحدث توازنا مع البويهيين لا كقوة تزيل البويهيين بالكلية وتستولي على الأمر، إلا أن الضعيف –ولو كان الخليفة- لا يملك إنفاذ رغباته، فسرعان ما أنهى طغرل بك دولة البويهيين فقبض على أبي نصر البويهي آخر ملوك البويهيين في العراق (30 رمضان 447هـ).

وهكذا يجب أن يعلم الناس أن الشرعية وحدها لا تحكم .. بل لابد لها من القوة! وأن القوة الخالية من الشرعية أقدر على صناعة -أو حتى شراء- شرعية لنفسها تحكم بها!

وترضية لخاطر الخليفة الذي لا شك أنه أُصيب بأشد صدمة في ذلك الوقت أطلق طغرل بك بعض من قبض عليهم من الجند التركي في جيش الخلافة، لكنه أبقى على البويهي محبوسا واستولى على أملاكه، وبدأ في السيطرة على أنحاء العراق ومراسلة أمراء الأطراف.

وباعتقاله انتهى عهد أبي نصر بن أبي كاليجار بعد ست سنوات في ولاية العراق!

وبانتهاء عهده انتهت الدولة البويهية بعد مائة وثلاثة عشر عاما!

{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}.

ولئن كان أمر الخلافة لم يتحسّن كثيرا تحت ظل السلاجقة، إلا أن أمر الأمة كان أحسن حالا بما لا يقارن من أمرها في ظل البويهيين، والحمد لله رب العالمين[4].

[1] ابن تيمية: مجموع الفتاوى 4/ 22.

[2] الذهبي: سير أعلام النبلاء 16/ 232.

[3] د. وفاء محمد علي: الخلافة العباسية في عهد تسلط البويهيين ص60.

[4] للتوسع: انظر: محمد إلهامي: رحلة الخلافة العباسية، الجزء الثاني.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق