الأربعاء، 15 يوليو 2015

من مآثر الأتراك في رمضان (4) حماية فلسطين

من مآثر الأتراك في رمضان (4) حماية فلسطين


محمد إلهامي

هذا ختام مقالات رمضان، أعاده الله علينا وعليكم بالنصر والتمكين، في هذا الموقع، وقد اخترنا أن تكون تذكيرا بمآثر الأتراك التي جرت في رمضان، فاخترنا منها أربعة مآثر في أربعة أحوال مختلفة؛ فأولها: القضاء على تمرد بابك على يد العسكر الترك الذين كانوا جند الخلافة العباسية وهو التمرد الذي أزهق أرواح ربع مليون مسلم، وثانيها: القضاء على الدولة الشيعية البويهية على يد دولة تركية فتية هي الدولة السلجوقية حين صار الترك أصحاب دولة مستقلة لها موقع على خريطة القوى الإقليمية والعالمية، وثالثها: فتح بلجراد حين صار الترك على ذروة العالم الإسلامي في عصر عظمة الدولة العثمانية، واليوم نتناول الرابعة: وهي مأثرة في زمن الأفول والغروب، فلقد أبى المسلمون الترك أن يفرطوا في فلسطين، ومهما قيل في تقييم شخصية السلطان عبد الحميد فإن سيرته في ملف فلسطين إنما هي صفحة ناصعة جليلة، يزيد في نصوعها وجلالها أنه لم يأت بعده حاكم إلا وهو بين حالين: الإهمال أو الخيانة، والثانية أفشى وأطغى.
في مثل هذا اليوم (26 رمضان 1310 = 13 إبريل 1893) أكدت الخلافة العثمانية في وجه الضغوط الإنجليزية على قراراتها التي سبق أن أصدرتها لمنع اليهود من الاستيطان في فلسطين، وأوضحت أن ما أصدرته من فرمانات لمنع اليهود من الهجرة إلى فلسطين ومنع بيع الأراضي لهم لا علاقة له بالاضطهاد الديني وإنما يستهدف “منع اليهود من الإقامة الدائمة في فلسطين”، وكان هذا التأكيد بمثابة رد جازم على احتجاجات واسعة اشترك فيها القنصل البريطاني نفسه وحولها إلى أزمة دبلوماسية! ولم يستثن القرار العثماني أحدا من اليهود ولا يهود بريطانيا أنفسهم!
كان هذا القرار واحدا من سلسلة المقاومة العثمانية الطويلة للوجود اليهودي في فلسطين، فلقد كانت بداية القصة مبكرة!
1) تبدأ القصة من الشعور المتجذر لدى اليهود بأنهم في منفى وغربة يلهبها حلم العودة إلى الأرض المقدسة التي نُفُوا منها[1]، وقد نتج عن هذا الشعور محاولات متكررة فردية وجماعية، وما كان لمثل هذه المحاولات أن تنجح إلا بظهور حركة قوية تُدخل نفسها في سياق دولي وتضع نفسها في معادلة القوى كخادم لبعض أطرافها، وهو ما تحقق أخيرا بالحركة الصهيونية التي ما كان لها أن تنجح إلا في ظل انهيار الدولة الإسلامية (العثمانية في تلك اللحظة التاريخية) حين وضعت نفسها كرأس حربة للمشروع الصليبي[2]!
يتحدث كتاب “تاريخ يهود مصر في الفترة العثمانية” (ص509 وما بعدها)، وهو مجموعة دراسات كتبها مؤرخون يهود، عن فرمان من السلطان العثماني سليم الأول (فاتح مصر) أو ابنه سليمان القانوني بمنع اليهود من الاستيطان في سيناء، ولا ندري بالضبط الظروف التي اضطرت الخلافة لإصدار هذا الفرمان، ولكن لا ريب أنه رُصِدت حركة استيطانية مبكرة في سيناء فووجهت بهذا الإجراء. ثم كان هذا الفرمان قانونا يستنجد به رهبان دير سانت كاترين لمواجهة أي محاولة استيطانية يهودية متكررة[3].
هذه هي أول واقعة نستطيع رصدها في تاريخ الدولة العثمانية لمواجهة الحركة اليهودية نحو سيناء أو فلسطين.
2) لم يتجدد الطموح في فلسطين إلا ين ضعفت الدولة العثمانية:
وأول ما يطالعنا في هذا الشأن بيان نابليون بونابرت زمن الحملة الفرنسية والموجه إلى اليهود بأنه قد انفتح الطريق لهم أمام العودة إلى عاصمتهم أورشليم، وتذكر بعض الوثائق كيف أن نابليون هو أول من فكر في استخدام اليهود كرأس حربه للمشروع الصليبي، يمهد بهم طريقه في الشرق. إلا أن بعض البحوث تشكك في كل هذا وتنسبه إلى ادعاءات الصهيونية العالمية التي حاولت إيجاد مبررات ودلائل وسوابق تاريخية للتفكير الأوروبي في دولة يهودية بفلسطين، في إطار حثها بريطانيا على تبني مشروع الدولة اليهودية[4].
ثم زاد ضعف الدولة العثمانية أمام محمد علي الذي استطاع احتلال الشام، الذي خضع للحكم المصري بين عامي (1831 – 1840)، وفي تلك الحقبة اتسع النفوذ الأجنبي في الشام كما هي سياسة محمد علي في فتح الأبواب للأجانب، وكان أبرز هذه المظاهر: السماح للأجانب بتملك وشراء الأراضي والسماح بالإقامة الدائمة والسماح بالنشاط والتبشيري، ثم كان أهم هذه المظاهر قاطبة: افتتاح قنصليات أجنبية، وقد كان من ضمن مهمات القنصليات الأجنبية في القدس حماية الأقلية اليهود (وكانت الأقليات في هذه الفترة شعار وسبيل التدخل في الشؤون العثمانية، فتكلفت روسيا بحماية الأرثوذكس وفرنسا بحماية الكاثوليك)، وكان أهم هذه القنصليات هي البريطانية التي كانت أقوى دولة في العالم وقتها. وافتتحت في القدس عام 1838م.
وفي هذه الفترة تأسس مشروع كبير لتوطين اليهود في فلسطين حمله موشيه مونتفيوري إلى الباشا يقضي بتأجير من 100 إلى 200 قرية لخمسين سنة، مع دفع الأعشار مقدما وبزيادة 10 – 20%، وقد وافق الباشا فعلا، إلا أن تطور السياسة منع من اكتمال المشروع، إذ أُجبر محمد علي على ترك الشام والاكتفاء بمصر بعد مؤتمر لندن 1840.
ويرصد تقرير فرنسي (من عميل يدعى جول دي برتو مرفوع إلى وزارة الخارجية الفرنسية بتاريخ نوفمبر 1840) يقول بأن بريطانيا إنما أصرت على تخلي محمد علي عن الشام بأنه تدبير منها لإنشاء دولة يهودية، ورصد التقرير وجود بعثة بريطانية برئاسة الدكتور “كايت” مؤلف كتاب عن “تحقيق النبوءات”. ومنذ ذلك الوقت ظهرت فكرة الدولة اليهودية على الصحافة فكتبت التايمز مقالا بعنوان “سوريا وبعث اليهود” (17/8/1840)، وجاء في رسالة من السياسي البريطاني شافتسبري لوزير الخارجية بالمرستون (بتاريخ 25/9/1840) أن أرخص وأضمن وسيلة لجعل سوريا منطقة بريطانية هي توطين اليهود[5]. وكانت بريطانيا تواقة لأن تكون لها أقلية تحمي مصالحها وتكون سبيلا لنفوذها الداخلي كما للروس مع الأرثوذكس والفرنسيين مع الكاثوليك.
3) ثم كانت الأزمات الكبرى في هذا الملف حين وصل ضعف الدولة العثمانية إلى غايته، وكان السلطان عبد الحميد الثاني قد ورثها، في ظل التوحش الصليبي والأطماع اليهودية التي صارت علنية بقيادة تيودور هرتزل. وحيث كانت الخلافة العثمانية ضعيفة لا تقوى على حسم الأمور بالسيف فقد صارع عبد الحميد وبذل أقصى مجهوده على مستوى السياسة ومحاولة الدخول على خط التنافس الداخلي الأوروبي ليستعين ببعضهم على بعض.
ومن قبل عبد الحميد، أصدر السلطان عبد العزيز أمرا بتحويل القدس إلى “متصرفية” تتبع الخلافة مباشرة بدلا من كونها “سنجق” ضمن ولاياتها تخضع لإدارة محلية، ثم جاء عبد الحميد فأصدر قرارا (25 ربيع الثاني 1308 = 7 ديسمبر 1890) بثبيت وضع الأراضي في القدس كأراض أميرية يُحظر البيع والشراء فيها، واشترى كثيرا من أراضي فلسطين من أموال الخزانة الخاصة للتضييق على تمدد الشراء الأجنبي، ورفض منح الجنسية العثمانية لعدد من اليهود، وأصدر عددا من الفرمانات والقرارات التي تحول دون بيع الأراضي لليهود في سائر الدولة العثمانية وفي فلسطين على وجه أخص. ورغم العرض السخيّ الذي تقدم به هرتزل لسد العجز في ميزانية الدولة، مع الدعم الإعلامي، وهو العرض المصحوب بضغوط أوروبية سياسية، إلا أن السلطان فضَّل أن يخلد في التاريخ، وقد فعل، وكان موقفه هذا –بالرغم من كل ما يُدان به في سياساته الأخرى- صفحة ناصعة في تاريخه وتاريخ الدولة العثمانية وتاريخ الأتراك المسلمين[6].
المراجع
[1] د. عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية (الموجزة)، دار الشروق، مصر، الطبعة الثالثة، 2006م، 1/68 وما بعدها.
[2] كان جعل اليهود رأس حربة للمشروع الصليبي، أو بتعبير المسيري “جماعة وظيفية للغرب”، من أركان دعاية الحركة الصهيونية، ونسبت ذلك لكل قائد غربي حتى الإسكندر الأكبر. انظر: هنري لورنس: بونابرت والدولة اليهودية، ترجمة: بشير السباعي، دار مصر العربية، مصر، الطبعة الأولى، 1998م. ص45، 51.
[3] انظر:
– يعقوب لانداو (تحرير): تاريخ يهود مصر في الفترة العثمانية، ترجمة: جمال الرفاعي وأحمد حماد، المركز القومي للترجمة، مصر، 2000م. ص509 وما بعدها.
– إسماعيل أحمد ياغي: الدولة العثمانية في التاريخ الحديث، مكتبة العبيكان، السعودية، 1995م. ص246 وما بعدها.
[4] هنري لورنس: بونابرت والدولة اليهودية ص52 وما بعدها.
[5] رفيق شاكر النتشة: السلطان عبد الحميد الثاني وفلسطين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1991م. ص83.
[6] انظر:
– رفيق شاكر النتشه: السلطان عبد الحميد الثاني وفلسطين ص48 وما بعدها.
– أحمد آق كوندوز وسعيد أوزتوك: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، الطبعة الأولى 2008 م. ص448 وما بعدها.

– مروان عبد الرحمن أبو شمالة: الاستراتيجية الصهيونية تجاه مدينة القدس، رسالة ماجستير، كلية الآداب، الجامعة الإسلامية، غزة، فلسطين، 2012. ص108 وما بعدها.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق