الأربعاء، 30 نوفمبر 2022

بقعة ضوء (3)

بقعة ضوء (3)

فاتن فاروق عبد المنعم 

الجهاد في سبيل الله:

هيو كينيدي الإنجليزي بلا خجل ينتقد عقيدة الجهاد في الإسلام كما ينتقد الجزية

 (التي كانت ومازالت دين وديدن البشرية جمعاء، من الاستيلاء على خيرات الشعوب ومقدراتها وحرمانها خيرات بلادها، فجاء الإسلام وقننها لعلتها، والآن نحن الذين ندفع الجزية بطرق أخرى ملتوية (مثل تصدير المواد الخام بثمن بخس وإعادة استيرادها مصنعة بأغلى سعر والأمثلة كثيرة نعجز عن حصرها) وإن كانت مرئية لكل ذي بصيرة وإلا لماذا نعاني شظف العيش ونحن بلاد حباها الله بالخير العميم؟!!)

 ويرى هيو كينيدي الإنجليزي أن القرآن هو الحاض على العنف ضد الآخرين ويسوق الآيات الدالة على ادعائه، بالطبع وهو من دين وبيئة مختلفة، تربى على مفاهيم معينة في مرابعه تفوق بكل أسف أدلة بحثه كمؤرخ والتي يلوي عنقها، فهل لمثلي أن تسوق له آيات من إنجيله الذي بين يديه (والذي هو في عقيدتنا محرف) حاضة على ما ادعاه على القرآن، غير أني لن اتبع هذا الأسلوب الدال على الإفلاس، ولكني سأناقش فقط ادعائه على القرآن

(فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 5) التوبة

اعتبر كينيدي هذه الآية هي المؤسس للفتوح الإسلامية وهي التي تلخص فلسفة الجهاد أو التعامل مع غير المسلمين بعامة، ولا بد أن يعذر كونه غير مسلم فلا يفهم الدين في مجمله.

لم يبعث نبي من الأنبياء إلا بين أساطين الكفر وعتاة الظلم، باستثناء سيدنا عيسى عليه السلام الذي بعث في اليهود وهم أصحاب كتاب بها شريعة الله كاملة وليسوا بحاجة إلى نبي بشريعة جديدة، لذا أرسله الله إليهم ليذكرهم بالشريعة التي يتنكرون لها ويحرفون الكلم عن مواضعه بدليل أن الإنجيل الحالي مقسم إلى جزئين العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد وهو الإنجيل بمحتواه الذي يؤكد شريعة الأنبياء بعامة والبشارة بسيدنا محمد ، فكان فقط لتذكير الظالمين (اليهود) الذين يجحدون بآيات الله.

أما بعثة سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه فكانت بعد أن بعدت الشقة بين الناس ورسالات الأنبياء بعامة، منها ما غاب تماما ومنها ما حرف، فكان القرآن بالشريعة الإلهية الشاملة الجامعة لدعوات كل الأنبياء السابقين عليه، وتعهد الله جلا وعلا بحفظه

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ 9) الحجر

بمجرد دعوة أساطين الكفر ورعاته سواء داخل شبه الجزيرة العربية (دول الخليج الحالية مجتمعة) أو خارجها عندما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم الرسائل للملوك ورؤساء القبائل، تجمعوا وتكتلوا في “تحالف”للقضاء على الدين الجديد الذي يفرق بين المرء وزوجه، وسن للعبيد قانون في التعامل معهم بما يحفظ حقوقهم وأكثر من هذا نظام اجتماعي كامل شامل للقضاء العبودية، ذلك النظام الاجتماعي المتجذر في البشر بعامة، لذا تكالب الظالمون لوأد الدين الذي يجعل من الناس سواسية كأسنان المشط، وهنا واجب التصدي لتجبرهم، فمن لها سوى جماعة المؤمنين، القوة لحماية الدعوة الوليدة، ولتبليغها لعوام الناس لأن الملوك يمنعون وصولها إليهم.

ولي أن أسأل المؤرخ المعاصر ماذا كانت تفعل بلده في القرن 18، 19، 20، عندما كانت لا تغيب عنها الشمس، بأمر الملك الذي هو رأس الكنيسة؟

كانوا يسومون سكان البلاد التي احتلوها سوء العذاب وأكل أموال الناس بالباطل وإفقارهم، والعيث في بلاد الآخرين الفساد، وساقوا خمسة ملايين من العبيد من أفريقيا وشحنوهم في السفن لتعمير الأمريكيتين يعملون في ظروف غاية في السوء، منهم من كان يموت جوعا ويلقون به في البحر، ومن قبلها الحروب الصليبية وهي حروب دينية صريحة دون مواربة، ومؤخرا قبل أن يذهب بوتين بجيشه لحربه المقدسة بسوريا عام 2014 ذهب بجنده وأسلحته إلى الكنيسة ليباركهم رأس الكنيسة، وعلى الدبابة صليب كبير، فهل هناك شك من أن هذه الحروب دينية، وهؤلاء الجنود مدفعون بنصوص دينية صريحة؟!

ثم يشكك كينيدي في حقيقة ما يثار في المصادر العربية عن الخلفاء الراشدين بعامة ويرى أن حالة المثالية التي أضفوها عليهم بها الكثير من المبالغة، وهذا انحياز لا ينبغي لعالم أن يقع فيه فتتغلب عليه قناعاته الشخصية (أيديولوجيته) وعدم الركون إلى الوثائق والمخطوطات التي بين يديه، ثم أين هي المثالية التي يتحدث عنها كينيدي في ظل نشوء أحداث الفتنة الكبرى في زمن الخلفاء الراشدين؟! والذين قتلوا جميعا في أحداثها عدا أبو بكر الصديق.

ويستمر في منهج التشكيك فيقول عن الخلفاء الراشدين أنهم كانوا مقطوعي الصلة بقادة الجيوش أو أنهم ليسوا القيادات العليا لهذه الجيوش الذين كانوا يقودون فتح البلاد، فهل هذا يعد من قبيل اختلاف لمجرد الاختلاف؟ بالقطع القائد الفعلي في الميدان هو صاحب القرار وهو المحرك الذي يقود الجيوش طبقا لرؤية الأحداث على الأرض ولا شك ولا عيب في ذلك في زمن كانت الرسائل من وإلى تأخذ بالشهور حتى تصل.

مسوغات الفتوح العربية لدى كينيدي:

يرى كينيدي أن حروب الردة في زمن الخليفة الراشد أبو بكر الصديق كانت هي بداية حركة الفتوح العربية، وحروب الردة التي أطلق شرارتها أبو بكر الصديق رضي الله عنه كانت بسبب امتناع بعض المسلمين عن دفع الزكاة فارتأى الصديق أن إهدار ركن أصيل من أركان الإسلام يعد ارتداد يوجب إعلان الحرب عليهم، وبعد انتصار جيش المسلمين في هذه الحروب التي استمرت سنتين وعودة لحمة الداخل واصل جيش المسلمين الفتوحات التي بدأت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، ارتأى كينيدي أن الخروج لهذه الفتوحات لجأ إليها قادة المسلمين لاستيعاب طاقة بدو الصحراء العسكرية وحبهم للتفاخر بمآثرهم في الحروب والتغني بانتصاراتهم في أشعارهم وسبق أن قلت أنه يعمل إسقاط على المسلمين لأن مسوغ الحروب الصليبية كان للتخلص من خلافات أمراء المقاطعات في أوروبا الذين كانوا يغيرون على بعضهم البعض مما أرهق العوام.

صفات رجال الفتوح الإسلامية:

عند فتح العراق أحد القادة العرب ألقى خطبة لملك الساسان فقال (مجتزأ منها):

«إنك وصفتنا صفة لم تكن بها عالما، فأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أسوأ حالا منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعران والحيات، فنرى ذلك طعامنا، وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا من غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا أن يقتل بعضنا بعضا، ويغير بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامنا، فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك، فبعث الله إلينا رجلا معروفا، نعرف نسبه ومولده، فأرضه خير أرضنا وحسبه خير أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، وهو بنفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا وأحلمنا، فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد قبل صديق له وكان الخليفة من بعده، فقال وقلنا، وصدق وكذبنا، فلم يقل شيئا إلا كان فقذف الله في قلوبنا التصديق له ولاتباعه، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين، فما قال لنا فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمر الله»

سبق أن وصفت واحدا من الذين فتحوا مصر ولم يكن يختلف عن هذا التوصيف، رجال المهام الصعبة تربوا تربية خشنة وهذا دليل على أنه مقصد إلهي، هذا التجويع آنف الذكر، كان إعداد وتهيئة لأمر جلل لا يقدر عليه إلا مصقولي الداخل، النفوس تربى كما الأجساد، فماذا عنا ونحن الموغلون في فتنة «السراء» نحن الذين لا ننتج أي شيء ولو حبست عنا الدول المصدرة منتوجاتها لصرنا في درك وكدر أكثر من الذين كانوا يأكلون الجعران والحيات، إن الذين ينتحرون ويقتلون أبناءهم خشية إملاق، والذي ينتحر لأنه لم يفز بمحبوبته، هم جبناء ضعفاء ونفوسهم خواء، لا يقدرون على شيء، ولا يلوون على أهداف كبرى، وهم عرض لمرض المجتمع بكل فئاته بيد أن المرض سرعان ما يلتهم الأضعف على اختلاف نوع ضعفه، لكن الثابت والأكيد أننا كلنا معيبون، وقد يقول قائل ممن قلوبهم في أكنة وفي آذانهم وقرا أن هؤلاء كانوا فاتحين فهل نحن سنخرج للفتوح؟

كلا، ولكن في الوقت نفسه أنت معتل لا تستطيع أن تدرأ عن نفسك أي خطر، وأن تعرضنا لأي كارثة ستكون ماحقة لا مرد لها، رجال الفتوح آنفي الذكر تربوا تربية خشنة خلفت نفوسا صلدة لا تؤثر فيها النوائب، أما الموغلون في فتنة «السراء» تربيتهم ناعمة خلفت نفوسا خربة تذروها الرياح، أي رياح.

رجال الفتوح كانوا موغلين في الجاهلية والقسوة والغلظة، جاء الدين فهذبهم وأعاد صياغتهم ليفوزوا بالحسنيين، التربية الخشنة في جاهليتهم، وتعاليم الدين الحنيف الآتية من لدن حكيم خبير بعد إسلامهم، الدين هو طوق النجاة ومفتاح الحياة الذي يفك كل الشفرات، الدين ليس خطبة جمعة تسمعها وبيدك الهاتف، ولا حفظ أصم عقيم للقرآن الكريم «الذي هجرناه» وإنما حفظ ودراسة وفهم وتدبر وعمل، وكل من يقترب من حياضه الريانة يقرب ويظل طالبا لمزيد من الارتواء.

وللحديث بقية إن شاء الله



بقعة ضوء (2)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق