الأربعاء، 17 مايو 2023

بقعة ضوء (12)

 بقعة ضوء (12)

فاتن فاروق عبد المنعم

فتح سستان:

موطن الملحمة الشعرية الفارسية الشهنامة، استمرار لسيل الفتوح الإسلامية وتتبعا لمسار يزدجر الثالث الذي مر بها كان ولابد من تتبعه، والطريق صعب جدا بسبب العواصف الجليدية وصحراء الملح، وأثناء مرورهم استسلمت مدن كثيرة جدا تجنبا للحرب والدمار، أما يزدجرد الحريص على جمع شتاته والظهور بمظهر فخيم بين أربعين ألفا من الخدم والعبيد والسياس والزوجات وغيرهن من النساء والسكرتارية والأطفال والعجائز من العائلة ولم يكن بينهم محارب واحد، ولم يكن يملك المال الكافي لإطعام جيشه المتردد، ولم تشفع له توسلاته للسستان لمساعدته وهم من أصموا آذانهم له، استمر كسرى في الزحف مثقلا بهمومه و بالأربعين ألف الذين يرافقونه، من سستان إلى خراسان إلى طبر ستان لا يلقى من ردود الفعل  سوى الصدود وربما لمح نية الغدر به فيسارع بمواصلة الزحف ربما عثر عن ظهير له ولكنه لم يحصد سوى الإخفاق تلو الإخفاق حتى قتل وألقي بالنهر دون معرفة التفاصيل، ولكن كاتب الشهنامة أفرد له من مخيلته ما حافظ على تتمة نصه البديع فقال أنه انتهى به الحال إلى طاحونة والطحان بها اسمه «خسرو» وهو من لاحظ عليه أمارات الفرسان الكبار فطلب منه كسرى أي طعام مع حزمة مقدسة (يشعل فيها النار كي يصلي) فذهب عند رئيس مكتب تحصيل الضرائب لإحضار الحزمة المقدسة وأخبره بمن يريدها،

حيث قال:

“هناك محارب على القش في طاحونتي، إنه طويل مثل شجرة السرو، ووجهه مجيد مثل وجه الشمس، وحاجباه مثل قوس، وعيناه الحزينتان مثل زهور النرجس، وفمه مليء بالتنهدات، وجبهته مقطبة عابسة، إنه هو الذي يريد الحزمة المقدسة كي يصلي، وفي الحال أرسل رئيس المكتب «خسرو» إلى «ماهويه» حاكم خراسان الذي أمره بالرجوع إلى الطاحونة وقتل كسرى، مهددا إياه بإعدامه إذا لم يفعل،

وأضاف أن التاج والأقراط والخاتم والملابس الملكية لا يجب تلويثها، وعاد الطحان المرتبك إلى الطاحونة وفعل ما أمر به، وطعن كسرى بخنجر، وسرعان ماظهر رجال ماهويه الموالين الذين جردوا الجثة من شارات الملك وألقوا بها في النهر”

ولنا هنا وقفة:

كسرى لم يستطع تقدير الموقف الذي وضع فيه، الحرص على الظهور بالفخامة الفارسية في كل شيء حتى في أحلك الظروف دلالة على البون الشاسع بينه وبين الواقع المحيط به، مضى مكبل بخدمه وعبيده وعائلته الذين هم بحاجة إلى جيش يحميهم، وجيشه إن وجد فقد أصيب باليأس والإحباط لأسباب كثيرة أهمها الهزائم تلو الهزائم وانعدام مصادر الإنفاق،

يرافق هذا ويتساوى معه كراهة شعوب الممالك الفارسية لكسرى لدرجة أنهم يفضلون الركون لأي غازي يخلصهم منه، ويبقى السؤال لماذا التخبط وعدم تقدير الموقف رغم وضوح الصورة وانعدام الضبابية؟ بالطبع الإجابة الشافية أنه انعدمت معها البصيرة ليقضي الله أمرا كان مفعولا.

من المناطق التي لاقى فيها الفاتحون ممناعة ضارية هي قندهار وكابل بأفغانستان نظرا لطبيعتها الجبلية الوعرة ولكنهم صمدوا حتى بلغوا الهند.

يقول كينيدي:

«كان يزيد بن المهلب والي خراسان (أفغانستان) قد حاز تاجا من بقايا الفرس ولكنه مرره بسرعة إلى واحد من مرؤوسيه، فقد كانت التيجان تلبس على رؤوس أبناء الطبقة الارستقراطية الإيرانية،

ولكن المسلمين الأكثر تقوى وزهدا كانوا ينظرون إليها بارتياب عميق، وكانوا يرون فيها نموذج للخيلاء والتيه لدى الفرس،

وربما بسبب هذا احتج المرؤوس بأنه لايريد التاج وأعطاه لواحد من الشحاذيين، وسمع يزيد بهذا فاشتراه مرة أخرى من الشحاذ»

يحدث هذا فقط عندما تكون الدنيا تحت الأقدام، بينما السعي لجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الكفر هي السفلى، أما إذا كانت ملئ القلوب فإن ذوي هذه القوب يسقطون إلى أسفل السافلين.

ظلت إيران بلغتها الفارسية وإن كانت العربية هي لغة الحاكم والديوان ولكنها سرعان ما انفصلت عن الدولة الأموية في القرن العاشر الميلادي فتجلت لغتها الفارسية ولكن بأحرف عربية مع استدعاء بعض المفردات العربية،

وظل لإيران خصوصيتها الثقافية من ميراثها السابق على الإسلام ومثلها كل شرق آسيا، ولم ينسى كينيدي البكاء على أوراقه لأن مصر والشام تعربتا ولله تفصيله وحكمته في ذلك، فاعتبروا يا أولي الأبصار.

مضى «البدو الأجلاف» يسابقون الريح يفتحون الممالك التي يقترن اسمها بمقطع «ستان» ورغم أنهم أجلاف فقد كانت أخلاقهم أخلاق الفرسان النبلاء،

المتن الذي ينطلقون به من لدن حكيم خبير علمهم الحفاظ على الإنسان أيا كان، فلم يتدخلوا في ثقافات الممالك التي افتتحوها، ولا حتى أديانهم المغايرة للإسلام، فإن لم يكسبوهم في صفوف المؤمنين فلا يخسروهم كبشر،

إنها الإنسانية في أبهى تجلياتها وحرية المعتقد ومعان أخرى كثيرة ظن «المزيفون» أنهم من استحدثوها ولكنهم يراهنون على الذين كسروهم من الداخل، وعلى الذين لا يقرأون، وعلى الذين تم تزييف وعيهم عن قصد من أبواقهم بيننا،

هذا ما قدمه المسلمون للبشرية، زحفوا على أقدامهم دون طائرة أو صاروخ يشقون الأرض بأقدامهم متحملين أقسى الظروف على تنوعها حسبة لله ولله، يخلصون الناس من عبادة البشر والحجر والنار، ليخلصوهم من عبادة الشيطان حتى لا يكونوا وقود جهنم في الآخرة، فكل عبادة لغير الله هي عبادة للشيطان،

أما الصعاب التي تحملوها لا يقوى عليها إلا نفوس مضمخمة بصحيح العقيدة جزاهم الله عنا خير الجزاء، فإن سمعت أحدهم ينبش في سيرتهم العطرة ليلتقط بملقط سوءاتهم فأعلم أنه منافق أسود القلب قعيد كسيح سيعيش ويموت دون منجز حقيقي له، يجوس في الفتنة شديدة السواد، لأنهم بشر تتفاوت بينهم الإيجابيات والسلبيات بنسب ودرجات مختلفة، أصابوا وأخطأوا ولكن منتجهم النهائي مبهر ومنجزهم فريد لا ينكره إلا سقيم النفس معتل القلب معدوم البصيرة.

وللحديث بقية إن شاء الله


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق