بقعة ضوء (1)
فاتن فاروق عبد المنعم
دائما وأبدا هي دعوة الأنبياء جميعا، منهم من ورد ذكرهم بالقرآن، ومنهم من لم يرد، هؤلاء ومن تبعهم توعدهم الشيطان وحزبه منذ خلق آدم، لا يألو جهدا في فتنة المؤمنين في دينهم، فكان ولابد من وجود فئة مناهضة تعمل على ديمومة اتباع الحق والدعوة إليه، هؤلاء فقط هم خير أمة أخرجت للناس
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}
(110 آل عمران)
وهنا سؤال يطرح نفسه،
هل مسلمي اليوم يشبهون مسلمي الأمس، وهل يستحقون توصيف خير أمة؟
الصورة بين أيدينا ماثلة لا تقبل التأويل، مائة عام فقط كانت كافية للمسلمين الأول كي يشقوا الأرض بأقدامهم ويبلغوا الدعوة ويقتطعوا من يابسة هذا الكوكب مساحة ممتدة يشار إليها بما يسمى بالعالم الإسلامي،
بينما مسلمي اليوم تتآكل من بين أيديهم تلك البقعة دون أن يطرف لهم جفن (مؤشر دال وواضح على إصابتهم برقة الدين) إلا من جيوب مقاومة في مناطق متقطعة، فلماذا ركنوا إلى القعود بينما الأول امتطوا صهوة الريح عبر أراض قاحلة غير قابلة للسكنى فبلغوا إمبراطوريات عظمى وحكموا أراضيها، ودهش المؤرخون والمستشرقون والمفكرون بفعلهم، فما هو مناط النجاح؟
أي موضع نصرنا نحن الله كي ينصرنا؟
قول واحد، إيمان رسخ بالقلوب صدقه العمل، أما مسلمي اليوم والذين يتخبطون في مرج التيه فليسألوا أنفسهم على مستوى الفرد والمجتمع في أي موضع نصرنا نحن الله كي ينصرنا؟
في نفسك، في أسرتك، في كل دائرة تحيط بك وتدور في فلكها،
صدقوني الإجابة صادمة، بنو إسرائيل بمجرد أن نجاهم الله من فرعون وجنوده
وغاب عنهم سيدنا موسى أربعين يوما فقط عاد ليجدهم عبدوا عجل السامري
فاستحقوا التيه في صحراء سيناء أربعين سنة حتى ينتهي هذا الجيل ويأتي آخر لم يتلوث بعبادة العجل،
فماذا نحن فاعلون والسامري (المسيخ الدجال) صنع لنا جملة من العجول التي عبدناها من دون الله،
لا يشترط أن تكون هذه العبادة بشكلها التقليدي،
يكفي أن تصيخ السمع للفساق والزنادقة والمرتدين وتتبعهم دون أن تدري بعد أن جفت منابعك فلم تعد تميز الغث من السمين،
السامري استذلنا بنفوسنا الضعيفة وهممنا المتقاعسة ويعرف كيف يستدرجنا،
أما مناط النجاة الوحيد هو صدق الإيمان الذي يصدقه العمل كما أنزل بالكتاب،
هذا هو أصل الشقاء الذي نعانيه وما الأسباب المحيطة بك إلا لتجلي لك هذه الحقيقة التي تتغافل عنها.
الراهب حنا باربنكايا كان يعيش في جنوب شرق تركيا بديره النائي بالقرب من نهر دجلة في ثمانينيات القرن السابع، كتب عن الفتح العربي للشرق الأوسط فقال:
«كيف يمكن لرجال عراة، يركبون دون درع أو ترس، أن يتمكنوا من الانتصار ويحطوا من روح الكبرياء الفارسية؟»
أولئك الذين في فترة وجيزة قبضوا على نواصي المدن الحصينة في العالم بأسره وفرضوا سلطانهم من البحر إلى البحر «فكانت أيديهم فوق الجميع»
الفتح الإسلامي لدولة ما
كان يستغرق أكثر من عشر سنوات، وبعد سبعين سنة من الفتوح الأولى أعلن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (685 – 705م) أن لغة الديوان هي العربية بالتالي لا حاجة لتعلم اليونانية أو الفهلوية (الفارسية)
لأنها غير مستخدمة لدى موظف الديوان بمعنى أنه للحصول على فرصة عمل لابد من تعلم العربية حتى لغير المسلمين
(الآن لابد أن تتعلم لغة أو لغتين أجنبيتين لكي تحصل على فرصة عمل متميزة بل إن التعليم بداية من مرحلة رياض الأطفال هو بالإنجليزية فأي تدني وانحطاط هذا الذي بلغناه، إنه الاحتلال المقنع)
تدوين أحداث الفتوحات الإسلامية
وفي مطلع القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري) بدأ تدوين أحداث الفتوحات الإسلامية،
وعنيت بتبرير هذه الفتوح وشرح كيفية استبدال النخب السابقة بأخرى إسلامية ولكنهم لم يهتموا بإبراز أعراق وأصول هؤلاء الأفراد،
فقط الهوية الإسلامية هي المعلنة حتى في التعامل مع غير المسلمين فهم يتبعون هذه الهوية (كثقافة مكان) بحكم انتمائهم لهذه البقعة من الأرض،
ومع نهايات القرن التاسع وبداية القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري) ظهر الورق وبدأ استبداله بالرق وجلود الحيوانات في الكتابة فنشطت حركة التدوين والمخطوطات
والتي اتخذت بعدا آخر غير السابق، حيث الدقة في التناول للمرويات المتداولة والأخبار الواردة من هنا أو هناك.
وتم سك العملات ذات النقوش الدالة على الهوية الإسلامية،
بينما اعتناق غالبية سكان هذه البلاد للإسلام استغرق ثلاثمائة عام
وهو ما يدحض ادعاءات المتخرصون (وهم كثر) على تنوعهم في كل زمان ومكان بأن المسلمون كانوا يجبرون الناس على اعتناق الإسلام.
طبيعة الجيوش التي فتحت البلاد، لم تكن عربية خالصة وإن كانت القيادة عربية،
فالجيش نفسه كان يتكون من ألسن كثيرة وهنا ملمح مهم جدا وهو تغلب الهوية الدينية على الهوية العرقية،
إنه نقاء عقيدة المسلمين الأول الذين وصفهم الراهب بأنهم العراة الذين لا يرتدون درع ولا ترس.
الفاتحون الأول كانوا يتقاسمون الغنائم والمناصب بالعدل بينهم في زمن عمر بن الخطاب
حيث العدل الصارم الذي لا يقبل الحيدة ولا التلبيس، كما ذابت الفروق والفواصل الظاهرية بينهم،
فهم يعتنقون قول النبي ﷺ:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ)
نفي صريح لكل أنواع العنصرية
فجانب هؤلاء الانتصار الدائم كأنهم على موعد معه وهو لهم بالخل الوفي، فلما مرضت القلوب
وتدخلت الأهواء وغاب الترياق النبوي الشفيف اشتعلت بينهم النعرات القبلية والطائفية مثل هؤلاء يمنيون، وهؤلاء حجازيون، وهؤلاء قيسيون،
فكانت هذه هي القاسمة التي أوقفت زحفهم الجسور إلى أوروبا فهزموا في معركة بلاط الشهداء جنوب فرنسا،
وليس ذلك فحسب بل كان العرب يحتفظون بمناصب الحكم في الأندلس لأنفسهم دون البربر.
(الذين كانوا يمثلون أغلب الجيش الذي به تم فتح الأندلس والمغرب العربي) مما أثار حفيظتهم حيث أنهم كانوا التكأة التي بها تقدم موسى بن نصير وطارق بن زياد ولولاهم ما تم هذا الفتح،
فعلقت بالنفوس غصة لم تغادرها وكانت القاصمة التي قادتهم إلى الطرد من الأندلس، فأصبح هذا الدرس القاسي عبرة للأجيال اللاحقة على مر العصور،
العدل فقط هو من يقيم الدول ويلحق الرفعة بالأمم بينما ظلم البربر والركون إلى مرج الجاهلية الأولى من الانحياز الأعمى كل لأصوله ألحق بهم الهزيمة الماحقة دون استثناء، فصدق عليهم قول الحبيب «دعوها فإنها منتنة»
مناط الإيمان ومناط الكفر:
«من منكم يبايع على الموت» قالها عكرمة ابن أبي جهل (مؤمن مجاهد ابن واحد من أكبر أساطين الكفر) في معركة اليرموك، فبايعه أربعمائة فارس من المسلمين يبيعون أنفسهم لله فربح بيعه،
هكذا الإيمان هو الذي يشحن الفرد المقاتل بينما جنود الدول البيزنطية والساسانية كانوا يربطونهم بالسلاسل حتى لا يفروا من الميدان لأنهم كانوا مكرهين على هذا التدافع من ملوكهم.
الترف يميت القلوب ويثبط الهمم:
بعد فتح مصر بأكثر من خمسين عاما جاء الخليفة الأموي عبد العزيز بن مروان (686- 704م) في زيارة لمصر
فسأل عن رجال حضروا فتح مصر أخبروه أنه يوجد رجل روميا كان صبيا يافعا أثناء الفتح فقال:
كنت غلاما شابا وكان لي صديقا ابن بطريرك من بطاركة الروم، فقال ألا تذهب بنا إلى هؤلاء العرب الذين يقاتلوننا؟
فلبس ثياب ديباج وعصابة ذهب وسيفا محلى وركب برذونا ثمينا كثير اللحم،
وركبت أنا برذونا خفيفا، فخرجنا من الحصون كلها،
فرأينا قوما في خيام، لهم عند كل خيمة فرس مربوط، ورمح مركوز، ورأينا قوما ضعفاء،
فعجبنا من ضعفهم وقلنا كيف بلغ هؤلاء القوم ما بلغوا؟!!
فبينما نحن وقوف ننظر إليهم ونعجب إذ خرج رجل منهم من بعض تلك الخيام،
فنظر فلما رآنا حل فرسه، فمعكه ثم مسحه، ووثب على ظهره وهو عري،
وأخذ الرمح بيده وأقبل نحونا، فقلت لصاحبي هذا والله يريدنا.
فلما رأيناه مقبلا إلينا لا يريد غيرنا أدبرنا مولين نحو الحصن، وأخذ في طلبنا،
فلحق صاحبي لأن برذونه كان ثقيل اللحم، فطعنه برمحه، فصرعه، ثم خضخض الرمح في جوفه حتى قتله.
ثم أقبل في طلبي،
وبادرت، وكان برذوني خفيف اللحم، فنجوت منه حتى دخلت الحصن ثم صعدت على سور الحصن أنظر إليه فإذا هو لما أيس مني رجع، ولم يرغب في سلبه ولم ينزعه عنه،
وقد كان سلبه ثياب الديباج وعصابة من ذهب ولم يطلب دابته،
ولم يلتفت إلى شيء من ذلك، فانصرف من طريق أخرى وأنا أنظر إليه،
وأسمعه يتكلم بكلام ويرفع به صوته فظننت أنه يقرأ قرآن العرب،
فعرفت عند ذلك أنهم قووا على ما قووا عليه وظهروا على البلاد لأنهم لا يطلبون الدنيا ولا يرغبون في شيء منها،
حتى بلغ خيمته فنزل عن فرسه فربطه وركز رمحه ودخل خيمته،
ولم يعلم بذلك أحدا من أصحابه.
صفات واحد ممن فتحوا مصر:
فقَال عبد العزيز: صف لي ذلك الرجل وهيئته وحالته.
فقال: نعم هو قليل دميم، ليس بالتام من الرجال في قامته، ولا في لحمه،
رقيق آدم كوسيج (لا شعر على عارضيه)
فقال عبد العزيز: هو يصف رجل يمني.
نعم أغلب الجيش الذي فتح مصر كان من اليمن جنوب الجزيرة العربية،
ابن البطريك البيزنطي الغارق في الترف هزمه العربي اليمني الذي يرفل فيشظف العيش والتقشف والحرمان.
والشيء بالشيء يذكر، المسلمون بالأندلس كانوا قد بلغوا من حياة الترف والتنعم وما تخلفه في النفوس من الدعة وضعف الهمة
وغياب الأهداف العليا لمشروعهم الكبير الذي أسسه رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه،
فأحالوا أوتاده إلى كثبان من الرمال المتحركة التي كان من السهل القضاء عليها.
وللحديث بقية إن شاء الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق